فنار عبد الغني - لبنان
آخر أساتذة علم المنطق
"أفلاطون صديقي، والحق صديقي، لكن الحق أولى بالمحبة" (أرسطو، الفيلسوف الإغريقي).
كانت كلمة منطق تثير إشكالاً واسعاً داخل ذهني، وكنت أترقب أول محاضرة لي في علم المنطق بكثير من الاهتمام، ظناً مني أني سأعثر على شيء ذي قيمة عالية، ربما يغير من رؤيتي للأشياء من حولي أو سيضيف شيئاً جديداً على شخصيتي.
لم أكن أعلم شيئاً عن الأستاذ المحاضر سوى اسم عائلته الذي نسخته عن البرنامج، والذي كان يشير إلى انتمائه إلى إحدى العائلات ذات النفوذ المذهبي والسياسي.
وقد وصلتني بعض المعلومات عن طبيعة المادة من بعض طلاب السنة الأخيرة، والذين أدى بهم الإخفاق فيها إلى حملها أربع سنوات متتالية.
دخل الأستاذ إلى قاعة المحاضرات. كان متوسط الطول، أسمر الوجه، لحيته سوداء غير كثيفة، لديه نظرة طويلة، ممتدة، تطل من عينين متحجرتين، يخيل للرائي أنهما واسعتان.
كان يلبس ثياباً قديمة الطراز. وكان أحضر معه كتاب «مقدمات في علم المنطق»: الكتاب الذي قّرر أن ندرسه. لم يعرّف عن نفسه، وبدأ بالتعريف بالمادة المطلوبة، ثم شرع بالحديث عن بعض مصطلحات المادة: المفهوم والدلالة والجوهر والعرض.
وتحدث قليلاً عن أرسطو ثم فرفريوس الصوري الذي ذكره بكثير من الفخر مشيراً أنّه ينتمي إلى منطقته الجغرافية.
وكان يستغرق بأحاديثه الموغلة بالطول والمسرفة بالغزارة حتى تنتهي المحاضرة ذات الثلاث ساعات. وكان يردد دائماً أن المنطق مادة صعبة وجافة.
= «ولكن كيف نستخدم المنطق في حياتنا؟»
وجّه له أحد الطلبة هذا السؤال. أجاب الأستاذ من خلال قصة حدثت معه في حياته، عندما كان مقبلاً على الزواج. حدث أنه اتفق مع نجار على صناعة غرفة نوم كاملة، وقد كتب على ورقة محتويات الغرفة وسلمها للنجار. وبعد مرور الوقت المتفق عليه، عاد الأستاذ للنجار، فوجده قد انجز الغرفة باستثناء قطعة واحدة لم تذكر في الورقة المتفق عليها، وقد اعترض الأستاذ على ذلك لأنه طلب صناعة غرفة نوم كاملة، أمّا النجار فقد دافع عن موقفه بأنّه التزم بما جاء في الورقة. ثم قال لنا:
«أرأيتم كيف نستخدم المنطق في حياتنا؟»
بعد ذلك طلب منا أن نشتري الكتاب المقرر وأخبرنا عن طريقة شرح المادة، وهي أن يقوم كل طالب بتحضير الدرس مسبقاّ ثم يعرضه في المحاضرة. وهكذا مرّت المحاضرة الأولى وتبعتها باقي المحاضرات على هذا المنوال.
كان الأستاذ بين الفينة والأخرى يستعرض لنا مواقفه الحياتية. وكان بعض الطلاب الذين يشكون جفاف المادة يقاطعون بعض أحاديثه المطولة، ويطلبون منه تفسير قاعدة منطقية، وكان يجيبهم:
= «لينساكم الموت. عليكم بحفظ هذه القواعد حفظاّ جيداً، حفظاً عن ظهر قلب، كما تحفظون أسماءكم».
ثمّ ذكر لنا قصة حدثت معه في الطفولة. بيّن لنا من خلالها أهمية الحفظ، وملخصها أنه كان في صفه تلميذ شديد الغباء، وخاصة في مادة الرياضيات، وكان والد ذلك التلميذ معلماً في المدرسة نفسها، وذات يوم دخل ذلك المعلم إلى غرفة الصف بعد شكوى أحد المعلمين من حالة ولده، قائلاّ:
= «يا تيس، لقد أحرجتني أمام جميع المعلمين».
ثمّ أردف قائلاّ: وغادرت وعائلتي الضيعة ولم أعد إلا بعد أن تخرجت من الجامعة وبدأت بالعمل، وقادني الفضول لأعرف ماذا حلّ بالتيس، فإذ به قد أصبح أستاذاً في مادة الرياضيات ويدرس في المدرسة الثانوية.
ولم أصدق الأمر في البداية واستفسرت عن حقيقة ما حصل، واتضح أن ذلك التيس قد انكبّ على حفظ دروسه عن ظهر قلب ومن بينها مادة الرياضيات حتى حدثت المعجزة.
= «هل فهمتم ما قصدته؟»
كان من بين الطلبة الذين يحملون المادة طالبة تعمل ممرضة، وكانت تأخذ إجازة من عملها لتحضر محاضراته، وكانت معجبة به حتى جاء اليوم الذي اعترض فيه على عمل الممرضة، معتبراً أن الممرضة ليست إلا خادمة، وأنها لو كانت بنت ناس ما زاولت هذه المهنة!
وانتهت السنة الدراسية على خير، وتفوقتُ في امتحانات نهاية العام الدراسي، وخاصة في مادة علم المنطق الذي أصبحت فيه مرجعاً لزملائي في دراستها.
ولله الحمد، كنت قد وضعت خطة في دراستها جعلتني أتمكن منها. ولم ألتق بالأستاذ إلا بعد مضي سنين طويلة.
عدت للجامعة لاستكمال دراساتي العليا، وكان مقرراّ أن يعطينا مادة منهجية البحث العلمي في محاضرتين فقط. ولم يتغير شيء في أسلوبه أو طريقته في الشرح. غير أن مواقفه الحياتية كانت قد توسعت أكثر من ذي قبل. لكنني لاحظت أنه قد خسر قليلاً من طوله بعد تجاوزه منتصف عقده السادس!
وفي المحاضرة الثانية والأخيرة، سألته إحدى الطالبات عندما علمت بأنه يدرس مادة علم المنطق، أن يرشدها إلى من يشرف على رسالتها في علم المنطق باللغة الفرنسية.
أندهش من طلبها:
= «أشك أن يوجد محاضر واحد في كل القطر يدرس المنطق باللغة الفرنسية».
= «كانت الأستاذة تشرف على رسالتي لكنها تقاعدت ولم ترغب في تجديد عقدها مع الجامعة».
= إذاً عليك أن تعيدي قراءاتك كلها باللغة العربية، وتعيدي بحثك من الصفر، لأنني أنا آخر أساتذة علم المنطق في كل القطر. نعم أنا وحدي من يمكنه الإشراف على رسالتك».
ووقف مزهواً بنفسه، رافعاً رأسه إلى الأعلى، متقدماً بعض الخطوات حتى أصبح في وسط المنصة، ونظر إلينا بعينين لامعتين، مطلقاً ضحكةً مجلجلة، مدويّة، مسرفةً في جريانها المتصاعد، موغلةً في طولها، ومن فرط امتدادها ظننّا أنها لن تنتهي.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ