عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

يوري بونداريف

أدب عالمي رواية الاختيار


مقتطف من رواية "الاختيـــــــار"

المؤلف: يوري بونداريف.

المترجم: عياد عيد.

الاختيار للنشر في "عود الند": هدى الدهان.

ساد الضباب في المدينة وتضافر كالسابق مساءً، ولف الأنوار وواجهات المحلات المغلقة، التي أبرزتها وأنارتها أضواء النيونات، مذكرة بخشبات المسارح الخاوية، التي نادراً ما تتحرك قربها أشكال المارة. أخمدت الأزقة الضيقة، التي امتلأت بسديم متمايل حتى أطرافها، وقعَ الخطوات، لكن المكان كان أقل ظلمة قليلاً في الساحات، حيث كانت تظهر من وقت إلى آخر أبنية المعابد الضخمة المغسولة (كان بريق الشموع الكهربائية في نوافذها المحمية بالشِباك يتدفأ متورداً فوق الأرض) ومن ثم ممرات الشوارع الضبابية مرة أخرى، التي تخترقها نيونات الواجهات، ومرة أخرى ظلال الجسور نصف الدائرية المتأرجحة فوق القنوات غير المرئية، حيث يعصف فيها الـهواء في الأسفل ناشراً البرد، وتفوح عندها رائحة الحجر المتعفن المغسول بالماء.
ساروا صامتين زمناً طويلاً.

نطقت ماريا فجأة وهي تدس يديها في جيبي معطفها، وجسمها يقشعر:

"لا أفهم. لقد جن العالم كلـه. يبحثون عن الحقيقة في الشذوذ المقرف، ويريدون الإيحاء للناس أن يشمئزوا من أنفسهم. ما الغاية؟ لم؟ هل في مقدورك أن تشرح لي يا سينيور بوتساريللي؟ هل تعلم؟ لا رغبة في النظر لا إلى الرجال ولا إلى النساء بعد هذا الفيلم".

ابتسم السينيور بوتساريللي محذراً، وكان بادياً من وجهه أن السؤال لم يكن مفهوماً كفاية، لذلك رجاها مضطرباً: "ممكن بالإيطالية يا سينيورة ماريا؟"

قالت متنهدة: "سأجرب، حسناً، بالإيطالية".

كررت السؤال، فأجاب بوتساريللي بالروسية مع شيء من الثأثأة:

"أظن أن الإباحية ظهرت كتأكيد من أهل الفكر لذاتهم أيتها السينيورة ماريا. يعتبرونهم، أي أهل الفكر، عاجزين جنسياً تماماً. حينئذٍ، استشاطوا غضباً، وأقاموا، كيف أسمي ذلك، ثورة جنسية، لكن كيف يمكن أن يقال ذلك؟ ظلوا عاجزين جنسياً كما في السابق". ولمس لحيته المنتظمة كما لو كان فزعاً: "هذا ما أظنه أيتها السينيورة ماريا".

قالت، وقد رفعت حاجبيها مفكرة: "شرح غريب. هل تؤمن بأسطورتك الساخرة. هل كل شيء واضح لك؟ أنت محظوظ ما دمت تتصالح مع نفسك بهذه السهولة."

تمتم فاسيلييف، وقد أصابه ضجر لا حدود لـه: "أرى أيها السينيور بوتساريللي أن تاجراً ماجناً قد ابتكر هذا النوع من الجنس، وهو ذاته ـ سياسي محنك ـ بضاعة كأية بضاعة، لاصق طبي ومانع صواعق".

سألته ماريا بشيء من الاهتياج: "لماذا ترجع كل شيء إلى السياسة؟"

"كم أرغب في أن لا تتحدث عن هذا." فكر فاسيلييف بهذا وهو يشعر بالغيرة عليها الآن من ما عرفته بطبيعة عملـها، غير مرة، وربما أكثر منه هو، من قراءتها الروايات الإيطالية والفرنسية لتترجمها.

"ليس إلى السياسة فقط يا ماشا".

قالت ماريا: "ليس كل شيء في السياسة يا عزيزي فولوديا. فالفاشية وكل انحراف في الإنسان مثل عصية كوخ، وإلا لما سرنا ونظرنا إلى كل هراء كهذا".

هتف بوتساريللي موافقاً، وقد برقت عيناه المخمليتان بإعجاب حار: "أوه، نعم أيتها السينيورة ماريا. أوه، نعم. الطلب يولد العرض. إذا لم يكن ثمة طلب فإن ـ ن... لا يوجد عرض. لقد درست الأخلاق، وأعرف أن الروس لا يحبون الإباحية جداً، لكنني أريد أن أقول، إنها... هذه الإباحية، مهما كان هي ظاهرة من ظواهر الحرية الإبداعية، غير الموجودة في المطلق. هنا بداية المأساة."

تمتمت ماريا مستغربة: "بداية؟ لكن ما الشيء المشترك بين الفن وعلم الأمراض؟"

هتف بوتساريللي بصوت عتب غير محق: "أوه، سينيورة ماريا. أليست الحضارة المعاصرة علم أمراض؟ المخدرات؟ العنف؟ تصاعد الجنس؟ التحرك من اللامكان إلى اللامكان؟ انظري إلى الشوارع في روما، ميلانو، باريس. إلى أين تسير السيارات؟ والناس المختلفون فيها؟ نعم، أظن أنهم من اللامكان إلى اللامكان. العالم متعب جداً، وهذا الـ"ريميك" الإنكليزي ـ أديرة الصمت: يذهب أهل الفكر الإنكليزي إليها ويصمتون أشهراً، مثل الخرسان. والـ"ريترو" ـ العودة إلى الماضي... و... الـ"مارغريج"...".

"مارغريج؟"

سأشرحه. إنه السعي الجماعي إلى الموت السريع. يحدث هذا بين الشبان الـهيبيين. ماذا على الفن أن يفعل هنا؟ "قالت ماريا مطرقة، وغارقة أكثر في ياقة معطفها المرفوعة: "كم كل هذا محزن. محزن على نحو مخيف. ماذا سيحدث للناس بعد عشرين عاماً؟ إلى أين يسيرون؟ إلى الـهلاك؟" أكد بوتساريللي: "محزن جداً". ونطق مرة أخرى بحمية مقنعة: "لا يحتاج أحد في العالم إلى الإنسان الآن، ولا يتحدث عن روح الإنسان إلا مجموعة من أهل الفكر. إنهم يريدون شيئاً ما، ويخافون، لذلك يثرثرون عن الإنسانية، وموت الحضارة على الأرض المسمومة، لكن خوفهم هذا يا سينيورة ماريا على أنفسهم، وعلى الثقافة العالمية، وليس على الإنسان، فهم غير مبالين به".

ساروا في العتمة الرطبة عبر الأزقة الحجرية الضيقة، وكانوا أحياناً يصعدون الدرجات إلى الجسور الضيقة المبنية على شكل أقواس فوق القنوات، فيقعون في الأسفل، في الشقوق المبيضة في الجسر، على الرقرقة المائية للمصابيح النادرة، وهنا، على الجسور خصوصاً، نفذت إلى عظامهم الرطوبة الخريفية لجدران الأبنية القاتمة. نامت المدينة منذ زمن، وطرد سوء الطقس في هذا المساء التشريني السياح القليلين في مثل هذه الفترة، ولم يكن في مقدور أحد أن يرى نفساً واحدة. كان الضباب هو السيد في كل مكان، فالتصق بأغوار الواجهات المنارة كالفراديس، والتي لا يحتاج إليها أحد الآن، و انضغط متسللاً إلى نوافذ البارات الليلية الضاربة إلى الحمرة.

جاء فاسيلييف إلى فينسيا مرتين ربيعاً، فحفظها في ذاكرته مشمسة، غاصة بالناس، أما فينيسيا هذه فخريفية معتمة، خالية من الناس وكئيبة: رائحة العفونة القديمة، فيلم ممل، وحديث غير ممتع مع بوتساريللي في الطريق إلى الفندق ـ في كل شيء مذاق الفشل والخداع، وقد بدا صعباً عليه أن يتنفس رطوبة الـهواء.

فكر فاسيلييف : "ماذا يقلقني الآن؟ هل أنا غير معافى حقاً؟"

قالت ماريا وهي تنتفض وتضغط ياقة معطفها على ذقنها: "يا إلـهي، كم أرغب في التدخين. أية رطوبة مرعبة هنا".
تمتم بوتساريللي: "هل قلت؟ أرجوك يا سينيورة ماريا؟" وخطا نحوها خطوة، ومد لـها السجائر وهو ينحني، لكنها ابتسمت، وردته شاكرة:

"شكراً، لا أدخن في الشارع".

تكلم فاسيلييف متماسكاً قدر الإمكان، وشاعراً بخجل لأنه على استعداد لأن يشتعل:

"أعارضك أيها السينيور بوتساريللي، لقد فُهت بكلمات مرة بحق أهل الفكر. أما أنا فأحبهم بنقائصهم كلـها. لولاهم لكانت الحياة مملة جداً، وآلة للمنفعة. لقد تحدثت كناقد، والنقد في زمننا يا للأسف إما دعاية عديمة الحياء، وإما إعدام للموهبة على مرأى الجميع، لاسيما وأن الآلـهة فقط هم القادرون على قتل من هم آلـهة مثلـهم، وليس الملائكة الساقطون. اعذرني، لست راغباً في الإساءة أبداً، لكن النقاد جميعهم تقريباً ملائكة ساقطون واحتكاماً إلى أنك لم تتكلم على أهل الفكر بحب فإنني فهمت أنك أيضاً."

لمعت أسنان بوتساريللي الراضي الفتية على وجهه الشاحب والنحيل كوجه كاهن:

"سينيور فاسيلييف. لم أذكر معرضك في روما بسوء. لم أقتلك. بل على العكس، ثمة أشياء تعجبني جداً. "الثلج"..."الوداع"، "المرأة في اللباس الأحمر"، "بورتريه"... لقد حددتُ منهجك. إنه ليس واقعية اشتراكية بل واقعية الاشتراكية".
عبس فاسيلييف: "وهل المشكلة في المصطلحات؟ الضرب على الجبين كالضرب في الجبين. هل سمعت بهذه العبارة الروسية؟"

هز بوتساريللي ذقنه مستحياً: "في الجبين، على الجبين. سأتكلم هكذا. الناقد في الفن المعاصر هو مومس راقية، وعليه أن يحب الجميع. لكنني لا أحب الكثيرين. مأساتي في أنني أكره بعض الفنانيين، وعلي أن أحبهم، أي أن أصور الحب لـهم كالساقطة".

قال فاسيلييف بحدة: "وهذا، يا للأسف، في العالم كلـه. يا للأسف، لأن الحياة البشرية ما هي إلا حجة للفن، أما الإبداع فهو شخصية، تعبير عنها. فليذهب إلى الشيطان سلوك الساقطين في الفن يا سينيور بوتساريللي".

قالت ماريا بصوت منخفض، وهي تنظر تحت قدميها: "أنت لا تراقب نفسك. لا لزوم لـهذا يا فولوديا. أنت تسيء إليه بنبرتك".
هتف بوتساريللي بطيبة صريحة، وراح يعبر بحركة يديه الرقيقتين عن عدم استيائه: "لا أشعر بالاستياء. طبعاً، كونك موهبة مستقلة لا يمكنك أن تكوّن علاقة جدية بمهنة الساقطة. أنا نفسي قل ما أصبر على مهنتي، لكن ليس لدي مهنة أخرى. أفهم جيداً أن أي إبداع هو شذوذ بارز، وعملية فهمه عمل طبيب نفساني، وليس عمل ناقد صعلوك".

"لم المبالغة؟"

"أليس شذوذاً إنشاء عالم غير موجود على قطعة قماش، بالألوان أو بالكلمات على الورق؟ حتى واقعيتك ياسينيور فاسيلييف.... كيف هذا؟ ليس عكساً للواقع، بل مرآة لذاتك، لـ"أناك" الخاصة. هل مثل هذا العمل هو ممارسة أناس طبيعيين؟ هل طبيعي اللـه الذي خلق عالمنا؟ عاش يرونيم بوسخ في القرن الخامس عشر، لكنه أنشأ في مخيلته عالم البشاعة المعاصر المخيف. لوحته "حمل الصليب" من يحيط بيسوع؟ وجوه قاسية، سادية، تمثل كما بيّن التاريخ غالبية البشر. ليس القادمون من كواكب أخرى، بل أناس قساة صلبوا غريب الأطوار المفعم بالحب. اعذراني، لقد ابتعدت جداً، جداً عن الحديث، لكنني أفكر دوماً: ماذا على موهبة الفنان أن تفعل... هل عليها أن تغفر للبشرية خطاياها الدموية والحروب والقتل أم عليها أن تغضب منها؟ الحب أم الحقد؟"

(انتهى المقتطف)

ناشر النسخة المترجمة إلى العربية اتحاد الكتاب العرب، دمشق (2001).

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011     A عود الند: أدب عالمي     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

بحث: التخييل عند حازم القرطاجني

بحث: الحياة الخاصة للإمبراطور الروماني تيبيريوس

قمــر ينــادي بــدرا

أحملُ الأرضَ الصغيرة مثل كيس من ضباب

كلمة العدد 66: عن الأدباء والمفكرين