عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربى عنبتاوي - فلسطين

الخامدون


ظل يهاتفها من نقاله ليتأكد من وصولها سالمة. وحين داست عتبة بيت عائلتها اطمأن واستكان قلقه، فطريقها محفوف بالإذلال والخطر. أما هو، فمن صالة العرض إلى بيته القريب، سير في طرقات مدينته المركزية، وصفاء ذهني يسنح له التفكير في مستقبلهما معا، كصديق وصديقة تربطهما عاطفة قوية، وتوافق فكري، وهموم مشتركة ووطن صاخب بالأحداث.

كان على الطراز الكوبي: شعره جيفاري، وقبعته كاستروية، وسيجاره من النوع الثقيل، على عنقه وشاح فلسطيني أحمر وفي يده دفتر المحاضرات. أحبته وهو يناقش أستاذ السياسية. أحبها وهي تناقش أستاذ الفلسفة. بهرته ملامحها الدافئة: خليط امتزاج الشرق بالغرب، شده انضباطها وحبها للنظام. وأحبت فيه احترامه لنفسه.

بدأت القصة حين التقت الأعين أكثر من مرة، ودارت الدردشات العفوية، وصارحها فجأة دون مقدمات بحبه لها فصمتت، ثم ابتسمت وقالت: "أعلم."

وبعد سنة من التعارف أصبحا ثنائيا لا يفترق. هو اعتاد أن ينتظرها عند قاعة المحاضرات، وهي تنتظره عند مقهى الجامعة. عند الزاوية أمام منظر الهضاب الخضراء كانا يجلسان ويتحدثان، ويطلبان من النادل دوما وضع أغنية فيروزية أحباها بشدة.

وعند الرابعة يفترقان: هو لرؤية أصدقائه أو حضور ندوة ثقافية ما، وهي إلى البيت. وحين يتحدثان في مقهى الجامعة كانت تخبره أنها تكره العودة، وأنها تتمنى أن تكون جمل محامل لتقتلع مدينتها الحزينة من جذور القهر وتغرسها في مكان آخر، أجمل وأطهر.

كانت تراها المدينة الفاضلة. تحب أسوارها وحجارتها. تعشق رؤية القباب والقناطر وأكل الكعك بالسمسم المعبق برائحة الأزقة القديمة. كما يأخذها منظر القبة الذهبية المشّعة بعيدا.

هو كان يحدثها عن مدى كرهه للحديث عن السياسة، فمع انه خلق يتنفسها، إلا أنه يثور حين تدخل الحب. كان دائما يقول لها:

"حين تقتحم السياسة عالم الحب ينهار، وحين نكره أنفسنا تكون السياسة قد هزمتنا."

كانت تهدأ لحظات بعد اتفاقهما ألا يتحدثا لدقائق عن السياسة، لتعود ثائرة وتقول له لائمة:

"أنت تتبنى الفكر الثوري على الظلم وأنا أراه يوميا، فكيف تريدني أن انسلخ عن سلوك يذلني ويهين كياني كإنسانة؟"

صمت هو، وتذكرت خلال صمته البارحة وكل عودة لها أنها تتمنى ألا تعود. تتمنى أن تكون مدينتها المعزولة كابوسا ستفيق منه يوما، فتجدها محملة على أجنحة السماء، يكللها غار السكينة.

لطالما جادلته وناقشت أساتذتها عن مدينتها التي تقترب من مشارف الخنوع. كانت تتذمر من سياسة المحتلّ المنتصر بدهاء على إرادة الإنسان في سعيه نحو الكرامة و الحرية، فيبيت مسجونا داخل ملجأ المكان، تتمحور حياته حول الحفاظ على الإقامة وتقبل أشكال الذل كافة، وإقحام شرائع المحتل المبتذلة نهج حياته الخاصة به، من أجل أن تبقى الحياة في مدينته هادئة حتى الكآبة. فغاب البحر فيها كما غاب في بيروت غادة السمان.
قالت له يوما:

"أهل مدينتي خانعون."

قاطعها:

"كلا، هم صامدون."
قالت:

"وهل الصمود باعتياد الذلّ والعنصرية والمهانة؟"

قال رافعا نبرة صوته:

"ما البديل لهم؟ شكل دولة تلملم أشلاءها ما لبثت أن خلقت لتموت، أم دول تربطها معنا لغة ودين مشترك كانت فعليا قد رفعت أيديها عنا منذ النكبة، وتدّعي الإخلاص لقضيتنا إلى اليوم؟ ليس أمامهم خيار سوى البقاء. مدينتك ومدينتنا زهرة. هم يشتهون قطفها. ولكنهم مخطئون، فالعروبة تصرخ أينما اتجهوا. حتى لو نبشوا في أعماق الأرض، لن يجدوا سلامهم فيها."

أخذ نفسا من سيجارته ورشفة من قهوته وأكمل:

"وجدت حلا وسطا لوصفهم: الخامدون."

قالت:

"ليس في الكلمة فرق كبير."

قال:

"الخانعون والصامدون امزجيهما."

ضحكت وقالت:

"لطالما مزجت الحليب بالشاي."

ابتسم وقال:

"أتمنى أن أكون جمل محامل لأحتفظ بك لي بعيدا عن حقارة السياسة وذل المعابر وهشاشة الجدران البشعة."

غادرا المقهى، وفي الطريق اشترى لها باقة زنبق ابيض. أمسك يدها وقال:

"لم يخلق الزنبق الأسود إلا في الأدب، فلا تقحميه بيننا."

مرت أشهر والاتفاقات المبرمة بينهما تفشل كلما سألها عن طريق عودتها، وكثيرا ما وبّخ نفسه لسؤاله، إلا انه لا يستطيع إلا الاطمئنان عليها، فهي رفيقة دربه ونصفه الآخر، وحان اليوم لأن يربطه بها شيء ما، يكون أمنع من ترّهات الواقع.

قال لها ذات يوم بارد إنه آن الوقت ليرتبطا رسميا.

قالت له: "لماذا العجلة بقي لنا سنة أخيرة فلننتظرها."

قال: "لا الآن وتحت المطر، أخاف أن ..."

سألت: "مم الخوف؟"

أجاب: "الخوف من كل ما حولنا. من سياسة الأمر الواقع. من دناءة القوي حين يستبد بالضعيف. من حاجز قد يخلق بيني وبينك فيزيد حواجز مدننا واحدا آخر. من جدار متبجح آخر. من الخامدين. من الطبقية. من الأنانية. من، ومن ..."

هزّته من كتفه وهي تبتسم: "ماذا بك؟ أصبحت مثلي تقحم حبنا بالسياسة."

قال: "هيا بنا. هل يرضيك خاتم فضي، أم فالصو؟"

ضحكت: "سأساير جنونك، اشتر لي ما شئت."

سارا تحت مظلته السوداء وسيول المطر تنهمر من فوقهما. دخلا محل مجوهرات، أشترى لها خاتم ذهب أبيض وله آخر فضي. وداخل المحل البّراق وضعه في خنصر يدها اليمنى، وفعلت هي كذلك. قبل يدها وطلب منها أن تنسى طريق العودة، وتفكر فقط بهما.

انفصلت يداهما فقط حين ركبت الحافلة في طريقها إلى المعبر. راقبته من زجاج النافذة يسير تحت المطر . قالت في نفسها: "أحبه."

مرت عبر الحاجز الحدودي. وقفت بين صفوف الناس المنتظرين. طال انتظارها وهي ما تزال على الباب الحديدي رقم واحد. توترت. غضبت. قالت في نفسها: "أوقاتنا ليس لها قيمة، كيف لا وقد ارتضينا إضاعة وقتنا عند معابر الذل. أخذت تفكر وتحلل. فجأة برق في عينيها إشعاع. كان الخاتم ذا الذهب الأبيض. تأملته. عاد الهدوء إلى أعصابها المتوترة رويدا رويدا، وغابت في عالم آخر.

نسيت الحاجز، والجدار، والطريق الطويلة إلى أن وصلت منزلها. حينها تحسبت لحرب ستندلع إن لم تزل الخاتم. سحبته من خنصرها وألقته داخل حقيبتها. دخلت عتبة البيت وفي جعبتها كلام لا تعرف من أين ستبدأه.

تناولت وجبتها المكونة من حساء خضراوات وقطعة دجاج. لم يكن في غرفة الجلوس إلا هي وأمها. استغلت فرصة ابتسامة كانت ترتسم على شفاه والدتها، اقتحمتها مرة واحدة، أفرغت كل مشاعرها وأحاسيسها وخططها ومستقبلها دفعة واحدة، دون مقدمات. لا تعرف من أين جاءتها القوة، ولكن في النهاية أصبحت صفحة مفتوحة، شجرة عارية، وعلى ملامح أمها اندهاش.

ساد الصمت لحظات، ثم تعالت نبرة صوت والدتها:

"ألم تعدينا بإنهاء العلاقة معه؟ ألم نتفق معك بأن هذا الشخص لا يناسبك؟ هو في دنيا، وأنت في دنيا ..."

قاطعتها:

"أمي إنه من وطننا. يسكن على بعد ساعة منا. ماذا تقولين؟"

احتدت أمها وقالت دفعة واحدة:

"أنت تعلمين أن الوصول إلى مدينته، أصبح سفرا لبلد آخر، و كل منكما يحمل بطاقة مكان مختلفة. ستتذوقان عذابات الدنيا كلها، ثم هل تخبرينني أين ستستقرون؟ وهل ستفرطين بمدينتك وإقامتك؟ وقبل كل ذلك هل سيقدر أن يأتي مع عائلته إلى هنا؟ هل ستلتقيان داخل مدينتك يوما؟ هل سيزورنا كل أسبوع مثلا ؟ هل ستسكنان قريبا منا؟"

أخذت الأم نفسا وقالت:

"حبكما مستحيل."

قالت هي:

"اعترفي أن المحتلّ جعلنا نحب وفق مصالحنا، ونكره وفق مصالحنا."

تجاهلت الأم كلامها قائلة:

"كلامي وكلام أبيك واضح. الموضوع منته. حاولي أن تنسيه، كما تنسى كثيرات غيرك، أم نسيت قصة رنا وعبير؟"

أنهكها الاستماع لوالدتها. لم تفعل شيئا. لم تناقش، بل حاولت أن تنام على سريرها، ولكن التفكير أخذ ينهش دماغها. بقيت أرقة ولم تنم.

في أسبوع آخر، التقيا مجددا: هو والابتسامة على وجهه، وهي بوجه صامت بلا تعابير. جلسا على طاولتهما المفضلة، ومن أمامهما الوديان الخضراء. طلب من
النادل وضع أغنيتهما المفضلة، استأذنته باختيار أغنية فيروزية جديدة.

اندهش من اختيارها، ومن خلو خنصرها من أي خاتم. سألها:

"هل حدثت أهلك؟"

أجابت وفي عينها قطرة على وشك أن تتدلى من جفنها السفلي: "نعم."

سألها: "ها، ماذا حدث؟"

لم تجب. ملأ المكان لحن وصوت حزينان.

قال: "لماذا اخترت الحزن؟ هل ينقصنا؟"

قالت: "لطالما آمنا بالحب الأفلاطونى."

سأل: "ماذا تعنين؟"

ردت: "ألم تهدني يوما قصة روميو وجولييت؟"

أجاب وكأنه قد تكهن بجوهر الكلام:

"بلى، ولكن ماذا تقصدين؟ الأدب شيء والواقع شيء آخر. لا أحب أن اجعل حياتي تنحى إلى أسطورة أدبية، إن كنت تقصدين علاقتنا."

أكمل متهكما:

"بعد مشكلة الحب والسياسة، دخلنا عالم الحب والفلسفة، أو الحب والأدب ربّما."

قالت: "لا، إنه الحب والسياسة."

ثم أكملت:

"سأعترف بأنني استخففت بيني وبين نفسي من تعذر اكتمال حب قيس بليلى وآخرين، وكنت مخطئة."

ظلاّ صامتين، وبخار فنجاني القهوة يشكل ضبابة بينهما، وكلمات الأغنية تتماهى مع أجواء المكان والنفوس.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2006     A ربى عنبتاوي     C 0 تعليقات