عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بهاء بن نوار - الجزائر

ورد وعـنـبــر


بهاء بن نوار"لن أنساكِ آلهتي المتوّجة."

"تكذب."

"حتى إن مرّت خمسون عاما. سأنتظركِ."

"تكذب."

"ستجدين كلَّ صباح وردةً حمراءَ على أعتاب بيتك، و..."

"كاذب."

"وبضعَ قطرات من دمعي ودمي، أعتصرها كلَّ ليلة لأجلك."

"كــذاب."

* * *

شروق الشمس، ودقات السّاعة تعلن أيّ عجوز متهدّم صرت. لا أزال رغم كلّ تلك السنوات أستيقظ عند الفجر كلّ يوم، أشذب بعضا ممّا أفسده الزمن من هيئتي، وأرشو المرآة ببسمة مستجدية أو بسمتيْن. أنفض الغبار عن سترتي، وأقطف وردةً حمراء متوهّجةً أو نصف ذابلة من حديقتي.

أستقبل هذا اليوم كما استقبلت وكما قد أستقبل غيره: الطقوس نفـسها أعيدها دوما، والوجعُ نفسه، والكلمات نفسها: "آلهتي المتوّجة."

وفيٌّ جدّا لذاكرتي، ولذا لا أزال إلى اليوم أحتفظ بكومة الرّسائل تلك. أتلمَّسها كلما هزني الحنين، وكلما أدماني الشوق إلى ذلك الشاب الذي كنته يوما.

خمسون عاما أو أكثر وأنا أحتفظ بها، أغمرها باللفائف الكثيرة، وأحفظها أسفل صندوقي الأخضر القديم؛ أتفقدها من ليلة إلى أخرى بعد أن ينام الجميع كما كنتُ أتفقد أصغر أبنائي، وأحرص على ألا يضيع المفتاح مني، وألا يضبطني أحد معها.

كلّ ليلة أمارس الطقوس التعبّدية نفـسها: أغلق باب غرفتي عليّ، وأضيء شمعة تائهة هنا، أو شمعتين. أفتح الصندوق بحذر، وبأصابع مرتعشة أداعب اللفائف والأغلفة. يتصاعد نبضي. ويتوهّج قـلبي. وكأيّ عاشق مبتدئ أحيا مراسم العشق الأرعن القديم. ولكنني لا أجرؤ أبدا على اجتياز أولى العتبات ولا أخراها.

حكايتي هذه لم أخترها. وجدتُ نفسي متعثرا بها كما يتعثر المرء فجأة بقدَره، باسمه، أو بميلاده.

* * *

لم أكن أوّل العاشقين، ولا أنا آخرهم، غير أنَّ للقلب عينيْن لا تعميان، اختارتاكِ وحدَكِ دونهنّ جميعا، في لحظة ملائكيّة تفتـَّق فيها الخاطرُ عنكِ، و ...

"ألا تزال أيّها العجوز تهذي؟ تناجي كومةَ العظام التي اهترأت؟"

"واخضرّت جوانحي الظمأى تهفو لمرآكِ الـنـَّـ..."

"إلى متى تظلّ هكذا: مستقيلا من الحياة وأهلها؟"

"النضر... آلهتي المتوّجة. سيّدةَ النبض، وستَّ العمر والقدَر: إليكِ وحدَكِ أنتمي."

"إلى الحمق تنتمي."

"معبودتي: تخطرين الآن في أبهى تجلّيك."

"معبودتـُكَ الآن كتلةٌ من الرِّمَم النخرة."

"معبودتي: وردٌ، وعنبرْ."

"...................."

"آسٌ، وسكّرْ."

"....................."

"مطرٌ، وتفاحٌ معطـَّرْ."

"بصلٌ، وكرّاثٌ مقشّرْ."

* * *

حبيبتي بياتريتشه (1) دولثينيا (2) أو فيرمينا (3) أيّا كان اسمُكِ فجوهرُكِ عندي واحدٌ دوما، وأيّا كان ما أكتبه الآن عنكِ، فقصيدتي الكبرى فيكِ لم تأتِ بعد: عيناكِ حمامتان لم يقنصهما شرَكٌ يوما، جبينـُكِ اخضرارِ المدى، وصوتـُكِ ألقُ الرّوح يبغي الخلاص، ولا يستكين. سأظلّ كما عهدتني دوما: معلّقا أعلى صليبي، أنتظر دون يأس البعثَ، وأرقب ابتسامَ الرّبيـــ...

"تملكُ إحضارَ الرّبيع بدلَ انتظاره."

"للقلب عينان لا تعميان، لم تبصرا يوما سواكِ: دعيني أكتحل قليلا بألق عينيْكِ الحانيتيْن"

"عينيْها الذابلتيْن، نصف المطفأتيْن"

"أجثو أمام جدائلكِ السخيّة"

"التي شاب بعضها، وتساقط بعضٌ، ولا يزال الباقي ينتظر."

"أغتسل برذاذ صوتكِ الطافي؟"

"هأ هأ. أكل السلُّ الصّوتَ، ونخر اللحمَ، واجتاز العظمَ. والباقي يأتي."

"بذراعي هذه سأحميكِ... "

"ذراع الحلزون الرّخوة هذه؟"

"وبسيفي سأصدُّ عنكِ كلَّ سوء."

"كتلة الصّدأ المثلوم."

"سأقاتل العالمَ كلَّه لأجلكِ."

"وستطعن طواحين الهواء، وتدكُّ الجبالَ، وتروِّض الجنَّ والأبالسة أيضا."

"ساحرتي، قلبي، تاجَ رأسي."

"ثاحنتي، طنبي، تاذ نأثي."

* * *

الآن تكتمل ليلتنا الأخيرة، وكما عاهدتكِ غاليتي: سأفكّ اللفائفَ كلَّها، وأحرّر الذاكرة من تجاعيدها؛ سأطلقكِ، وسأرقبكِ كما أنتِ دوما: حمامةً بيضاء، مسكنها القلبُ، والرّوح.

ألا هبني الجرأة إلهي كي أحرّرها وأحرّر نفسي، كي أسبح في لجّها الغائر دون أن تغرق أو أغرق، دون أن تـُصعَق أو أصعَق:

يا روضة الأمل الكبير،

وواحة الألم الكظيمْ

وردٌ وياقوتٌ ومَرْمَرْ

*****

"هل بلغكِ ما حلَّ بالمسكين أبي زعترْ؟"

= = =

(1) Beatrice: حبيبة دانتي.

(2) Dulcinea: حبيبة دون كيخوته الأسطوريّة.

(3) Fermina: بطلة رواية "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، انتظرها عاشقها أكثر من خمسين عاما.

D 1 آذار (مارس) 2011     A بهاء بن نوار     C 0 تعليقات