عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عدلي الهواري

كلمة العدد 65: عن التاريخ


عدلي الهواريما هو التاريخ؟ هذا سؤال يُطرح دائما وتجري محاولات لتعريفه. اعتباره سلسلة من الأحداث، أو سردا لها، أمر لا يقبله المهتمون بدراسته. وهناك أيضا رفض لفكرة أن التاريخ يعيد نفسه. آخرون يرون أنه إذا أعاد نفسه، تكون الإعادة على شكل مهزلة، لا نسخة طبق الأصل عن الحالة الأولى. وفي تصور كارل ماركس فإن الثورات هي محرك التاريخ.

وتنسب للتاريخ أشياء كثيرة، فهو مثلا "لا يرحم"، أو يقول كلمته أو يبرهن أو يعلّم. وللتاريخ أيضا سلة مهملات، وبفعل الترجمة إلى العربية أصبحت السلة "مزبلة"، وهذه يحتاجها التاريخ أكثر من سلة المهملات التي لا يمكن أن تتسع إلى شخصية واحدة تستحق هذا المآل.

وبعض الأحداث توصف بأنها تاريخية للتأكيد على أهميتها، وضمنا هذا يعني أن أحداثا أخرى غير تاريخية، فهل لمثل هذا التصنيف أساس علمي؟

المهتمون بفهم ماهية التاريخ حاولوا اكتشاف القانون العلمي الذي يؤدي اكتشافه إلى حساب مواعيد الثورات مثلا، مثلما تؤدي القوانين العلمية إلى حساب الزمن الذي تحتاجه سيارة لقطع مسافة معينة بسرعة معينة، فالسيارة سوف تحتاج إلى ثلاث ساعات إذا كانت المسافة 300 كيلو متر وسارت بسرعة مئة كيلو متر في الساعة.

وجود علاقة بين بعض المفاهيم أو الأيدولوجيات والعلم ظاهرة معروفة أيضا. هناك ما عرف بالاشتراكية العلمية، وعندما تقرن الاشتراكية بالعلم فالغاية التأكيد على تميزها عن اشتراكيات أخرى، وربطها بالعلم يهدف أيضا إلى القول إنها منزهة عن الأهواء والأخطاء.

هناك حكمة تقول "دوام الحال من المحال". وبناء عليها، يمكن اعتبار كل إنسان كان يعلم بهذه الحكمة ومقتنعا بها مبشرا بالثورات العربية التي حدثت وتلك التي قد تحدث بعد قرون.

ولكنْ هناك فارق كبير بين قانون علمي ومجرد حكمة، فعندما نقول "دوام الحال من المحال" لن يقبل أحد بأن هذا قانون علمي لأنه لا يعطينا موعدا محددا لتغيير الحال. أما القانون العلمي فيمكن من خلاله أن يُحدد موعد التغيير.

لا أملك تعريفا للتاريخ، وأتحدث عنه كما يجري على لسان الناس. ومع أن استخدام المصطلحات بدقة مفيد، ومن سمات النهج العلمي، إلا أن تعريف المفاهيم وإعادة تعريفها، مهمة فكرية لا تتوقف، ولكنها أيضا لا تزيد من وضوح المصطلح دائما. إنني أتحدث عن التاريخ بالوضوح والغموض اللذين يكتنفان المصطلح.

في كتاب عن قضايا الترجمة قال المؤلف الراحل أندريه لافيفر ( 1972: ص 37): "إن التاريخ لا يبرهن شيئا." وقد اقتنعت بذلك منذ قرأت هذه العبارة وشرحه لها، فالأحداث "التاريخية" المختلفة لا تقودنا إلى استنتاج واحد يجعلنا نتنبأ المستقبل في ضوء ما جرى في الماضي. وهذا أيضا يعيدنا إلى نقطتي: هل يوجد قانون علمي يحكم التاريخ؟

الإجابة عن هذا السؤال وجدتها عند الفيلسوف النمساوي الأصل، البريطاني الجنسية، كارل بوبر (1962)، الذي انتقد أنصار ثلاث نظريات في ثلاثة ميادين، وهي التفسير الماركسي للتاريخ، والتحليل النفسي الفرويدي (نسبة إلى فرويد)، وعلم النفس الفردي. ويشير بوبر إلى تجربة شخصية مع ألفرد أدلر، الشهير في ميدان علم النفس الفردي، وكان يعمل مع الصغار والشباب في مراكز الإرشاد الاجتماعي في أحياء الطبقة العاملة في فينا. وقد ذكر بوبر لأدلر حالة صبي، فبدأ أدلر يحللها وفق نظريته في علم النفس الفردي المستندة إلى مشاعر النقص. وقد حلل الحالة دون أن يعاين الصبي.

وينبه بوبر إلى خلل في تفكير مطلقي صفة العلمية على بعض النظريات، فلأنهم أقنعوا أنفسهم بالصفة العلمية للنظرية فهم يشاهدون الأدلة على صواب وجهة نظرهم كل يوم. ولكنه يستنتج أنه لا يوجد قانون علمي يتحكم بالتاريخ. والنبوءات، إن صحت، أمر مختلف عن الوصول إلى استنتاج بناء على قانون علمي كما في مثال السيارة في المقدمة.

يؤكد غياب قانون علمي يحكم حركة التاريخ أنه (التاريخ) يفاجئنا دائما، ويفاجئ من يزعمون أنهم علماء في التاريخ. من الأمثلة التي فاجأت "العلماء" سقوط نظام الشاه في إيران، وثورة الشعب الفلبيني على الجنرال ماركوس، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وحدوث ونجاح أول ثورة عربية في تونس، والأمثلة عديدة.

ومثلما لا يوجد قانون علمي يحكم حركة التاريخ، فإن التاريخ أيضا بريء من إصدار الأحكام. "التاريخ هو الناس،" كما قال لافيفير في كتابه عن قضايا الترجمة.

لو اختلف الناس اليوم على أمر، هل سينتظرون رأي التاريخ فيه؟ كيف يفعل التاريخ ذلك؟ وأين؟ ولو صدر حكم التاريخ على أمر بعد مئة سنة من حدوثه، هل سيقبل بحكمه المختلفون في الرأي؟ لا طبعا. ما اختلف عليه الناس في الماضي استمر خلافهم عليه بعد قرون. ولكل إنسان رأيه.

ومثلما لا يبرهن التاريخ شيئا، فهو أيضا لا يعلم شيئا، وإن كان معلما حقا فتلاميذه –البشر- لا يهتمون بشرحه ويفضلون اللهو على متابعة محاضراته.

وعندما يكون حكم البشر على البشر واضحا وقاطعا يهرب المحكوم عليهم حكما سلبيا إلى التاريخ دائما، ويفعلون ذلك وهم واثقون (وواهمون) أن الحكم سيكون لصالحهم.

مع أطيب التحيات

عدلي الهواري

الأسماء الأجنبية المذكورة في الكلمة بحروف لاتينية

(1) André Lefevere. (2) Karl Popper. (3) Karl Marx. (4) Sigmund Freud. (5) Alfred Adler.

D 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2011     A عدلي الهواري     C 5 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • أبدع الأستاذ عدلي الهواري في إثارة باقة من الأسئلة حول التاريخ وأهميته ومدى علميته وقدرته على التنبؤ وغير ذلك مما يسهم في التفكير النقدي والتشكيك في بعض الموروثات التي أعمتنا عن الحقائق.
    إن أخطر ما يواجه الإنسان أن يصبح أسيراً للتاريخ، ويصبح التاريخ دليله للحكم على الآخرين ممن يعايشونه ويجاورونه.
    إن بعض الأحداث التاريخية ما زالت تتفاعل عند البعض فتسير حياتهم عكس المنطق والعقل ونحن نعيش في عصر مجنون متسارع يعد فيه ما حدث قبل سنوات تاريخاً قديماً.
    وأمر آخر لا يقل أهمية، أن التاريخ يحمل في الغالب وجهة نظر المؤرخ، وحتى لو كتب حول الموضوع أكثر من مؤرخ فلن يعطونا الحقيقة كما كانت، فلكل رأيه وفكره وهواه، ولذا فإن التاريخ المدون هو ما وصلنا من المؤرخين لا ما حدث فعلاً!
    وأخيراً، إن التاريخ يصلح للعبرة والاعتبار ولتفسير وتحليل ما حدث، ولا يمكنه بحال أن يتنبأ بما سيحدث!


  • استاذ عدلي
    عيدكم مبارك

    ولاننا نطوي تاريخنا ونقف في آخر عربات القطار ونتسكع على هوامشه نفعل ما نفعل بالتاريخ
    الذي حقنه معلمونا في عقولنا وكأنه مُسلمات مجردة

    نحن بحاجة لإعادة قراءة طرائق استقصاء التاريخ

    مودتي
    عيد


  • مرحبا. اتفق في الرأي مع من يقول انه لايوجد قانون علمي يحكم التاريخ لان التاريخ اولا مجموعة قضايا انسانية و التنبؤ بثورة قد تحدث طبقا لمفهوم ان التاريخ يعيد نفسه مع ابتعاد الفترات الزمنية في هذا العصر طبعا لان الثورات كانت متتالية في بدايات القرن العشرين ثم اصبحت واحدة كل اربعين عاما ثم الى اين لااحد يعلم . و الاصل في كتابة التاريخ برأيي غير شفاف . فمن يضمن ان كاتب التاريخ ( قبلا ) شخص منزه لايكتب لمصلحة حاكم او اتفاقا مع قضية قد اختلف انا في وجهة نظري منها و اقول قبلا لان الان كل شيء غالبا موثق و خاضع للنشر في الانترنت و بالبث المباشر و بشرائط فديو فلا مجال للتلاعب .التاريخ فعلا لايعلّم احدا فلايوجد تلميذ يرتضي ان تملى عليه المحاضرات من المقبرة لاشخاص عاشوا حياتهم ولم يرها هذا التلميذ بام عينه او يعيشها ليلمس صدق ما كتبوا.اما لو افترضنا ان التاريخ يعيد نفسه فسيكون الحكام اكثر حذرا من ذي قبل و جاهزين لقمع الثورات التي من المفترض ان تحدث على فرضية دوام الحال من المحال و كثير من الفرضيات التي سوقوها للتخدير جاءت بنتيجة افضل من الثورة حيث يعلك الشعب املا بهذه الجملة و يعيش ويموت و كل ظنه ان شيئا ما سيحدث يوما في توقيت ما و سيغير التاريخ .


  • ((وتلك الايام نداولها بين الناس)) قران كريم. والتاريخ يكتبه المنتصرون, وهناك تعريف هزلى يبين: التاريخ هو ان نعرف متى وعن ماذا فقست البيضة. وربما بتعريف دقيق لما اراده كارل ماركس بان الثورات هى التى تحرك التاريخ, فيفهم من ذلك شىء واحد هو التخطيط .الذى كلما كان محكما (علميا) كانت النتائج اكثر ملامسة للفرضيات, فتكون النتيجة تعريف شامل وواقعى عندما يحدث تغيير ملموس. والكلام عن ان التاريخ يعيد نفسه هكذا بلا مجازيف ذالك امر مستبعد تماما فكل ما فى الامر ان الظروف المحركة قد تشابهت او انها بدت لنا كذلك. والصحيح والثابت ان كاتب التاريخ كتب لنا شىء غير الذى حدث. واخيرا ان من ينكفىء على ملاحقة التاريخ تصيبه لعنة ولايبراء من داء عمى الحاضر.


  • التاريخ: جملة الأحداث والأحول التي يمر بها الفرد والمجتمع والظواهر الطبيعية والإنسانية، وهو ماضي الشعوب والأمم الحالية وما صنعه الأجداد من أعمال وأمجاد منذ آلاف السنين. هذا هو التاريخ الذي يسخر منه البعض ويقولون عنه ما لا يتفق مع مكانته في ظل التقدم التكنولوجي العالمي، فما الفائدة التي يجنيها العقل بالتعرف على الدولة البيزنطية والعثمانية والحضارة الفرعونية وغيرها!

    إن كلمة التاريخ "Histoire" تحمل بداخلها الكثير والكثير المفيد للبشرية، فأعظم ما يقدمه التاريخ من فوائد للمعرفة البشرية يبدو في فهم الحاضر الملموس واستشراف المستقبل. الواقع أن اكتساب خبرات الماضي تساعد في بناء الشخصية السليمة، فالتاريخ يعد الذاكرة القومية التي يجب أن تكون كذاكرة الفرد سليمة، فإذا كان الفرد يفقد ذاكرته عندما يلم به المرض فما بالك بالأمة التي تفقد تاريخها وتتعرض للتدهور والضعف.

    إننا ندرس التاريخ وتدرسه المجتمعات الإنسانية لكي تطور من حياتها على ضوء تجارب الذين سبقوهم، وهذا ما نوه له السخاوي في كتابه "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" فيما نصه :"إن أحسن ما يجب أن يعتني به، ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة معرفة الأخبار، وتقييد المناقب والآثار، ففيها تذكرة بتقلب الدهر بأبنائه، وإعلام بما طرأ في سالف الأزمان من عجائبه وأنبائه".

    ويكفي لمعرفة أهمية التاريخ؛ أن تتصور أننا نقطع كل صلتنا ومعرفتنا بالماضي من خلال القضاء على ثمار المعرفة والعلوم بأرشيفات ودور الكتب، وتدمير كافة الآثار العمرانية التي وصلتنا عبر آلاف السنين، فما هي النتيجة المتوقعة بعدها؟!


في العدد نفسه

عيد أضحى مبارك

عن مبدعة الغلاف

بحث: دواعي الإبدال في اللغة العربية

بحث: حينما يتأمل النص نفسه

عود الند: خفض النفقات