عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هيام ضمرة - الأردن

ذاكرة الصّد


هيام ضمرةمِنْ قاع ذاكرة البدايات، حينَ بدأتْ معالم النضوج تختبر وجودها على قارعة الخلجات، كان ذلك في زمن غارق في القدم، صار مجرد ذاكرة تترنح على حافة منحدر، حملت برودة الزمن في أعطافها، تطوف اليوم ذاكرتها أمام ناظريّ دونما سبب وجيه، فهل تراكَ تذكُرُ ما أذكر؟ أتذكر معي تلك اللمحات؟ أم تراك أنتَ الآخر ألقيتها بعيدا إلى أنْ اعتلاها الموج وسحبها إلى القيعان البعيدة فصارت نسيا منسيا؟ أحقا يمكنك أنْ تنسى حكاية صدود أثارت حفيظتك، وملأتك مع الحزن مهانة أمام نفسك دون قصد من الطرف الآخر؟

كنا يومها نخترق جدار الطفولة إلى النضوج، لا تجارب تحمينا، ولا خبرة تمنحنا أمانها، حينها كنا نتلمس خطواتنا على حذر، نخشى ارتكاب ما يولجنا حقل الندامة، ونحن نحط كطائر غشيم على حواف الأشياء، نعي كل شيء حولنا وفضولنا لا يعدم وسيلة البحث والتقصي، نحلم بالتحليق في عالم مِنْ صنعنا، والأحلام هي صنعة نتقنها، إنما مِنْ طبيعة الأحداث أنها تموت فينا، أو بالأحرى تذوب في قيعان الذاكرة، لتعود إليها انتعاشة الحياة في زمن يصبح للخطى فيها وقع الوهن، هي هكذا الذاكرة في زمنها المتأخر تجري فيها حياة استنهاض من صنف ممتع، تُخرج مِنْ قاعها أمواتها لتطفو مجرد جثث ميتة أو شبه ميتة، فقط لمجرد الاسترجاع لا غير.

لعلكَ ما زلتَ تذكرني، ويمرُ على شريط ذاكرتك تلك الملامح التي أسرتك يوما ورسمتَ لها وجودا على خارطة أحلامك، وتذكر صدودي بذاك الصمت، والصمت أدهى من الكلام، رغم كونك تجيد لغة العيون والكلام إلا أنك كنت تتجمد أمامي كالخاشع، فتهرب منك لغاتك كلها مع تراجمها، ويهرب منك الصوت ليذوي في محرابه الهمس، تتصلب طويلا أمام ملامحي، يتوقف فيك الزمن، تقف محملقا يعتريك خشوع عجيب، وكان لا بُدَّ للأمنيات أنْ تُحلق بك لتكون لها مالكا وحيدا يحوز على ما اعتبرته كنزك الأثير، وربما الليل كان كثيرا ما يسامرك بتلك الأماني، تُخضِّلكَ، تزين جراح صبرك، تصقل رجولتك، و أنت تعدها بانتشاءات النوال.

أما أنا فأتذكركَ؛ وقد كنتَ أول بوادر الحركة في نابضي البكر، وكنتَ أول الخوف على خطواتي الأولى. بين جمعنا العائلي تبادلنا النظرات السريعة، وفشلت في تبادلها الحوارات الصامتة، لم تستطع عيناي احتمال جرأة عينيك، فأوقفت من ناحيتي كل الاتصالات، أزحت الوجه بكل الاتجاهات إلا باتجاه عينيك. عيناك بكل جمالها أرعبتاني وحركتا في داخلي جيوشي، تهربت من الانفراد بها أو بك، ووجهت حديثي جماعيا حتى لا تلتقط إرسالا هاربا رغم كل احتياطاتي.

نعم خفتك، وعذري أني أخاف، والخوف مذ استعمرني يتخلل كل أجزائي، عشت أسيرته ردحا طويلا من عمري، فكيف أقوى على عيون لجوعها تلتهمني، وكيف أتجاوب لنداءات لشغفها تربكني وتثير حفيظتي، فكان محتملا أنْ أهرب، وأهرِّبك مِنْ داخلي، وكان حريا بي أنْ أهرب أيضا مِنْ كل الطرقات التي تحتمل وجودك، رغم إحساسي بخطواتك في أعقابي، ولهاثك الراعف يفزعني. خفتك مثلما خفت عينيك، أقلقتني معها عيون كثر تظل ترمقني كيفما تحركت تترصد خطواتي، تربكني. ضريبة الجمال أن يظل محورا جاذبا قويا لنظرات المتبلين بأحلامهم، ولأني حسبتك داخل غابة معجباتك لاهيا أرعن، وقد تزرع خطواتي بالألم، فقد أطبقت على أنفاس الوليد في قلبي، دون حتى أن أدرك أسبابا تبرر فعلتي. تملكني عنف تجاه نفسي، وتجاه أحاسيسي. دون تفكير كان قراري جارفا، قطعيا، لا مجال فيه للتراجع.

هل تدرك لماذا أنا الآن أسترجعك ذاكرة تستحق تسجيلها؟ الآن أذكرك على ذات هيئتك، وكنتَ الشاب الأوسم والأثرى، والأكثر جاذبية، تلاحقك الفتيات بابتساماتهن ترغيبا للمبادرة، ويفيض انتعاشك ونظراتهن تمنحك صك القبول، فتلبي نداءاتهن مستمتعا بالمغامرة، خفتك وعيني تلتقط أوراقك الغرامية وهي تنزلق من أناملك إلى أناملهن كعملية لصوصية تتحدى الممنوعات، ورغم أن وجهك احتل كل أشيائي، وبت أرى الدنيا من خلال ملامحك وتقاسيمها الجامعة خليطا من الأوروبية والبدوية، إلا أني عزمت على اغتيال مشاعري في أرضها وخنق الإحساس الصامت داخلي. لم أدر حقيقة السبب وراء هروبي منك، أو لماذا قطعتُ بيننا أحاديث الصمت، كان الحب وقتها رحلة محفوفة بالمخاطر تتعكر نهاياتها على مداهمة الظروف، فلماذا أوقد نيرانه وأسوقه على موج يتهيأ دوما للمفاجآت؟

لم تكن غريبا عن عالمي، وأسرتانا تربطهما علاقات طيبة، كنا حينها صغارا نركض وراء أحلامنا، نرسم أول أحرفنا على تراب زمن يتسارع فيه نضوجنا، ورغم ذلك هربتْ وبعكس طريقك سِرتْ، تقدمتك دون أنْ ألتفت خلفي، لم أمنحك لحظة انفراد واحدة، تحقيق ذاتي علميا كان هدفا أساسيا، سفرك للخارج أنقذ خططي وغيابك الطويل ساعد على شفائي السريع، لم يتجرح القلب على الفراق، كنتَ كطير يمرُ فوق أفنان حلم في رحلة طارئة، فسرعان ما مرَّتْ ممسحة الذكرى وأزالت كل أثر.

تسابقت الخطوات في إقبالها على حياة يحرك فصولها قدر عابث، لأجدني زوجة في زواج تقليدي لا إثارة فيه، ولأجدني قدر لإنسان فاجأه أنْ ينجح في نوالي، لأتحول سجينة غيرته، ومع أول صدمات خيبتي رضخت لواقع قدري، كل ذلك جرى بلا حسابات، ودونما توجيهات، كنتُ مدفوعة إليه بإرادة عجيبة، لم يكن بيدي غير مواصلة الطريق على حلوها ومرها، خيبة حصدتها إرهاقا متعبا، لحياة سلحفاتية معفرة بوجع الاصطبار، كل أمالي سقطت على صخرة الممنوعات والمحظورات، جمدتني عند حدود المسؤوليات الخدماتية.

كنتُ في المطار أنهي معاملات سفري حين أخذتني التفاتة مباغتة باتجاه جموع مِنَ الناس، لألتقط مشهدا ليد شاب تلكز كتف زميله الذي كنته أنت وهي تثير انتباهه نحو جمال أنثوي غالب كنته أنا، نظرت نحوي مستطلعا وحين تلاقت نظراتنا ابتسمنا لبعضنا، كان حريا بنا أن نبتسم حيث القدر أراد لنا اللقاء وكلانا يهم بالسفر باتجاه يعاكس اتجاه الآخر، تركت دورك بين الصفوف وأقبلت مُسَّلِما، تركتَ يدي تستريح في كفك فعاجلتُ سحبها، جلسنا يومها معا نتحدث في كل شيء إلا ما يتعلق بنا، فيما صديقك يراقب عنْ بُعد مغتاظا، كنتَ حريصا أنْ توجه سؤالك إليّ وتعرف رده على الفور حتى يهدأ ما في نفسك، نظراتك لحظتها جمعت وله الدنيا وجبروتها وأنت تقول بصوت محتد:

"أمر واحد يجب أن أعرفه منك الآن. هل أنت سعيدة؟ وهل زوجك يحسن معاملتك؟"

كانت قبضتك تتكور بقوة وكأنك تلوح منذرا، فأدركت ما في نفسك، وقلت وعيوني تتلألأ فرحا أني سعيدة للغاية وأنَّ هذه الحياة هي أقصى ما تمنيته، وأنَّ شعوري الآن عارم وأنا أتوجه لعالم أحلامي الذي أحب. شعرتُ بانكفاء نفسك، وبغمامة الحزن في عيونك، ورغم ذلك لم تغادرني إلا حين علا صوت النداء لموعد التحاقي بطائرتي وأنا لا أدري إن كانت طائرتك قد فاتتك أم لا، فقد لاحظت عنْ بُعْد قلق زميلك قبل أنْ يختفي.

ثماني سنوات تعودتُ خطوي فيها، ثماني سنوات قبل أنْ تنزاح الستارة مصادفة عن الفصل الغائب، لتنكشف أمامي حقيقة مشاعرك نحوي، لأعرف أنه حين وصلك خبر عقد قراني تصدعت جدران عقلك، وانهار سد احتمالك المنيع، وعاجلت قريبي بلكمة أطاحت وجهه وكادت أنْ تفجر ملامحه، لم تشفع له صداقتكما المميزة، ذنبه الكبير أنه لم يطلعك على الأمر قبل حدوثه لتمنعه بالسلاح إذا اقتضى الأمر، بكيتَ كطفل بين يديه، واعترفتَ بتوهج مشاعرك نحوي التي احتبستها تصبرا، وأنَّ تخوفك الاقتراب أكثر من حدود المسموح هو ما جعلك ترابط على قارعة الانتظار، جعلك تتابع الأمر عن بعد إلى أن ْيتم لك تخرجك الجامعي لتغدو مهندسا، وتكون لائقا لعروس هي قبلة الأنظار والآمال.

عرفتُ أمر هذه الأحداث مصادفة، فاعتراني حزن عميق، وأدركتُ كم كنتُ قاسية نحوك. لكني كذلك أدركت أنَّ الأقدار لم تكن مهيأة لأن تمنحني أو تمنحك غير ما قدره الله، وقدر الله هو الأصح والأشمل، وحريا بي الاعتراف أنَّ إيماني المطلق بمشيئة الله وسلطة الأقدار يجعلني لا أبدي ندما على شيء استشعرته في حينه واتخذت بناء عليه مواقفي، فالحياة تبدو كملعب يتحرك فيه فريقين لا تدري الكرة لأي جانب ستسجل أهدافها، الحظ والمصادفات هي شريكة لمهنية وإبداع اللاعبين وهي وحدها المتحكمة بالنتائج، وأقدارنا لسنا مهيأين تماما لسوقها في الطريق الذي نأمل، لأن للأقدار سلطة لا منافس عليها، وخططنا لا تغافل الحياة وإنما تحاول تشذيبها تمهيدا لاكتسابها، الإنسان القوي فقط ذاك القادر على تطويع نفسه مع سير أقداره، وتطويع الحياة مع آماله.

كالعادة كان موعدا مِنْ مواعيد الصدف النادرة التي كان القدر يلعبها باقتدار، اجتمعنا في دعوة على العشاء، كلٌ منا بصحبة أسرته، وكلٌ منا حرص ألا تلتقي العيون، وألا نتبادل الحديث المباشر، وحين كانت تأخذني نشوة إبداء الرأي حول موضوع ما، كنت تطأطئ الرأس مصغيا السمع بتركيز، وحين يأتيك حماسك للموضوع تتحدث لتؤكد على ما أبديته أنا من رأي بشكل غير مباشر.

فوجئتُ كحال مَنْ تباغته المفاجأة، حين همست قريبتي في أذني بمكر، ألا تلاحظين وجه الشبه بينك وبين زوجته؟ كأنه أرادها عنك تعويضا، حتى ابنته حملَّها اسما أحرفه مقلوبة عن أحرف اسمك. بقدر ما فاجأتني المعلومة، فاجأني أنَّ قصتك ليست سرا كما اعتقدت، وأنَّ الماضي ما زال معششا داخلك، وأنك تبحث في التجاهل عن انتقام لذلك الجرح القديم، فهل كان بيدي حينها أنْ أجنبك هذا النزف؟

D 1 أيلول (سبتمبر) 2010     A هيام ضمرة     C 0 تعليقات