ظلال عدنان - الأردن
مذكرات زوجة مسافر
ودّعتْه وبسمتها ترافقه في رحلته تتمنى له سفرا موفقا وإجازة ممتعة كان ينتظرها منذ سنوات. لم تذرف دمعة على فراقه؛ فهي كانت تشجعه على هذا السفر تجديدا لنفسيته وإنعاشا لروحه المتعبة وهي لا تبتغي له غير السعادة والسكينة.
أيام بعد ذاك السفر وذاك الفراق الاختياري المؤقت الذي لن يطول أكثر من شهرين، أيام، وتعتلج في نفسها الهواجس والأفكار، وبدأت تُحسّ طعم الفراق المر، وتستشعر ألوان الوحدة والغربة الشعورية والنفسية عمن حولها، ولفّها اضطراب وقلق، وأنّى للروح راحة في غياب المحبوب والسكن.
مع غروب شمس كل يوم كان الشفق يرسم لها خيوط قصة في أنحاء المعمورة: آه ما أقسى فراقك! أهكذا يحرقني فيلهمني ويزيدني نقاء، وإحساسا وشفافية، قصص تتوارد على خاطري ليست من نسج خيالي في أحداثها، لكن تفاصيلها رسمتها في عقلي الذي لا يفتأ يبحث عن جراح الناس وهمومهم في أرضنا التي لا تكف عن الدوران.
لو تعلم يا غالي كم تعلمت في سفرك هذا! هناك في زاوية من هذه الأرض رأيتها كسيرة تنحني حول نفسها تخفي بين ضلوعها أطفالها وهمها وحزنها ولوعتها، قد رحل الزوج الصديق والأب الحنون، طواه الثرى وابتلعه الموت فتلاشى في غياهب الفقد، واسودت الدنيا وأظلمت، شعرت بها تنام وحيدة، قد يعتريها الخوف وكانت تستمد شجاعتها منه، يلاحقها البرد ولا يدفؤها غطاؤها فأين هو عنها؟ وتنهمر دمعاتها فلا تمتد أنامله تسمح دمعاتها برقة المحب، تضطرب بين عواصف الحياة كورقة خريف تلاقفتها زمجرات الرياح فلا تجد صدره الحنون يحتضنها يسكن اضطرابها. وتتحشرج الكلمات والمشاعر والأفكار ولكن لمن تبوح ولمن تفضي أسرارها وآمالها وضحكاتها.
مائدتها خاوية منه وأطفالها يسائلونها كل يوم متى يعود أبي؟ كما كان يسائلني أطفالنا، لكنني كنت أملك جوابا مؤكدا موثوقا أنك عائد بعد أيام. أقصِّر لهم المدة كي لا يستطيلوا غيابك. ورغم كل ذاك تبادرني طفلتي بالبكاء وعبارات الاشتياق وأنك أوغلت في الغياب والبعد عنا، فأعود لتلك الأم بم ستقصر لهم مدة غياب أبيهم؟ وكم مرة ستقصّ الأيام وتنتقص السنوات؟ حتى يغزوا الشيب رؤوس أطفالها؟ أم حتى يلاقوه حقا في الدار الآخرة؟
في غيابك قدّرت تلك الزوجة التي يُقدّر لها أن تُحرم من قضاء بقية حياتها مع زوجها فيغادرها موتا معطرا بأنفاسه، تجدها ترسم ابتسامة خجلى كلما مرّ ذكره أماها في جمع من الناس وكأنها عروس ليلة زفافها تنتظر فارسها وحلمها، وتبقى تنتظره كل ليلة حتى تتوج شعرها بياضا وتبيّض عيناها من الحزن فتلاقيه كما تركها لم تمسسها يد من بعده.
قدّرت تلك الزوجة حين ارتضت أن تحفظ أمانة أودعها زوجها عندها ومات، أطفالهم احتوتهم وتحملت آلام تربيتهم وتعليمهم وتنشئتهم والإنفاق عليهم شامخة كالطود في دنيا تنهش فيها الذئاب من هي في مثل حالها.
في غيابك علمت أنه صعب بل وصعب جدا أن أكون مسؤولة وحدي عن أطفالي. ولو تعلم ما نهشني من قلق وأنا أترقب عودتهم من مدارسهم أقف على الشرفة أنتظر قدومهم. أدعو ربي أن يسلمهم ويحفظهم ويحميهم من كل شر وأذى.
كان سفرك هذا فرصة لمراجعة مع الذات ومحاسبة للنفس وتلمس لتقصيري معك وبحقك وتذكر فضائلك ومكارمك وحسن أخلاقك معي التي كنت أحيانا أقابلها باعتياد وروتين وكأنه واجب مفروض وحق منصوص عليه ولا بد لك من تأديته تجاهي، لكن غيابك حملني في قارب الشكر أن منحني الخالق زوجا كريم الطباع مثلك سمحا سهلا لينا فكنت نعمة حياتي ترسم لي دروب السعادة وتنثر لي فيها كل ما أشتهي، ولم تكن نقمة ودمارا كما يحيل أزواج كثر حياة زوجاتهم صراع وشقاء ودموع وسواد وحياة بعض موت خير منها.
هي كلمات تدفقت في غيابك. أحببت أن أسطرها لك كي لا أنساها أنا فطبع النساء النسيان. وكي تقرأها أنت لتدرك عظمة وجودك في حياتنا فتهون أمامك صعاب الحياة ومكدراتها.
أستل لك من أمامي خيطا من هذا الشفق المحمر لأحيط به وردة بيضاء أرسلها لك مع نسائم أرضنا المشتاقة لأنفاسك.
زوجتك
◄ ظلال عدنان
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ