فنار عبد الغني - لبنان
في عيادة طبيب يُضحك
أخذ يصوب نظراته الحادّة على تفاصيل وجهي بعينين متحجرتين غائرتين خلف نظارة طبية سميكة. كانت ملامح وجهه متشنجة، وقد ألقت الإضاءة الضعيفة في الغرفة عليها شيئا كبيرا من الغموض. وأعتقد أنه تعمد أن يجعل الحجرة نصف معتمة.
كان يحاول إثارة قلقي من خلال التحديق الطويل في قسمات وجهي. استغرق فحصه وقتا طويلا وهو لا يزال يحافظ على نفس الهيئة. قاس ضغطي وأنصت إلى نبضي في لمح البصر ولم يتفوه بربع حرف.
لم يكن هذا الطبيب معروفا رغم تقدمه في السن ورغم وجود عيادته على طابق أرضي في بناء قديم يشرف على شارع رئيسي. كانت عيادته عبارة عن حجرة واحدة، هي جزء من منزله. وقد عرفت ذلك من تصرف السيدة التي صحبتني إلى عيادته، لأننا عندما وصلنا إلى العيادة، وجدناها مغلقة. عندئذ نزلت نوال، السيدة التي كنت برفقتها، الدرج الصغير واتجهت إلى درج آخر لنفس الطابق وضغطت على جرس البيت ثمّ عادت إليّ مجددا. وماهي إلا ثوان حتى فتحت لنا خادمة المنزل باب العيادة من الداخل ودعتنا إلى الدخول وانصرفت.
وفي الانتظار، أخذت أصغي إلى أحاديث نوال التي كانت تدور حول كفاءة هذا الطبيب الذي استطاع إنقاذ طفلها من الهلاك، والذي استطاع إدخال السعادة إلى بيتها. توقفت عن الكلام لبرهة وأخذت نفسا عميقا وابتسمت ملء وجهها وتابعت كلامها حول أدوية الطبيب الباهظة الثمن.
كنت أكن لنوال الكثير من المحبة والتقدير، وكنت متعاطفة معها إلى أقصى حد. كانت امرأة مكافحة وربة منزل وأم لخمسة أطفال. لا تعرف شيئا عن القراءة والكتابة، ورغم ذلك كانت تدير محلا صغيرا تبيع فيه القرطاسية وألعاب الأطفال خلال النهار، ثم يستلم زوجها العمل في المحل بعد العصر. وكنتُ زبونتها الدائمة. وهي كانت تطلب مني أن أساعدها في الحسابات.
كانت نوال امرأة مذهلة، أنيقة وكريمة ورفيعة الذوق رغم بساطتها وفقرها. وكنت استمتع لأحاديثها وأشعر أنها أختي الكبرى. لقد تمكنت من إقناعي بزيارة هذا الطبيب غير المعروف بالنسبة لي، وذلك بعد سماعها لسعالي الطويل وصوتي الخافت.
كان الطبيب طويل القامة وهزيلا، ضامر الوجه والعضلات. بعد أن أنهى فحصه، توارى خلف مكتبه الخشبي، المحاط بعدد من الشهادات المحتجزة داخل أطر ذهبية، شهادات تراها في بعض العيادات، وتناول قلما عليه علامة إحدى شركات الأدوية وسحب دفتره الصغير. لاحظت أن على يده اليمنى تشوها واضحا يبدو كأنه حرق قديم.
سألني عن اسمي. وما أن سمع صوتي حتى خرج من هدوئه، وهتف كمن عثر على خاتم في صحراء:
= هذا هو السبب، إنه اسمك. لا يليق بحياتك، لا يتناسب مع حالتك الصحية.
= اسمي! اسمي يعني الضوء.
= عليك بتغيير اسمك.
قالها بشكل حاسم، ثم كتب على الورقة البيضاء ثلاثة أصناف من الأدوية من بينها فيتامين د. تضاعفت دهشتي وسألته:
= إذا كنا نحن سكان حوض البحر المتوسط علينا شرب فيتامين د، فكيف يعيش سكان الأسكيمو منذ آلاف السنين دون تناول هذا الفيتامين؟
قال غاضبا: "لا دخل لك بهم".
شدت نوال على ذراعي واقتادتني إلى الخارج بعد أن تقاضى الطبيب أجرا مرتفعا بعض الشيء.
بعد أن غادرنا العيادة، اقترحت نوال أن نعود إلى حيّنا مشيا على الأقدام، ورحبت بفكرتها ومشينا نصف ساعة تقريبا أمضيناها بمرح حتى بلغنا الحي وافترقنا.
نوال عادت لبيتها، وأنا توجهت إلى صيدلية جار لي وناولته الوصفة، فما كان منه إلا أن فتح عينيه على آخرهما، وشهق ثم بلع ريقه. بعدها ناولني الأدوية التي كانت بالفعل باهظة الثمن.
كان التعب قد نال مني فتوجهت إلى النوم مباشرة وابتلعت قرصا واحدا من أحد الأدوية التي ابتعتها. وغرقت في النوم. استيقظت فجرا كعادتي في الموعد ذاته ودون منبه. وتناولت الدواء الذي ابتلعت قرصا منه قبل النوم، فإذا هو مضاد للاكتئاب.
= يا إلهي! هل يعتقد هذا الطبيب أنني أعيش في السويد مثلا؟
الدواء الآخر مطهر للحلق يحتوي على نسبة عالية من الكورتيزون. أما الأقراص الأخيرة فهي الفيتامين د ومن العيار الثقيل.
عدت إلى الصيدلي صباحا وناولته الأدوية وطلبت منه أن يهبها لمريض آخر يحتاجها. عند ذلك ابتسم الصيدلي ولم يعلق على الأمر.
ابتعت كيسا صغيرا من الزنجبيل الخالي من السكر من عند العطار، وواظبت على التهام الزنجبيل حتى اختفت آثار الإنفلونزا عندي.
كانت نوال قد لاحظت التحسن الواضح في صحتي وكانت تهمس لي كلما رأتني:
= ألم أقل لك إنه طبيب ماهر. هو الذي جعلني أضحك من قلبي وأنام نوما طويلا حتى الصباح.
وظلت تذكرني بزيارتنا للطبيب من حين لآخر وهي تضحك.
بعد تلك الحادثة، أصيب نوال بأمراض غامضة في الكبد والكلى والبنكرياس، ورقدت في بيتها طريحة الفراش، وقد قمت بزيارتها خمس أو ست مرات.
كنت ألاحظ تدهور صحتها. ولم يعرف الأطباء علتها، أو أنهم علموا لكنهم لم يخبروها بالحقيقة. ورغم ذلك بقيت بشوشة الوجه وتضحك ما وسعها الضحك.
في زيارتي الأخيرة لها قالت لي وهي تضحك وقد تدلت خصلات من شعرها الناعم الطويل الفاحم السواد على جانبي مخدتها:
= لقد أصبت أخيرا بداء السكري. هو المرض الوحيد الذي أعلم أني أعاني منه، أما الأمراض الأخرى فلا أعرف ما هي.
ماذا كنت سأقول لها مثلا؟ هل ارتفاع معدل الفيتامين د يسبب فشلا كلويا أم غير ذلك؟ لم أستطع قول أي شيء لها على الإطلاق.
تابعت تقول:
= بعد ثلاث سنوات من رقودي في الفراش، أصابني داء السكري، كان كل طعامي السمك المشوي والعسل، الآن أصبح كل طعامي السمك.
وأخرجت علبة السجائر من تحت المخدة وأشعلت سيجارة وضحكت وهي تقول: "السمك وهذه كل ما أضعه في فمي".
في عزائها، أخبرتني ابنتها الكبرى ذات السبعة عشر ربيعا أن الأمراض التي فتكت بحياة أمها كانت بسبب الأدوية التي كانت تتناولها. لقد قرأت الابنة النشرات المرفقة بالأدوية وكانت تحتوي على تحذيرات وإرشادات تفيد بأن هذه الأدوية قد تسبب تلفا واضطرابات في عمل الكبد والكلى.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
4 مشاركة منتدى
في عيادة طبيب يُضحك, عبد الله الحبيب - الجزائر. | 1 كانون الأول (ديسمبر) 2019 - 16:41 1
السلام عليكم
قراءة في العنوان :
أرى العنوان - والله أعلم بالقصد - يدل على المستقبل؛ علما أن الشخصية المتوارية، أو الظاهرة قد زارته مرة واحدة فقط ، والضحك في نظري يدل على الاستغراب والاستهزاء ؛ علما أن هذا الطبيب يحتاج إلى علاج هو أيضا ، أوإلى لجنة تراقبه، لأنه كان يرى مرضاه مريضين نفسيا، وليس جسديا .
فالغنوان في نظري، هو: في عيادة طبيب مُضحك . والأصح هو : في عيادة طبيب مريض . والله أعلم .
في عيادة طبيب يُضحك, فنار عبد الغني ،لبنان | 5 كانون الأول (ديسمبر) 2019 - 14:49 2
عليكم السلام ورحمة الله
الطبيب في القصة يعتقد أن سبب مرض المرضى هو نفسي وليس جسدي ولذلك كان يصف الادوية المضادة للاكتئاب.وهو إنسان مريض بالكآبة ويعتقد أن المرضى مثله.وهو يمارس عليهم نوعاً من الوهم والسحر،و يريد خداعهم.هو ليس مضحك أنه يسخر من آلام الاخرين .وهو شخص حقيقي للأسف.
في عيادة طبيب يُضحك, هناء حمادي من الولايات المتحدة الاميركية | 6 كانون الأول (ديسمبر) 2019 - 19:52 3
قطعة ادبية راقية في المعنى و الموضوع و الأسلوب. الأستاذة تنتقى ادق الكلمات لتعبر عن ما تريد ان توصله للقارئ. الموضوع هادف و تعليمي. كم منا يحتاج ان يعيد النظر في الأدوية التي توصف له و أيضا ان يعيد النظر حتى في الطبيب. الأستاذة علمتنا درست ليس فقط بما كتبت و بما قالت و لكن بما فعلت. ببساطة تبرعت بالأدوية الباهظة الثمن لمن يحتاجها و كان ممكن ان ترميها بسلة المهملات و لكن اختارت ان تنفع الغير بالدواء و تنفع القارئ بتعليمه درس بالفراسة أنت طبيب نفسك و تعرف حقيقة امرك. انتظر بكل شوق لدرس شيق في العدد القادم.
في عيادة طبيب يُضحك, فنار عبد الغني ،لبنان | 7 كانون الأول (ديسمبر) 2019 - 14:19 4
السلام عليكم
الانسان طبيب نفسه. أعجبتني العبارة واستوقفتني . نعم فالانسان يعرف علته أكثر من غيره. لكن عليه أن ينصت لدواخله ويصدقها. كم مات من البشر بسبب الاخطاء الطبية . ولا احد يحاسب احد.شكرا على الرؤية الصادقة.ودمت بخير.