عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

الخط الأزرق


فنار عبد الغنيالخط الأزرق هو ما يضيء دهشة الطفولة في عينيها المتعبتين ويمدهما بقوة على متابعة الأمل. يسلبها وعي اللحظة ويردها إلى عالم الأحلام كلما أبصرته وهي تخطو بحذر شديد على الشارع المتصدع. يظل يغريها بالنظر عاليا، لكنها لا تستطيع فعل ذلك سوى هنيهات تضخ قلبها بجرعة الصبر اليومية.

في ذاك الفجر المعتم والماطر، ارتدت معطفها الواقي من المطر على عجل. المسافة بين بيتها وعملها لا تتجاوز عشر دقائق. وعلى الرغم من ذلك فقد خرجت قبل موعد قرع الجرس بأكثر من ساعة ونصف ساعة، أملا في الوصول إلى عملها قبل اشتداد المطر وانسداد الطرقات. ستشرح في الحصة الأولى درسا عن الحضارة.

كعادتها نظرت عاليا. كان لون السماء يشبه لون الحياة في المخيم: أسود يثير الرهبة. راودها إحساس مثقل بالكآبة لتوقعها أن اللون الأزرق سيغيب عن حياتها بضعة أيام. أرادت بقوة إزاحة هذه الكآبة الثقيلة عن قلبها.

هرولت مسرعة إلى الخارج، فإذا بقناة طافحة بمياه الأمطار المتدفقة تقتحم طريقها، قفزت إلى بقعة جافة لا تتجاوز الشبر، واستمرت بالقفز، ترفع قدما وتخفض أخرى حتى علت المياه، فلم يعد بمقدورها إلا الخوض في السيل إلى أن بلغت الشارع.

هناك شهقت بأسى، لقد اختفى الشارع بعد أن اجتاحه نهر مفاجئ، خريره يجلجل بما يرفده من وابل وسيول جارية من الأزقة والمزاريب. جرّت قدميها الغارقتين إلى الأمام، ثم تسلقت درج أحد الدكاكين حتى بلغت أعلاه.

يا له من مشهد! لقد أخفى النهر المفاجئ معالم الشارع المتشقق والمتصدع والمغمور بعشرات الحفر التي تمنعها من النظر عاليا لترى اتساع الخط الأزرق في الفضاء.

هي الآن تنظر عاليا وبحرية وثقة، دون خوف من أبواق السيارات وشتائم سائقيها، دون حذر من الوقوع في إحدى الحفر أو التدحرج عن أحد النتوء أو تدافع المارة.

تمنت لو ينحسر الغمام ويفاجئها بلوحة سوريالية تتكاثف فيها الخطوط الزرقاء لتشكل مشهدا لسماء نادرة الوجود في فضاء المخيم.

حتما سوف تحتل هذه اللوحة أكبر مساحة من ذاكرتها الممهورة بخط أزرق متقطع، تلمحه من تحت أكوام البيوت الصغيرة، المتلاصقة، المكتظة والملتفة على بعضها البعض، ومن بين أسراب الحمام واليمام المتشردة والضالة. هو كل السماء بالنسبة للاجئين في المخيم.

يتعالى خلفها هدير الباصات التي تخترق النهر وسعال بعض العمال وصراخ التلامذة الصغار، وتدرك أن الوقت يمضي، تتابع القفز من درج إلى آخر ومن عتبة إلى أخرى حتى تصل إلى منتصف الطريق الذي غدا كمستنقع أسود ملوث.

فيضان الماء في عين الحلوةتقف مذهولة، جامدة، حائرة، تسائل نفسها كيف ستعبر هذا المستنقع؟ نادت عليها إمراه من أحد البيوت المتداعية، المطلة على الشارع، يبدو أنها كانت تراقب المشهد عن كثب، حادثتها بيدها، فسلكت طريقا معاكسا لمجرى السيول فاجتازتها وهي تقفز فوق عتبات البيوت المتلاصقة.

بعد ذلك أوقفها سيل جارف وصراخ التلامذة الصغار الذين لم تنتبه لتتبعهم إياها إلا في هذه اللحظة، ففزعت لفزعهم، ولم تع ماذا تفعل.

وأنقذتها امرأة ثانية، ألقت إليها بلوح خشبي من نافذة عالية، فتناولته ومددته فوق حافتي الطريق الضيق، وأمسكت بالصغار وأوصلتهم إلى الجهة المقابلة حيث برزت سطوح بعض حجارة البناء الإسمنتية، ثم بدؤوا بالتنقل فوق حواف الطريق خطوة خطوة. مشوا على رؤوس أصابعهم الباردة وتسلقوا جوانب البيوت وتشبثوا وتمسكوا بالحيطان الخشنة بأصابعهم.

كانت في سباق مع الزمن، تحدت الفيضانات وابتلت حتى ركبتيها وساعدت الصغار، لكنها لم تنس الوقت، كان تحادث نفسها: هل ستصل قبل قرع الجرس؟

كم تتوق للوصول إلى المدرسة ومباشرة التدريس! لقد أعدت إشكالية ستطرحها في درس الحضارة وستناقشها مع الطلبة عن أسباب تأخر العرب والمسلمين عن اللحاق بركب الحضارة المعاصرة.

تسرب إلى مسامعها صوت فيروز، أدركت أنها على مقربة من بائع القهوة القريب من الشارع. حثت الخطى. كانت كلمات فيروز الصادحة في الأثير مع كثير من التشويش مثيرة للشجن:

وطني: يا جبل الغيم الأزرق؛

وطني: يا قمر الندي والزنبق؛

يا وجوه اللي بيحبونا؛

يا تراب اللي سبقونا ...

برقت في ذهنها صورة قريتها المحتلة واشتعل جسدها المبلل والمرتجف بردا بالحنين والدفء. هل تمطر الآن في السميرية؟

كانت السميرية الشامخة بزهورها، المجاورة للبحر منذ بدء التكوين، قرية خارقة لقوانين الطبيعة: "القرية المعجزة"، هكذا كانت تردد جدتها وتضيف:

"نهاراتها طويلة؛ ولياليها صافية لا يغيب عنها القمر. هناك الحب والشباب والصحة وراحة البال..."

هل حقا ما اعتقدته جدتها؟ لقد كان القمر آخر ما رأته جدتها عندما اقتلعت من قريتها. كان بدرا مشعا حينما نظرت إليه وهي تتضرع إلى سماء أنهكتها نيران القذائف الصهيونية.

أنهت فيروز أغنيتها وبدأت نشرة الأخبار الصباحية، ولمحت عن بعد مدرسا يعمل معها، ومعروفا بتأخره الصباحي، لا يحضر إلا قبل قرع الجرس بخمس دقائق فقط، فأيقنت أن الوقت قد أزف.

التقطت أذناها بعض الكلمات من نشرة الأخبار: هبوط مركبة فضائية قادمة من المريخ إلى الأرض بسلام؛ كوريا تعتزم إنشاء أسرع قطار في العالم؛ الملياردير العربي فلان بن فلان يفتتح اليوم أعلى برج في الخليج العربي.

وفجأة علا عويل طغى على أرجاء المكان، فاذا بأحد العمال يغرق داخل بالوعة، كان يقوم بفتحها لتصريف مياه السيول ومساعدة الناس على عبور الشارع. لكن لسوء حظه، غرق الرجل وتجمهر العمال محاولين إنقاذه.

علا عويل الصغار وتشبثوا بمعطفها المبلول وبيديها الباردتين وبقدميها الغارقتين. هل سينجو الرجل؟ وهل سيعتبر شهيدا في حال موته؟ وهل سيضاف اسمه إلى أسماء آلاف الشهداء التي تغص بهم حيطان المخيم؟

= "يا أرحم الراحمين افرغ علينا صبرا".

لا يزال أمامها دقائق معدودة وتصل لعملها في الوقت المحدد، هذا اذا تخلت عن الصغار المذعورين. ماذا تصنع؟ هل تتركهم وتمضي إلى عملها؟

وجدت نفسها تحملهم وحقائبهم، الواحد تلو الآخر، تجتاز بهم المياه السوداء وتوصلهم إلى الضفة الأخرى حيث تنمو بغزارة مملكة من الحشائش والفطريات الشاهقة الارتفاع أمام حائط متصدع كتب عليه "ثورة حتى النصر".

هي الآن في طريقها إلى العمل، مبللة تماما، ترتجف من برد يخترق عظامها، تدفعه بروحها وتقاومه كما تقاوم لعنة الشتات.

كان الهدوء يسود المدرسة على غير عادة مما أثار استغرابها. علمت بعد ثانية أن طلاب المدرسة ومعظمهم من سكان المخيم لم يتمكنوا من الحضور بسبب الفيضانات التي اجتاحت طرقات المخيم في ذلك اليوم من شهر تشرين الأول، ولذلك تم تأخير قرع الجرس مدة نصف ساعة.

كانت المدرسة شبه فارغة إلا من أصوات بعض المدرّسات اللواتي يواصلن نقاشا بدأنه منذ أول العام الدراسي عن الطبخ وطبق الغذاء اليومي.

اتجهت نحو دفتر الحضور لتوقع اسمها، فرأت خطا أزرق صغيرا كتب تحته للمتخلفين عن الحضور الصباحي. وقعت اسمها، وبعد ذلك طالبها المدير بكتابة تقرير بخط اليد تجيب فيه عن السؤال التالي: لماذا تأخرت؟

D 25 آب (أغسطس) 2015     A فنار عبد الغني     C 7 تعليقات

6 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 111: بدء العام الدراسي 2015

الأدب الجزائري القديم ج2

جغرافية اللغة ونظم المعلومات

أعمدة الأدب العربي

رجل بين أوراقي