عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

وهيبة قوية - تونس

ما كذب القلب ما رأى


وهيبة قويةحطّ عصفور على جدار الحديقة صامتا هادئا، وبعينيه الصّغيرتين نظرةٌ ثاقبة وجّهها إليّ وهو يقول:

= إذا رمتِ صفو البصيرة فانظري أبعد ممّا تراه عيناك.

= ها أنا أنظر بعيدا وأرى حدود الأفق. فماذا بعد ذلك؟

= أعيدي النّظر، وتأمّلي.

= هو الأفق، آخِرُ ما أرى.

= عليك بعين القلب. فرُؤاها أبعد ممّا تراه العين. ورؤاها لا تكذب.

كان العصفور يحدّثني واثقا وكنت أحاول استدراجه ليحطّ على جدار القلب ويعلّمني نشيد الفجر، وكان يستدرجني ليعلّمني قراءة الأفق البعيد. وجّهت نظري إلى حيث ينظر. كان الأفق خطّا شفّافا يوحّد امتداد السّماء بعمق الأرض. وأمام هذا الخطّ تضاريس تقف مثل أشباح في المدى البعيد. فحدّثت نفسي: "هل كان يقصد أن أتعرّف إلى هذه الأشباح؟ إنّي أراها دائما وأعرفها. لا تتغيّر. ولا أرغب في الوصول إليها."

وكأنّ العصفور قرأ ما بنفسي، فأشار برأسه الصّغير إلى المشهد فالتمع الرّيش حول عنقه مثل طوق يفصل بين جسده ورأسه، بل بدا مثل الأفق الّذي أشار إليه. قال متأمّلا:

= في أقصى المدى حياة متجدّدة معلّقة بخيط الأمل.

فقلت له وأنا أنقل ما أشاهده أمامي:

= أرى خطّا لامعا بدأ ينفصل عن الأرض أو عن السّماء.

فأضاف بنبرة صوت عميقة مواصلا تأمّله:

= وكلّما ابتعدا التقيا وتوحّدا.

لم أفهمه. وربّما لم أكن أريد أن أفهمه أو أتعب رأسي بالفكرة. ولكنّي سمّرت نظري أراقب ما يكون من أمر السّماء أو الأرض حتّى صار الخطّ واضحا. فقلت:

= السّماء والأرض تنفصلان...

قاطعني بهدوء:

= بل تتوحّدان.

تحرّك رأسه الصّغير، فلاحظت أنّ الطّوق الّذي كان في عنقه قد زال وانسجم لون الرّيش ما بين رأسه وجسده. وواصلت النّظر أمامي، لا أدري إن كنت أنظر إلى السّماء أو إلى الأرض أو إلى...

= تتوحّدان، وقد تلاشى الخيط في الأفق.

قلت ذلك بلهفة. ثمّ رأيت الصّورة في الأفق وقد اتّضح في المدى مشهد الضّوء خلف التّلال والجبال وكأنّه صفحة من المياه الفضّيّة. فواصل العصفور تأمّله بثقة:

= السّماء جزء من المشهد، تتوزّع في تفاصيله بدقّة وانسجام قد لا نلاحظهما من الوهلة الأولى. والأرض جزء آخر من المشهد يتكامل معه. فلا وجود لخطّ يقطع بينهما ويفصلهما. وإنّما رؤية العين خادعة وتنقل ما تصوّره
وما يرتسم عليها، ليس إلاّ. وبالتّأمّل تكتمل هذه الرّؤية.

وافقته الرّأي. وظننتني فهمت حتّى أعاد عليّ جملته وكأنّه يمليها على قلبي:

= انظري أبعد ممّا تراه عيناك.

قلت مستغربة:

= ألم أفعل؟ !

قال:

= ذاك مشهد من كثير من المشاهد وصفتِه كما هو. ولم تَريْ أبعد من توحّد أجزائه وتكاملها. ستفهمين قصدي إن استطعت أن تريني. انظري إليّ، حيث أنا، ماذا ترين؟

= أراك. أنا أراك. أستطيع أن أراك.

= وماذا بعد صورتي؟

احترت. فأيّ جواب يقنع رأسه الصّغير وحكمته الكبيرة؟ وكيف أخترق نظره لأرى ما يراه؟

= أراك جالسا بكبرياء، أنيقا، حكيما، تؤنسني...

= وتؤنسين وحدتي.

= لستَ وحيدا. ستطير بعد قليل وتمضي إلى عشّك في إحدى الشّجرات وأبقى وحيدة.

= لم تنظري بعين القلب.

نظرت إليه مليّا ولم ألاحظ جديدا سوى هيئته وصمته فقلت:

= أنت هادئ. لا تشدو بلحن من ألحانك مع أنّك حرّ طليق لا يأسرك قفص و...

لم أكمل. فقد طافت أسئلة بذهني وتزاحمت فألقيتها عليه دفعة واحدة:

= ما الّذي حطّ بك على جداري؟ هل أنت حزين؟ ولماذا؟ وجناحك؟ ما به؟ تريد حَبّا؟

أجابني بهدوء:

= تَعِبَ جناحي وأنا أجمع الدّفء لعشّي. وتعَبُ الجناح أشدّ قسوة من البرد.

= جريح أنت إذن؟

= لولا جرحي ما حططت على ظلّي هنا.

= سأداوي جرحك وأرمّم كسر جناحك. تعال.

ومددت إليه يديّ أحاول أخذه وفحص جرحه. فقال:

= بعض الجروح لا تُرى بالعين.

= سأرى جرحك.

= لن تدركه عينك.

قال هذا وأشاح بوجهه عنّي إلى الأفق البعيد في خيلاء. وبدأ يحرّك جسمه ليطير. فاستدركت:

= ولكن... جرحك؟

= هو أيضا جرحك.

استغربت: "كيف له أن يقرأ ما أخفيه في نفسي عن نفسي؟ وكيف أصابه ما أصابني؟"

رفعت إليه نظري أقرأ صورته ما بين زرقة السّماء وجرحي. كان عليّ أن أقرأ بقلبي وأنظر أبعد ممّا أرى لأفهم أنّ لا أحد منّا يخلو من جراح، وأنّ من يُصاب بجرح في قلبه يظنّ أنّه متفرّد بما أصابه كأنّ لا قلب إلاّ قلبه، فلا يَرى إلاّ جرحه، وينصرف نظره عمّا سواه. وفهمت رسالته بقلبي، فالعصفور لا يتوقّف نشيد الحياة في حنجرته وهو طليق إلاّ إذا انكسر جناحه. وانكشفت في قلبي الرّؤى:

= فهمتك أيّها العصفور. سوف ننهض من جرحنا أكثر قوّة.

فأضاف:

= حين أبتعد نتوحّد ما دام بيننا خيط أمل ورؤى قلب لا تكذب.

ارتفع العصفور إلى زرقة السّماء يرشق الفضاء بجناحيه تارة، وتارة أخرى، يحطّ قريبا منّي ويملأ الفضاء بالغناء. وغنّت معه عصافير القلب وانطلقتْ خلفه إلى سماء أبعد ممّا تراه عيناي، وتوزّع ألحانها في خلايا روحي.

JPEG - 11.5 كيليبايت
عصفور
D 1 حزيران (يونيو) 2021     A وهيبة قويّة     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

  • نص فلسفي بامتياز، خرجت فيه الكاتبة عن المألوف، لتجذب أمثالي من القراء الذين لا تستهويهم الفلسفة، بتوظيف ذكي لفن الحوار، فنسمع درساً في الهواء الطلق على لسان عصفور ظريف.
    بصور بيانية رائعة(حياة متجددة، معلقة بخيط الأمل) (تضاريس تقف مثل أشباح في المدى البعيد).
    لكن مابرعت فيه الكاتبة حقاً هو الوصف المدهش، منظر السماء والأرض، الخط الفاصل، الضوء، التلال، وكأنها ترسم بريشتها لوحة فنية.
    ثم(عين القلب التي ترى مالاتراه العين)
    ويبقى السؤال مالذي يراه العصفور ولا نراه نحن؟
    أهي جراح الروح، وانكسارات النفس.

    شكرا لك أستاذة وهيبة


  • نص غاية في الإبداع صوفي النزعة ويظل صداه في الروح ,ويدعونا إلى حوار فلسفي عميق شكرا لك أستاذة وهيبة
    وكل التقدير.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 21: عود الند تبدأ عامها السادس عشر

تجليات الغربة في كتاب "رأيتُ رام الله"

ارهاصات الدراسات المقارنة في الأدب العربي

حضور علم الأصوات في النشاط الثقافي العربي

منهج الكتابة التاريخية عند ميشال فوكو