بسام الطعان - سورية
هوى سادس وفتان
العالم كله من حولي مبتهج بالربيع الذي يأتي بنسائمه ووروده، ويمنح راحة النفس والبال لكل خلق الله، وأنا وحدي شارد وحزين، ونفسي حقيبة مكتظة بالكآبة والحسرات.
في يوم من أيامي الحيارى، هربت من مارد الشقاء، ومن قسوة أهلي عليَّ، درت في الجهات من غير بوصلة أو دليل إلى أن جاء الأصيل، وكان التعب وقتئذ قد هزمني وأحالني إلى كومة من لحم.
جلست على ضفة نهر حزين مثلي، يتدفق بعسر ومحتقن بنفايات الصرف الصحي، ضمدت جراحات عمري، ومع لفافة أشعلت فتائل أحلامي، نفثت الدخان فانتشرت من حولي دوائر زرقاء، وفجأة أشرقت نفسي كشمس ساطعة حينما رأيت من خلف دوائر الدخان امرأة طويلة ومشتهاة، تقترب مني مثل موجة من سكر نبات وعطر جوري، اقتربت أكثر فأكثر، فذهبت من الصحوة إلى الدهشة، ومن الحزن إلى الفرح، توزع نبضي في المدى، وصار الربيع ربيعين.
ويا له من ثوب، أزرق بلون السماء ويفضح الكتفين والركبتين وجزء من الفخذين. وقفت أمامي فرأيت الطفولة، والطيبة، وعناقيد العنب، وروعة البيلسان.
برنين أجراس الفضة سلّمت عليَّ، مسحتني بنظراتها، وهدهدتني بشفتيها، في تلك اللحظة، تخلصت روحي من انكساراتها ورأت الحياة البهيجة، لكنني صامتا ومندهشا وغائبا عن بقيت.
من هي يا ترى؟ وهل أحلم وأنا نائم على ضفة نهر زلال والى جانبي حورية زرقاء؟
"اتبعني يا قلبي اتبعني، إلى الدنيا الحلوة اتبعني." غنت لي وهي تبتسم، ثم استدارت وسارت باتجاه الوادي.
آنئذ حسرتي انتحرت، كآبتي هربت، وحزني لم يعد له وجود، وأنا أنظـر إلى بياض الجسـد الواضـح من تحت الثوب الأزرق الشفاف، وحين تابعت النظر إليها بشغف وصمت ولم أتحرك، استدارت وبدأ صوتها يخترقني من جديد:
"قلت لك اتبعني ألا تسمع؟"
كيف لم أسمع؟ سمعت ورأيت وتلذذت وانبهرت، وفجأة أرسلت لها أهزوجة مغتسلة بحنان، وعلى إيقاع الحنين سرت خلفها ببراءة طفل، خمس خطوات خطوتها، فسمعت عشرات الأصوات وكلها تدعوني للعودة والابتعاد عنها، نظرت من حولي فلم أر أحدا، عندئذ تابعت سيري وأنا انظر إلى الخطوات الرشيقة، والمؤخرة الدائرية المهتزة، والشعر المنسدل على الكتفين، والظهر الأبيض الناعم، والبلسم الذي يداوي رقائق الجراحات.
وارتفعت الأصوات من جديد:
"ارجع وإلا ستندم."
"لا تضّيع نفسك."
"ارجع يا ولد ستأخذك إلى الهلاك."
"ضاع الولد. إنه يرى القناع ولا يرى الوجه."
أسميتها أملي وربيع عمري، ورسمت بجمالها العجائبي أمنية وقلت: خذينا يا دنيا إلى الأنهار المتلألئة بأنوار لازوردية، وامنحينا حب الحياة. ثم سخرت من كل الأصوات وتبعتها إلى حيث لا أدري. لا يهم، المهم أن أكون معها، إلى جانبها، وأن انهل من عسلها.
فوق تل يطل على الوادي وقفنا ونحن ننظر إلى بعضنا البعض ونحلم بأشياء لذيذة، غسلتنا نسائم المساء، فارتدينا أجنحة يمام، وآه، كم كان اليمام كريما، ألقى بنا في أحضان الوادي، وفي الوادي، صار بيننا موعد فرح كبير، وربيع نركض فيه كطفلين فوق حقول الورود، وهناك تحت الشجرة، جلست ودعتني للجلوس إلى جانبها، رأيت فيها البلابل، والضحك، والدلال، والعسل، والرغيف الطازج، والسرير الوثير، فتغيّر سلوك الدم فيَّ، غازلتها، شممت رائحة أنفاسها، تلاعبت بها، ففرشت بساط الحب والنجوى، ومدت أطباق السلوى وكؤوس الهوى الفتان، فأكلت وشربت إلى أن غبت عنها وعن العالم كله، وكان ضوء القمر يفضحنا بوضوحه ونحن لا ندري.
مع انبلاج الفجر وضحت الحقيقة وابتدأ الكلام:
"كان عاريا تماما. مفتوح العينين، ومعلقا على الشجرة. إنه الضحية السادسة ولا أحد يعرف الجاني."
"هذه القرية مسكونة بالجن."
"نعم، بالتأكيد هي مسكونة بالجن وبالعفاريت أيضا."
...
هذا ما كان يتداول في بيوت القرية وأزقتها.
◄ بسام الطعان
▼ موضوعاتي