عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. سهام علي السرور - الأردن

محاضرة


فتح باب قاعة المحاضرة الخلفي بتلصص يشبه قط يراقب أهل بيت حول وليمة، أعاد إغلاق الباب بهدوء، ليعاود فتحه ثانية، تظاهرت بعدم معرفتي بما يحدث، وأبديت انشغالي ببعض الأوراق المبعثرة على المنصة أمامي وأنا أتابع كلامي في موضوع المحاضرة، دخل خالد وجلس في أقرب مقعد إلى الباب، لم أشأ إحراجه، فلم أسأله عن سبب تأخره، ولكن بدت عليه علامات التعب كمن كان يحاذي ناقة له في سباق للهجن.

تذكرت أنه لم يحضر المحاضرة منذ أسبوعين، ونظرت إلى ساعة الهاتف وإذ بالمحاضرة تشارف على الانتهاء، تابعت كلامي وذكّرت الجميع بموعد الاختبار بعد أيام، ثم رفعت صوتي بعد أن قرّبت قائمة الأسماء من عينيّ وبدأت أقرأ أسماء الطلاب بروية، ترافق كل اسم صوت من هنا أو هناك "نعم دكتورة"، "حاضر دكتورة"، "نعم موجود".

لم يكن خالد طالبا قد سجل المساق في برنامجه، ولكنه حضر المحاضرة مرة على وجه الخطأ في بداية الفصل، حيث ظن أنها محاضرته التي يحضرها في الساعة الثانية ناسيا أن الساعة قاربت على الرابعة، فخجل من الخروج في بداية المحاضرة، وبقي إلى نهايتها، ثم طلب مني أن يحضر كل يوم، فوافقت ومنذ ذلك اليوم التزم بالحضور، لا أعلم ما أعجبه في المحاضرة، فوقتها متأخر، ومواضيعها ليس لها علاقة بتخصصه.

أكثر ما كان يعجبني فيه حبه للعلم فكلما نظرت إليه وجدته يكتب ما أقول، فلم يكن كما تداول الطلاب من أنه طالب يحب المشاكل، ويشارك في كل عنف جامعي، بل كان يشارك زملائه في حل بعض الأسئلة في المحاضرة، ويواظب على الحضور، وكان الوحيد الذي يحب تكراري بعض الجُمل كـ "نحن أسرة"، "يا أبنائي"؛ "هل أنت معنا يا بُني؟"؛ "تفضلي يا بُنيتي".

بعد أن أنهيت الأسماء ابتسمت وبدأ الطلاب يخرجون مغادرين فالشمس قاربت على المغيب، ولابد من الإسراع قبل أن تفوتهم مواعيد الحافلات، نظرت إلى آخر القاعة وإذ بخالد لازال جالسا، رفعت صوتي قائلة: "خالد تعال لو سمحت".

نهض ممسكا دفتره بيده، واقترب متثاقلا ناظرا إلى الأرض، اقترب من المنصة.

"نعم دكتورة".

قلت له مازحة: "لقد تغيبت عن ست محاضرات، غيابك عن محاضرة قادمة يعني حرمانك من المادة".

ولكنه ابتسم بحزن وهو يستمر بالنظر إلى الأرض، ثم وجّه نظره نحو السماء مخفيا بعض دموعه، وهَمّ بالخروج، فبادرته قائلة: "ما بك يا خالد؟"

وقف صامتا، فظننته لم يسمع، فكررتها: "خالد ما بك يا بُني؟"

"دكتورة... دكتورة..."

التفت إليّ وفي وجهه حزن عميق، ثم عاود النظر إلى الأرض مواصلا صمته ومخفيا الكثير من الكلام، خنقت العبرة حروفه:

"وداعا دكتورة"

وغادر القاعة مسرعا، فعدت ببصري إلى المنصة أمامي. لملمت أوراقي، ثم حملت حقيبتي، وخرجت، وفي عيني بعض من دموع خالد.

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013     A سهام السرور     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • دكتورة سهام...
    قد شدني العنوان بحكم عملي محاضرا في الجامعة، والنص لم يخيب أملي بأن حمل موقفاً انسانياً نواجهه كل فصل مع طلابنا.

    دكتورة نصك حمل همنا نحن الأكاديميون؛ ففي كل فصل من السنة الدراسية نحكم بإنسانيتنا أكثر مما نحكم بأكاديميتنا.

    أمتعتني بقصتك القصيرة. شكرا


    • شكرًا أ.محمد التميمي ، وبارك الله بك، جميل أن يشعر الأستاذ بهموم طلابه، وجميل أكثر أن نقترب من أنفسهم، فصورة الأستاذ الدكتاتور الذي يرسم لنفسه صورة الآتي من كوكب آخر، والقابع في قصره العاجي أكرهها، حيث أن قدوتنا هو أستاذنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعامل الجميع بتواضع وبإنسانية ولا يعامل أحدًا بفوقية.
      أكرر شكري لك...

في العدد نفسه

تهنئة بالسنة الجديدة 2014

كلمة العدد 91: ثلاث سنوات على محاولات التغيير في العالم العربي

العلوم الاجتماعية وتشكيل العقل النقدي

تكامل العلوم الإنسانية والتقنية

رؤيا القص/قصّ الفكرة