عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أمل النعيمي - الأردن

سقوط يوم من الزمن


في غفلة من ذاته، قرر الزمن أن يتقمص شخصية الإنسان ليوم واحد فقط، وأن يتواضع ويهبط على البسيطة عسى أن تسري هذه الرحلة عنه وتخلصه من ملل مزمن أصبح يستشعره في الآونة الأخيرة. ارتدى أجمل الثياب وأغلاها، وتبرقع بوجه رجل وعقل رجل، وخبأ في حقيبة السفر ثياب امرأة ووجه امرأة وعقل امرأة ليستعمل كل ذلك إذا لزم الأمر.

لم يفكر لحظة بثياب ووجه وعقل طفل أو طفلة لأنه كان يعلم أن الأطفال لا يحسنون ارتداء الأقنعة، وأن عقولهم لم تلوث بعد، وأن أجسادهم لو تعرت فان سذاجتهم سوف تحميها. ولم يفكر بثياب ووجه وعقل رجل طاعن في السن أو امرأة عجوز لأن تجاعيده التي اعتاد أن يرسمها على وجوههم ووجوههن كانت توحد بينهما وعقلهما، لا يحسب له حساب إلا حين يحسان بان إقامتهما على الأرض شارفت على الانتهاء، وجسديهما لو تعريا فلن ينظر إليهما أحد.

واجهته مشكلة لم تكن في الحسبان، فقد اكتشف أن مظهره الخارجي وأحشاءه الداخلية صارت مطابقة للإنسان، إلا القلب فقد احتلت مكانه (أجندة). لم يعر الأمر اهتماما كبيرا حينها وتصور أن كل ما يتوجب عليه هو أن يدخل يده في فمه وينتزع الورقة التي تؤرخ يوم رحلته السعيدة. ها، يا للروعة! لقد أتم ذلك بكل يسر فهو إنسان خارق يملك من القدرات ما لا يملكه الناس العاديون.

اختار مدينة يفترض فيها الرقاء وترف العيش. لأول وهلة تجول مبهورا بين أبنيتها، لكنه فوجئ بعد ذلك برائحة نتنة، وعند اقترابه أكثر فأكثر وجد أن مرافقها الصحية تصب جميعا في مسرب واحد ينحدر بدوره إلى حديقة غناء تحتوي من الأزاهير أحلاها، ومن الفاكهة أشهاها. لكن عبق الزهور وطعم الفاكهة كان يختلط بالسماد الطبيعي الذي يغذيها: فضلات البشر.

هرب إلى الطرقات المعبدة المسفلتة، وحينها تذكر انه كان دوما يشتهي التطلع إلى السماء وزرقتها التي طالما سمع عنها حكايا. رفع رأسه لكن السماء لم تكن زرقاء: كان فيها بقايا شفق وقصاصات غسق، وكان واضحا أنها تشتكي من القلق والأرق ودخان السيارات والمصانع والمحروقات. ثم ما لبث أن دفع ثمن تلك النظرة العلوية غاليا حين وجد نفسه يهوي في حفرة تصور حينها أن لانهاية لها.

خلال انزلاقه وتشبثه باللاشيء انتهت الحفرة لتكون بداية سرداب مستعرض حالك السواد. أحس بخوف شديد، ثم أخذ يحمد الله تعالى ويشكره لأن لا قلب له، فلو كان، لأجبره ذاك الرعب السحيق أن يتوقف إلى الأبد. انتهت أخيرا مسيرة السرداب إلى نفق علوي جديد. تسلق بعسر شديد أحجاره القاسية، يهديه لذلك بعض من قبس يأتي من الأعلى. صعد أكثر فاكتشف أن النور كان يمر من ثقب صغير سرعان ما تحول إلى حفرة جديدة بمجرد أن نظر إليه.

كان التعب والهلع قد استنفذا من طاقته الكثير. ارتفع برأسه إلى حافة الحفرة عسى أن يهب أحد المارة لنجدته وإسعافه. مر البعض. كان بينهم اللا مبالي والساخر، والبعض الآخر ارتسمت على محياه شماتة قبيحة. ومضت فكرة برأسه: ماذا لو استبدل ثيابه بثياب امرأة ووجه امرأة وعقل امرأة؟ من المؤكد أن هذا سيغير الكثير. وعندما أتم إنجاز المهمة تجمهر الرجال من حوله، وخلال لحظات كان يقف على سطح الأرض مرة أخرى وهو يبتسم بغنج المرأة شاكرا الجميع. لكن ابتسامته سرعان ما انطفأت حين فوجئ بأحد منقذيه يهمس في أذنه ملمحا إلى ليلة ساخنة، والآخر يعطيه عنوانه ورقم الهاتف، والثالث يشير إلى سيارته الفخمة ويدعوه(ــا) إلى رفقة، وآخر... ثم آخر...

هرول بفزع المرأة إلى حي شعبي متواضع في طرف المدينة. وجد هناك أن الجهل والجوع والمرض لم يترك فسحة من الوقت لأي من ساكنيها ليلتفت ويتنبه إلى ما حوله. ورغم كل الحزن واليأس هناك أحس بالأمان. حاول الاستعانة بتضاريس المرأة الجغرافية عسى أن يغري أحدهم لرفقته، لكن بلا جدوى.

جلس وحيدا على بقايا رصيف وهو يحس بإرهاق شديد، وشيء في أعماقه يدعوه للغثيان، وضجة في رأسه تجعله ثقيلا إلى درجة جعلته يميل إلى أحد كتفيه، ثم انطبق جفناه وراح في إغفاءة من حيث لا يدري. وحين استيقظ انتابه إحساس انه يعيش الفردوس المفقود.

كل شيء كان صادقا وجميلا ونقيا: البيوت. الحدائق. الناس. حتى السماء بزرقتها البالغة الشفافية والتي تعكس طهر النفوس. تمنى حينها لو يستطيع الانقسام إلى اثنين ليرتدي أحدهما ثياب ووجه وعقل رجل، والآخر ثياب ووجه وعقل امرأة. في جنة كهذه لا يحتاج الناس إلى قلوب كي يحبوا. ستتبادل أجندتهما الأوراق وينجبان من الأطفال الكثير. هنا تستحق الحياة أن تعاش وتستمر.

تمختر في تجواله القصير حتى وصل إلى لوحة كبيرة كتب عليها: "أهلا وسهلا بكم في المدينة الفاضلة." وما هي إلا ثوان حتى احتواه شيء رهيب قطعه إلى أشلاء تناثرت في الأجواء، واختلطت بفوضوية لا مثيل لها مع أشلاء لوحة المدينة الفاضلة: دخان ونار وعويل انفجار. وبعد انتهاء الزوبعة الموقوتة تلملمت أشلاؤه، ووقف يذرف الدمع المختلط بدماء الأشلاء البشرية الأخرى على أطلال المدينة الفاضلة. لا يا إلهي، هذا شيء أسوأ من الجحيم.

قرر فورا أن يدخل يده إلى فمه ويعيد اليوم الذي انتزعه في بداية رحلته المنحوسة تلك إلى الأجندة ويترك الكرة الأرضية برمتها، فمن الجنون أن يضيع لحظة أخرى من عمره هناك، ومن الجنون أكثر أن تحتسب الأربع وعشرون ساعة الماضية عليه زمنا. لكنه فوجئ بأن الورقة التي اقتطعها وحاول إعادتها تتنافر مع الورقة التي تليها كقطبين متشابهين.

هنا فقط أدرك الزمن أن الزمن الذي مضى لا يمكن أن يعود. تحول بكاؤه الصامت إلى صراخ، وقطرات دمعه إلى سيل جارف. وبين هذا وذاك لم يكن يدري لم يبكي. شيء واحد أصبح يدركه الآن: كيف يحس الإنسان عندما يمر عليه الزمن مرور الكرام ثم يرحل بلا استئذان، كأن شيئا لم يكن، أو ربما...كان.

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008     A أمل النعيمي     C 0 تعليقات