إصدارات جديدة: محمد دلبح
مختارات: مقتطف من كتاب محمد دلبح
البرجوازية الفلسطينية في الخليج
صدر للصحفي والكاتب الفلسطيني، محمد سعيد دلبح، كتاب جديد عنوانه "ستون عاما من الخداع. حركة فتح: من مشروع الزعيم إلى مشروع التصفية". الناشر: دار الفارابي، بيروت- لبنان، آب (أغسطس) 2019. أدناه مقتطف من الكتاب.
= = =
تشكلت طبقة برجوازية جديدة في المجتمع الفلسطيني قوامها الفلسطينيون الذين تمكنوا من تحويل رؤوس أموال كافية للبدء بأعمال جديدة خارج فلسطين، وأولئك الذين تمكنوا من الإقامة في الخليج، ومن كان لهم دور في التطور الاقتصادي السريع الذي طرأ على البلدان العربية الرئيسية والنفطية منها.
هذه البرجوازية الفلسطينية الجديدة تتشابه مع نظيراتها الأوروبيات في القرن التاسع عشر ببعض السمات إلا أنها تختلف عنها في أمور كثيرة أهمها: أنها تفتقد للأرض والممتلكات العقارية والمصانع (إذ أنها في دول الخليج شريك للكفيل المحلي ومعظمهم ليس مستقلا) والأهم هو أنها تفتقد قاعدة أرضية- دولة لتعمل فيها. ونتيجة لذلك ترافق تأييدها العلني للنمط الغربي للتطور الرأسمالي والاستثمار الحر مع دعم العمل السياسي ذي الطبيعة الراديكالية أكثر مما كان سائدا لدى البرجوازية الأوروبية، وتحديدا لجهة مساندتها للكفاح المسلح وحرب الشعب رغم أن بعض أعضاء هذه الطبقة وبخاصة الذين شكلوا الإنتلجنسيا الجديدة في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين دعوا إلى التغيير الاجتماعي الجذري داخل المجتمع الفلسطيني وفي الوطن العربي أيضا، فإن أغلبيتهم قدمت دعمها تحديدا لحركة فتح التي أعلنت عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، والتي تركز على تحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية علمانية بديلا لإسرائيل تضم المسلمين والمسيحيين واليهود على حد سواء. وتتجنب أي التزام بالتغيير الاجتماعي أو تغيير نظام اقتصادي معين بدعوى تجنب نشوب صراعات داخل الحركة الوطنية.
وقد حصلت حركة فتح في بداياتها على دعم مالي وسياسي كبير من الأثرياء الفلسطينيين في الكويت الذين يمثلون البرجوازية الفلسطينية الجديدة، أمثال طلعت الغصين، هاني القدومي، عبد المحسن القطان وهاني أبو السعود. وقد تعزز توجه هذه البرجوازية في دعم حركة فتح للدخول في تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني يقود إلى إقامة دولة أو شبه دولة مع تزايد الخطر الذي شكله نشوء البرجوازيات المحلية في دول الخليج الذي أدى إلى توتر جديد في العلاقة بين هذه الطبقة والبلدان المضيفة وإلى القرار بإجراء تسوية سلمية للصراع العربي الصهيوني على الجبهة الفلسطينية.
ويذكر أن سياسة التسوية لم تكن تطرحها في السابق سوى بقايا الأرستقراطية الفلسطينية التي عاشت في الضفة الغربية وشرق الأردن.
في الكويت ومنطقة الخليج وفر وجود الشركات البريطانية في أوائل الخمسينات فرص عمل للفلسطينيين من أولئك الذين سبق أن عملوا مع حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين أو تعلموا في المدارس البريطانية في فترة الانتداب. ولعب أحد القادمين الأوائل إلى الكويت محسن القطان دورا رئيسيا في تطوير النظام التعليمي في الكويت، وارتبط بصلات حميمة مع عائلة الصباح الحاكمة وأبناء وبنات أهم العائلات التجارية نتيجة وضعه العلمي وأصبح فيما بعد ابنه عبد المحسن القطان (أبو هاني) نائب سكرتير وزير الأشغال العامة. وفي عام 1959 أسس شركة الهاني للمقاولات التي نفذت العديد من المشاريع الإنشائية مثل بناء فندق شيراتون ومجمع شركة الطيران الكويتية ومستودعات مياه ضخمة ومباني سكنية وشبكة الصرف الصحي في الكويت لتتسع أعمالها في نهاية الستينات بالحصول على عقود أشغال ضخمة في السعودية والأردن واستيراد مواد البناء والآليات والأجهزة، وليصبح عبد المحسن القطان أحد أبرز رموز هذه البرجوازية في الكويت والخليج التي واظبت على تقديم الدعم المالي لحركة فتح وعجلت بانطلاقتها. وفي عام 1968 وبسبب وضعه المالي المهم ودعمه الكبير لحركة فتح منذ أواخر الخمسينات جرى انتخابه رئيسا للمجلس الوطني الفلسطيني[1].
ولم يكن القطان استثناء في هذا المجال في الكويت، فقد وجد بعض الفلسطينيين عملا لهم مع العائلات التجارية الكويتية الكبيرة، لكنهم فيما بعد فضلوا العمل بشكل مستقل في مجال التعهدات والبناء والمواصلات والهندسة والعلاقات العامة والخدمات الاستشارية للمصانع الخاصة والحكومية، ولعبت مساهماتهم المالية والجالية الفلسطينية في الكويت بشكل عام المقدمة لـ "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية دورا حيويا في تمكين الحركة من النمو رغم الانتكاسات التي لحقت بحركة المقاومة في الأردن ولبنان في فترة السبعينيات.
أما هاني القدومي فكان من أوائل الفلسطينيين الذين وصلوا إلى الكويت في أعقاب نكبة عام 1948 وبسبب كونه متعلما ويجيد اللغة الإنجليزية فقد عينته الحكومة الكويتية مديرا لدائرة الجوازات والسفر والإقامة عام 1949، لكن الشيخ عبد الله المبارك الصباح نائب الأمير اختاره مديرا لمكتبه بعد سنوات حتى عام 1962 حين اختاره أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح مديرا لمكتبه. وقد جاءته الفرصة لكي يصبح من كبار الأثرياء عندما جاء ممثلون لشركة براون آند روت (Brown and Root) الأميركية العملاقة العاملة في مجال النفط إلى مكتبه لمقابلة أمير الكويت بغرض تقديم عرض لبناء أنبوب نفط هام في الكويت وطلبوا منه أن يرشح لهم أحد أبناء العائلات الكويتية المعروفة بنفوذها ليكون وكيلا لشركتهم في الكويت كي يتابع أعمالها لدى الجهات الرسمية.
وبعد أن رست المناقصة على الشركة الأميركية حصل على عمولته التي تقدر بالملايين ليقدم استقالته ليصبح وكيلا للشركة ولينطلق في عام 1965 ليصبح أحد أثرياء النفط الجدد وواحدا من كبار رجال الأعمال في الكويت خاصة في مجال استيراد الأدوية وغيرها من المعدات الطبية [2].
وفي قطر ارتبط التاجر المعروف عبدالله درويش وعائلته بعلاقات وثيقة مع عائلة آل ثاني الحاكمة ومع الرعايا البريطانيين في الدوحة. وتم تعيينه الوكيل الرئيسي للمشتريات لشركة نفط قطر التي تعتبر شركتا شل وبريتيش بتروليوم المساهمين الرئيسيين فيها كما تبوأ فيما بعد منصب المتعهد الحكومي الرسمي لجلب العمال ودخل في شراكة مع شركة المقاولات والتجارة (CAT) الكات التي أسسها المقاول اللبناني من أصل فلسطيني إميل البستاني وكانت تعمل في فلسطين بعقود كبيرة مع الجيش البريطاني أيام الانتداب وتوسعت فيما بعد لتشمل أنشطتها لبنان وسوريا والعراق ومشيخات الخليج وعدن (جنوب اليمن) التي كانت تحت الحماية البريطانية، في مجال بناء خطوط أنابيب النفط ومصافيه.
ولعب عبدالله درويش دورا في حصول الشركة على عقود من شركة نفط قطر والحكومة القطرية بلغت مئات الملايين من الدولارات مقابل عمولات بنسبة 25 في المئة. وجلبت الشركة في أواسط الخمسينيات نحو 600 موظف وعامل معظمهم مهندسين وحرفيين مهرة من الفلسطينيين. واصبح قطر إلى جانب الكويت والسعودية مصدرا خصبا للاستقطاب لحركة فتح في أواخر الخمسينيات وأوائل ستينيات القرن العشرين وبعد حرب 1967 أصبحت الدعامة الأساسية لحركة المقاومة الفلسطينية[3].
وفي لبنان برز المصرفي الفلسطيني يوسف بيدس (ابن الأديب والمربي الفلسطيني خليل بيدس) الذي أسس بنك إنترا عام 1951 وأصبح في منتصف عام 1965 أكبر مؤسسة مالية في لبنان حيث بلغت ممتلكاته مليار ليرة لبنانية أي نحو 325 مليون دولار. ويعتبر بيدس صاحب أول تبرعٍ فاق الألف ليرة لبنانية لحركة فتح في بداياتها.
واستطاع بيدس باستخدامه الثروة الفلسطينية التي بحوزته أن يمارس بمهارة فائقة سياسة هجومية تنافسية ليحقق البنك نجاحات متتالية وازدادت ممتلكاته العقارية والتجارية في العديد من المؤسسات الاقتصادية وامتد نشاطه إلى أوروبا والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وأفريقيا. ودخل في تجارة السلع الأساسية ومساعدة العديد من الشركات الفلسطينية في تأسيس أعمالها في المنطقة العربية وخاصة الخليج وكان يقدم الاستشارات للعائلات الحاكمة في الخليج وحكوماتها حول كيفية استثمار أموالهم في الخارج، وأوجد فرصا كبيرة نتيجة إعادة تدوير البترودولار وأصبح منافسا للبنوك متعددة الجنسيات في اوروبا وأميركا إلى حد انتزاع بعض أعمالها في الوطن العربي وذلك لمعرفته السوق المحلية وقدرته على إبراز موهبة إدارية فذة وفق الأسلوبين الشرقي والغربي[4].
وكان بنك إنترا في أوج النجاح. تجاوزت موازنته خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية، وأكبر بنك من بين 99 بنكا في لبنان، يستحوذ على 40% من مجمل ودائع القطاع المصرفي اللبناني. بلغتْ نسبة احتياطه، وقيمة موجوداته، 56% من النظام المصرفي اللبناني، يفوق ثاني أكبر مصرف في لبنان بمقدار 11 ضعفا. من الناحية السياسية، يقصد ثلث نواب المجلس النيابي «بنك إنترا» نهاية كل شهر ليقبضوا المال، وكان للبنك خمسة وزراء في مجلس الوزراء اللبناني.
ولكن لسوء الحظ كان هناك في المنطقة والغرب من يعارض بشدة تداخل الأعمال الفلسطينية مع الاقتصاد العربي، والاستفادة من عوائد النفط التي كانوا يسهمون في توزيعها بشكل مربح. فجرى التآمر على شركة الكات حيث توفي إميل البستاني بحادث تحطم طائرة عام 1962 قبيل ترشيحه لانتخابات الرئاسة اللبنانية، حيث ساد اعتقاد وسط الفلسطينيين أن وفاته لم تكن جراء حادث عابر بل كان نتيجة النجاح الهائل الذي حققه شخصيا وحققته شركته بواسطة توظيف الفلسطينيين وتوجيه مهاراتهم لمصلحة المنطقة ككل مما أثار منافسيه عربا وغربيين.
أما بنك إنترا الذي كان يقوم بدور الوسيط بين إمارات النفط العربية والأسواق المالية الغربية، فقد كان مستهدفا لإنهاء هذا الدور. وقد منحت سياسات بيدس في الاستثمار التي كانت تقوم على المجازفة بالودائع ورأسمال البنك الفرصة لمن كانوا يسعون إلى التخلص منه. ففي 15 أيلول/سبتمبر 1966 خلص تقرير «باركر» (الذي أعدّ بتكليف من مجلس إدارة إنترا) إلى أنّ «بنك إنترا» يواجه مشكلة سيولة مستعصية. كانت نسبة السّيولة 3,5% وهي نسبة متدنية، غير مسموح بها في أوروبا والولايات المتحدة. لاحظ التقرير أنّ سحوبات الزبائن قدْ أصبحت يوميّة، وحذّر أنّ هذه المعلومات كافية لإلحاق أكبر أذى بـ«إنترا»، إذا ما سُرِّبتْ إلى الرأي العام. ببساطة، شكّلتْ استثمارات «إنترا» الطويلة الأمد، التي يصعب تسييلها بسرعة، سبب بلوغه حافة الهاوية.
طلب يوسف بيدس من رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، شارل حلو، دعمَه لنيل قرض من مصرف لبنان، لمنع أزمة سيولة أصبحت متوقعة. ماطلَ رئيس الجمهورية، ورفضت الحكومة، وعمل مصرف لبنان على تشويه صورة «إنترا»، عبر الترويج أنّ البنك على حافة الإفلاس. بالتوازي، كانتْ النخبة الحاكمة، المعادية لبيدس، تبثّ إشاعات إفلاس «بنك إنترا» وتدعو المودعين إلى سحب ودائعهم. رغمَ أنّ الوثائق أظهرتْ البنك في حالة جيدة تنقصه فقط السّيولة الموقتة، أمّا الحكومة فلم ترفضْ إقراض «إنترا» فحسب لتلافي الانهيار، بل رفضتْ الاستماع لمحامي البنك.
منذ بداية الأزمة هدفتْ الحكومة إلى وضعَ يدها على إمبراطورية «إنترا»، ليس بهدف النفع العام، بل لتحقيق مصالح النخب الحاكمة بتقاسم هذه الإمبراطورية. لم تدّخرْ حكومة عبد الله اليافي (كذلك حكومة رشيد كرامي) جهدا لذلك، منْ الترهيب، إلى التزوير، إلى الاعتقالات. استخدمتْ مختلف الوسائل بهدف تحطيم يوسف بيدس، وتقاسم إمبراطوريّته. في مطلع تشرين الأول/أكتوبر، سحبتْ بعض المصارف، الوطنية والأجنبية، ودائعها من «بنك إنترا»، تبعها صغار المودعين الذين انتابهم الذعر. بدأت السّحوبات ببطء، ثمّ تحوّلتْ إلى تظاهرات أمام فروع «إنترا» في لبنان والخارج. ما هي إلا أيّام حتى أغلق «إنترا» أبوابه، وأعلن إفلاسه لاحقا. [5]
= = =
الهوامش
[1] باميلا آن سميث، فلسطين والفلسطينيون: 1875-1983، ترجمة إلهام بشارة الخوري (دمشق: دار الحصاد، 1991)، ط 1، ص 152.
[2] محمد ربيع، ذكريات تأبى النسيان: سباق مع الزمن (عمّان: دار ورد، 199)، الجزء 3، ط 1، ص 166.
[3] باميلا آن سميث، فلسطين والفلسطينيون، ص 153.
[4] باميلا آن سميث، فلسطين والفلسطينيون، ص 160.
[5] فادي يونس، "المؤامرة التي لم تُسقِط إمبراطورية إنترا"، الأخبار، 11 أيلول/سبتمبر 2015.
- غلاف كتاب محمد دلبح
◄ محمد دلبح
▼ موضوعاتي