أسماء عبد اللطيف حمد - فلسطين
خماسيات الشاعر فراس حج محمد
تعدُّ الخماسيات شكلاً من أشكال المقطعات الشعرية، فهي شكل فني أصيل في الشعر العربي، بما فيه من قيمة أدبية وإضافة إبداعية للشعر الفلسطيني، ولما لها من سمات فنية ليست لسواها من الشعر، فقد بدأ تاريخ المقطعات منذ بداية قول الشعر، فالخماسيات نوع من أنواع المقطعات، ونمط تعبيري، وقد أشاد بها النقاد، فقد قال السامرائي:
"إنَّ ظاهرة المقطعات الشعرية قديمة قدم الشعر، وإنَّ هناك أسباباً كثيرة دعت إليها، أو الاختصاص بها، وقد نظم فيها عدد من الشعراء، وكان بعضهم أكثر ميلاً إليها، وأقدر عليها من سواها[2].
وقال ابن منظور: "وقالوا شعراً قصداً إذا نقّح وجوّد وهذّب – وليست القطعة إلا ثلاثة أبيات أو عشرة أو خمسة عشر، فأما ما زاد على ذلك تسميه العرب قصيدة "[3].
وهذا التحديد من جانب النقاد، يعدُّ قمة الفن وجوهر العملية الإبداعية، وتحديد القطعة فنياً فيتمُّ مع اكتمال المقطعة فنياً، بحيث تتمُّ معالجة فكرة ما، معالجة موضوعية وأسلوبية وصورية وموسيقية، معالجة يشعر معها القارئ أو المستمع أنَّ الشاعر في المقطعة قد استفرغ جهده، ووضع كل ما تمليه عليه آلته الشعرية. وقد شهد الشعر العربي الحديث بعامة والشعر الفلسطيني بخاصة كثيراً من المقطعات فائقة الأسلوب.
تبدو تجربة فراس حج محمد الشعرية أقرب إلى نموذج شعرية البساطة، في إطار حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر. وخماسياته مثل حبات لؤلؤ انقطع عقدها، فتناثرت على الجمهور، وسالت أبيات شعر الخماسيات التي صدح بها، فدغدغت المشاعر ولامست الوجدان.
مفهوم الخماسيات
الخماسيات جمع خماسية، وهي قطعة شعرية، تتألف من خمسة أبيات، ترتبط بمعانٍ متقاربة منطلقة من فكرة أساسية.
لم يعدّ النقاد القدامى الخماسيات في عداد القصائد، لأنَّ القصيدة في عرفهم لا تقلُّ عن سبعة أبيات أو تسعة[4]، وسوف نلحظ أنَّ إبداع الشاعر حج محمد في هذا النوع من الشعر يزحزح العرُف النقدي القديم، ويجعل خماسياته تحلُّ محلها اللائق بين القصائد.
شعر المقطعات، بطبيعته، نوع من الشعر الذي يفيض بتجربة منفردة، فهو نسيج تمازج المؤثرات الخارجية بالغليان الشعوري الداخلي للشاعر، وهو أشبه ببصمات، فحواها الوحدة العضوية، فالأبيات تتلاحم لتلقي بظلالها حول إطار التجربة الشعورية، حيث قال ابن طباطبا العلوي:
"وأحسن الشعر ما ينتظم فيه القول انتظاماً يتسق أوّله مع آخره، على ما ينسقه قائله... وأن تكون كل كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجاً وحسناً وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معانٍ وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يضيفه خروجاً لطيفاً[5].
تمثل هذه الخماسيات نوعا من التفرد في الشكل الشعري الذي يحبس جزءاً من عمر عبارات لا طويلة ولا قصيرة، وإنما هي بمعدل ما يتوقها السمع تنتهي فعلاً ويرتاح الشاعر حين تنفجر، فقد ذكر الشاعر حج محمد في ديوانه "أميرة الوجد"، أنَّه أضاف إلى ديوانه هذا خماسيات، وعددها مائة خماسية، شكلّت نصف قصائد شعره في هذا الديوان الصادر في جمعية الزيزفونة (رام الله-فلسطين)، ولم يضع عناوين لهذه الخماسيات، مع العلم أنَّ للشاعر قصائد طوالاً في نفس الديوان وعددها ثلاثون قصيدة من الشعر الحر والعمودي، ووضع لكل قصيدة عنوان يميزها.
التعريف بالشاعر
هو ابن قرية تلفيت (فلسطين). ولد عام 1973. يعمل مشرفاً تربويا في مديرية التربية والتعليم، جنوب نابلس. حاصل على الماجستير في اللغة العربية، ومتخصص في الأدب الفلسطيني الحديث. نشر له عدة دواوين شعرية، وهي: "أميرة الوجد"؛ "مزاج غزة العاصف"؛ "وأنتِ وحدكِ أغنية"؛ "الحب أنْ"؛ "ما يشبه الرثاء"؛ ومجموعة قصائد للفتيات والفتيان. وله مؤلفات نقدية نثرية عدة. وهو عضو في هيئات ثقافية متعددة، وشارك في العديد من الأنشطة الثقافية والأمسيات الشعرية والندوات والمؤتمرات.
تبدو تجربة الشاعر فراس حج محمد الشعرية أقرب ما تكون نموذج شعرية البساطة في إطار حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، فجودة الشعر لا تقاس بطول القصيدة، ولا بعدد أبياتها، بل في جوهره الذي يتجلى بالقيمة التعبيرية والشعورية بما تحقق من جمالية وبيان، وقد لاحظ النقاد أنَّ المقطعات قديمة قدم الشعر، وأنَّ هناك أسباباً دعت إلى الإكثار منها، والاختصاص بها، كما قيل: "فالقصيدة هي التي تفرغ مني، ولست أنا الذي يفرغ منها، مما يدل على علاقة وثيقة بين الشاعر وشعره"[6].
وقد ترجّح لدينا أنَّ هناك سببين نفسيين لاختيار الشاعر هذا اللون من الشعر – الخماسيات، بحسب الطبيعة المتوعدة ذات الطاقة وقوة اللحظة الروحية والشعرية، التي تشتمل على فكرة واحدة أو تجربة واحدة، والرجل بمثل هذا الطبائع يختار هذا الأسلوب ويستريح إليه، فالشاعر يترك نفسه على سجيتها في لحظات تجلٍّ عابرة أو نادرة، إذ يقول في الخماسية التاسعة:
مساءُ الخـير يـــا ورداً يـفـوحُ = = بـعــطر ذاع أســـرارًا تــبـوحُ
وتسطع في الفؤاد كصنو رؤيا = = فتشدو النفس والأمل الصريح
وتجــنح بالمـنى أصــداء معنىً = =فيكتب سطرها الشعر المـبيـح
لـهـا غنَّى المـغني فــي حـنـانٍ = = فردد شــدوه الحـرف الفصيحُ
ليغـزل مـن مساء الخير روحاً = = يعـانق روحـها الـقلب الجريحُ[7]
أما السبب الأول، فهو البعد الروحي لتجربته الشعرية التي تمتح من معين تجربة حبٍّ قاسية مرَّ فيها خلال مرحلة من حياته، وإبراز مدى التجلي والإشراق بحيث تكون خاطفة عابرة، أو خاطفة مع تركيز عميق، والسبب الثاني لاختيار الخماسيات هو طبيعة الإبداع الشعري القائمة على وثبة نفسية أو مجموعة خفقات، تفرغ في شحنة توتر نفسي نتيجة التقاء التجربة المثيرة بتجربة الشاعر المختزنة في ذاكرته، وتنتظمان شيئاً فشيئاً، فيكون من انتظامهما خماسية تتلقاها، هذه الخماسية التي تتكّون أبياتها كلاً متكاملاً في وحدة دينامية تتكون من عدة وثبات وليس من عدة أبيات.
ولما كانت طبيعة الشاعر ذات طاقة تتوهج في لحظات أو وثبات نفسية شعورية تستوعب فكرة واحدة أو تجربة واحدة استراح الشاعر لها، ونجده يترك نفسه على سجيتها، وهو كذلك ذو مشاغل وأسفار متصلة في الوقت نفسه.
هيكلية الخماسيات وعددها وسماتها الفنية
تدور أحداث خماسيات حج محمد حول صراع المشاعر وردود الأفعال الإنسانية، والخيارات والحتميات خصوصاً الحب والكره والحياة والموت والعداوة والانتقام، وسط جدلية أزلية بين ما نختاره بإرادة قلوبنا وعقولنا، وما يفرضه القدر، إذ يقول:
سأظلُّ أكتبُ ما حييتُ قصائدي = = في الحبِّ والأحباب والآمال[8]
تمثل مرحلة الخماسيات في حياة الشاعر، مرحلة التأمل في الكون والحياة، والتفكير بالوضع الإنساني والحب والفخر وتمجيد الأنا، فاختار الخماسية كشكل شعري ثابت يعبر من خلالها عن أفكاره ومشاعره.
وتمثل الخماسيات مشهداً نفسياً منسجم العناصر، ولهذا كان خليقاً بالسطر الشعري أن يسمى جملة إيقاعية، ولنا في كل خماسية قافية موحدة، وهي تمثل وحدة بنائية بصرية تدركها العين منذ الإطلالة الأولى لكل خماسية، ويجعل لها بعداً دلالياً في عالم الشعر المتجدد، فهي تعبير عن حالة الإرباك التي يعيشها الشاعر فكرياً واجتماعياً ونفسياً.
ويبدو أنَّ الشاعر مارس هذا النوع من الشعر ليجعل المتلقي أو القارئ يشاركه مأساته، مما يجعله يشعر أحياناً بالإحباط أو الملل من سماع كثير من التفاصيل الشعرية، وقد مارس هذا الأسلوب ضمن الشعر العمودي، ليوضح مدى نجاحه في تحقيق الغاية التي يرتأيها، فقد أحالت الشاعر إلى رسام لديه الدفق بأكمله، لكنه مضى فقط، برسم لوحة محددة.
تعالج هذه الخماسيات حالة عاشق، ويصور فيها حياته بأدق تفاصيلها متنقلاً بين صورة وأخرى في إطار إبداعي، حيث رتّب الشاعر خماسياته على تمام حروف المعجم، وعلى كل روي مجموعة من المقاطع التي ناهزت في مجموعتها مائة خماسية، متبعاً في ذلك جملة من الشعراء الذين رتبوا قصائد دواوينهم وفق هذا النمط.
وتركز خماسياته على الفكرة والمعنى الواحد، وأنَّ البيت الواحد يعطي الإشارة إلى المعنى الذي تدور حوله سائر الأبيات، ولا يكون لها عدة أغراض بخلاف القصيدة، لأنَّ معناها لا يتضح إلا مع نهاية أبياتها، وبهذا الفعل يريد صاحب الخماسية أن يشعر القارئ بأهمية الموضوع المعالج منذ البداية حتى النهاية.
الشاعر صاحب شاعرية مملوءة بأفكار وتأملات، ومواضيع شعره لائقة حسب الأحوال والأوقات، إلى جانب طبيعته النفسية المزدهرة بالإبداع الفني والعاطفة الوجدانية[9]، وقد أشار حج محمد في الديوان إلى وجود مائة خماسية تقسم هذا الديوان الذي ابتدأه بقصائد جمع فيها بين الشعر الحر والعمودي.
خماسياته صُنعت من إيقاعات جديدة، ومن معانٍ ذات ألحان في شدو جميل، ومنها نظرات حكيمة إلى الحياة، تريك منها ما خفي عليك، وتصور لك معالمها، بخيرها وشرّها، فتحسُّ فيما يكتب الشاعر روح الشعر، التي تعطينا أثراً رائعاً يتجلى فيه براعة شائعة.
وفي هذه الخماسيات لم تخرج على المألوف من أوزان الشعر، ولم يفقد الشعر جماله ورونقه، وقد التزم الشاعر موسيقى عذبة لها إيقاعها الجميل في الأذن المصغية، أظهرت المقدرة الإبداعية عند الشاعر، وآذاننا بطبعها قد ألفت هذا النغم.
خماسياته جاءت جلّها على أوزان للبحور مختلفة من الوافر والكامل، والهزج الذي يحاكي البحر الوافر، إلا أنّه أقلُّ رتابة لجمعه بين (مفاعلين، مفاعيلن) في أغلب الأحيان، وهذا القالب الشكلي الذي ورد في شعر حج محمد هو نظام الخماسيات، وفيها قسم مقطوعته إلى خمسة أبيات كل بيت شطرين، حيث تلتقي قوافي الأشطر في كل قسم، وعلى روي واحد، فهو بذلك يرضي رغبتين عنده، رغبة تتمثل في وفائه للشكل العمودي، ورغبة تمثلت في القوافي المنضبطة والمتنوعة، ومن انتقالات إيقاعية يطمئن إليها.
خماسياته حسنة بليغة، تميزت بالسلاسة، فيجعلها في متناول المختص وغير المختص، وقد بنى بعضها على تفعيلات البحر البسيط، بتخلق من استدعائه بلورة دلالية تؤشر رغبة الذات المسكونة بالرفاهة والحلم في التماهي مع فضاءات النص المستمد من عمق الذاكرة المتأججة بالقلق والارتباك، والبحث عن الهوية وتشكيل قصيدة حوارية طريفة بين "الأنا" الأنثوية والآخر، إذ يقول:
ولملميني، أعيدي صوغَ ذاكرتي = = وعمدي الوجد، يا طهر الهوى الحالي
وراقصيني على أهداب مقلته = = يحلو الغنا ويموج الكون في العالي
وسامريني بنور النجم جمّعنا = = وحرري الروح يا أشواق آمالي[10]
أما الخماسية التي يقول فيها:
ظلّي بفكري بحضن الغيب آمنة = = فالقلب يراعك في بعد وفي قرب
إنْ كنتُ أشتاقــه في كــلِّ ثانية = = فـاليوم يـأتي بجرحٍ غــائر يُربي
يكفيكِ صدّاً فروحي أثقلت وجعاً = = ردي لحرفي بحرفٍ نبضه يُصبي[11]
فتنصرف في بنيتها الدرامية إلى التوغل في عالم الأنوثة، حيث يجتاحها الشك وينتابها الظنون، فتنغلق "الأنا" على مكابدة وحيرة، لذا فإن الحوارية القصصية تغني ملامح الآخر، وتبوح بؤرة النص ومحور الأساس الذي يدور حول تفتت الإحساس بالحياة، أمام معادل الوحشة والوحدة، وخاصة حين ننظر إلى تعاقب جرس القافية وحرف الروي، نحدس رغبة النص في استثماره قدرة الحرف "الباء المطلقة" على التنفيس عن الأنين المكلوم الكامن في طبيعة حرف الروي[12].
ويصوغ البيت الثاني فضاء وعظياً يرتكز على تشبيهية للقصيدة، كما أنها تفيض على جسد النص بمدلولات تؤشر بعبثية الرجاء ضمن همس الرجاء، إلى جلجلة الرغبة في الانعتاق بعيداً عن قيد الآخر وسطوته.
يقيم الشاعر مناجاة مع قلبه في واحدة من خماسياته، تذوب فيها "الأنا" في جزء مهم من الجسد وهو القلب بمعناه الآخر، الذي يعادل الشاعر نفسه، فيتوجه إلى القلب تودداً أو عتاباً وشكوى، وكانَّ القلب شخص خارجي يستند إليه الشاعر لإفراغ شحنة الأسى والحزن الذي ينتابه، جرّاء سوء الواقع المعيش، إذ يقول:
يعذب المرء شيء، اسـمه الأمل = = كما تعــذبه في جرحه الأسلً
يا روح نامي فلا يهديك مضطهدٌ = = موج على رسله يرميه ينتعلُ
هــذي جـوانحنا الآهاتُ تشـعلــها = = تهب شارحــة في الأفق تنتقلُ[13]
وهو يناجي قلبه، ويلومه على طبيته الزائدة وإخلاصه الكبير، الذي لا تقدره الحبيبة، فيلجأ الشاعر إلى فؤاده، فيختفي وراءه ويتوارى بحسناته وسيئاته، بصفته الفؤاد، وهو الشاعر نفسه، فراح يعلي من أثر صيانة الكبرياء وإبقاء الكرامة في معارجها النورانية مصونة، إذ يقول:
وروحي كأصل التبر يزداد بأسها = = بكلِّ شديدٍ في البلاء يُغارمُ[14]
تنهض هذه الخماسية على خطاب الآخر وهي المحبوبة، التي تبدو فاعلة رغم إضمارها وتبديه بصورة ضمير "الكاف" في صباحِكِ"، إليكِ، وتتداعى الخماسية عبر استرخاء تذكاري يتوضح دلالياً من خلال بعض الجمل الاسمية والفعلية "هانت عليكِ"، صباحُكِ إذ يفوح العطرُ منه، الصباح الذي شبهه بتفتح الأزهار العطرة، وهذا التشبيه في دلالته من الواقع إلى الخيال، كي يتواءم مع دلالات السياق، الذي جاء يصف الصدّ ووحشة النفس، وهذا المناخ النفسي الذي يؤسس خماسية شعرية، فنجده يقارب حقول اللغة المتباعدة، إذ يجمع بين الفؤاد الرقيق وحالة الماء الذي يسكب عبر تسلسل زمني يمضي متدرجاً بالحدث، حتى وصوله لحظة التأزم التي تبدو في انبلاج صباح عيد يحمل البشرى، إذ يقول: (مجزوء الكامل)
عيد إليكِ أتى سلاماً قلبي = = المحبُّ، إليكِ راما[15]
وتكشف عن نمط آخر في المعالجة في بنيتها اللغوية من الأسماء التي سيطرت بوضوح على معمارية المتن كله. ولولا وجود الأفعال المضارعة (يحمل، يرقص، يحاكي، تشكلُّ)، لكنا أمام لوحة صامتة خالية من الحركة والحياة، إذ يقول:
ويرقص بالهوى خجلاً طروباً = = محمر الخدود يهــلّ شـهـدا
يحـاكي النفس ملتاعــاً شهيداً = = ويرفلُ سادراً للحبِّ يُهدى
جمعنا ما تشكّل من دمانا نصوغُ الوجد ألواناً ووردا[16]
وهذا الصمتُ ينسجم مع حالة التعبير عن الألم الذي يكتنف الشاعر، وهو ما جاء وسماً دلالياً لعنوان مختار.
وفي الخماسية الثانية والخمسين نجد أسلوب الخبر والإنشاء يتبادلان الدوار، حيث تبنى الأبيات الأولى على أسلوب الخبر، وتأتي الخاتمة أو البيت الخامس إنشائياً، إذ يقول:
وأحبُّــهــــا وتحبــني = = ويحــبُّ جملــتها بــريــدي
غــازلتــُها فتبســمت = = ومشى الغرام إلى وريدي
جـالستــها فترنـمــت = = لــحنــاً ينــغم في السعودِ
وتكلــمت تشــدو كما = = شـدو الكنار على الورودِ
ذلك لأنَّ البنية الداخلية للتجربة الشعورية قائمة على عرض حال وضعه العاطفي مع صاحبته، فكان البيت الأخير أو الخاتمة كما رأينا يطرح الحل، فيقول:
يا حبُّ كن كل المنى = = يا بهجة الآمال زيدي
فهذا البناء المتماسك ليس متكلفاً في خماسياته كلها، ولا سيما التركيز في البيت الأخير، الذي يتمتع بهذا الحل.
أهمية الخماسيات وسماتها الفنية
حين نتأمل خماسيات فراس حج محمد نلحظ الخبرة الإبداعية الطويلة، وما تحمله من تجربة إنسانية في ممارسة الشعر، ونجد أنّها تحتل جملة من الانفعالات النفسية والعاطفية المتدفقة، واللغة في صور حيّة، فتبرز مقدرة الشاعر على إخراج ما تجيش به النفس، فتنصاع له قريحته، أو بحكم رحيق العاطفة المتعبة وجدانياً من شوق وحرمان انتظار وألم وأمل.
تعتمد خماسياته على وجود عاطفة واحدة سائدة، ويلعب الخيال دوره في توحيد المتنافرات وإحلال التوازن بين المتناقضات، ويبدو أنَّ الشاعر اهتم بالإيقاع الداخلي المتمثل بأوزان البحور الخليلية لما تتمتع به من تدفق وتعاقب للحركات، ووصف الحالات الانفعالية، وتعبيراً عن العواطف الهائجة، واختياره لوزن يدل على حالته النفسية[17]، أو ذوق العصر، فما يستحدثه الشاعر من نغمات كلامية، عن هو إلا صدى لما يتردد في بيئته، وهو يعيد صياغتها.
ولجأ حج محمد إلى نمط القفلة المفتوحة في بعض خماسياته، من أجل مشاركة المتلقي في استكمال أبعاد خماسيته الدلالي وامتداداتها، وهي قفلة غالباً ما تكون على شكل تضمين أو اقتباس ديني أو أدبي أو تاريخي، ومن ذلك قول في خماسيته الثالثة والتسعين:
كنتِ برداً وسلاماً = = كنتِ ماء السلسبيلْ
وتبدو هذه الخماسية أقل وهجاً من غيرها، وهذا ما يؤكد مكانة محبوبته، فهي الأبهى والشفاء والأمل والأماني ومكان الراحة، وسرعان ما يعود، ويقبض على جمرة اللغة الشعرية، بالتصوير الذي يعتمد تقنية التشبيه، فالمحبوبة برد وسلام، وثمة تناصية مع القرآن الكريم مع مخالفة سياق النص، في قوله تعالى: "قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم"[18]، ولكنه نار الشاعر وقلقه تطفئه ماء السلسبيل، وهذا الاستدراك جعل الخماسية ذات قفلة مفتوحة على تعدد الاحتمالات.
لم يؤرّخ الشاعر لخماسيات أشعاره، مع ذلك نلحظ أنها نظمت على فترات مختلفة من عمر التجربة العاطفية التي مرّ بها، إذ يحمل بعضها التوهج العاطفي، مصوراً مجاهدته للعواطف الإنسانية، ومفاتن المرأة المحبوبة، إذ يقول:
يا أعذبَ الإحساس يا غالي الوفا = = يا روح قلبي يا جنوني المصطفى
نــار تجـوب العقــل تترك ريحها ت= = ُشـقى مآلاتي وحــزني المكــلفــا[19]
وأحيانا يظهر في بعض خماسياته النضج التأملي الذي يغلب عليها جانب العقل على العاطفة، إذ يقول:
هل للمسافــات الكــليمة نــابُ = = أم أنَّ حـرقــة ليـلتي أنـخـابُ؟
أمشي على وجعي كأنَّي حامل = = كــل القنابــل والــردّى خـطّابُ
متوجسٌ أهــذي بكــلٍّ طريقــةٍ = = ذهــبت مسّرتها وحــلَّ سـرابُ[20]
فهو لم يصرح باسم المكان والزمان الذي نظم فيه هذه الخماسيات، فقط جعل من قطع خماسياته كائناً فنياً ذا موضوع متماسك الأجزاء، قوي البناء، ذات وحدات فنية متقنة السبك، متساوقة مع الفكرة والموقف العاطفي، فالشاعر يعبر عن تجربته متدرجاً من منطقة المشاعر الضبابية خطوة خطوة، ثم يظل يتطور موقفه العاطفي إلى أن يصبح ملموساً حيث يقول:
أحبكِ يا فتاتي للخصال الأربعة = = فيكِ الجمال موله ما أروعه!
حلت على ربواتها مثل الرُّبا = = تشدو الحنانَ ببرجها مترفعةْ
ناجي فؤادي يا عبيراً فاتناً = = فالحبُّ للذكرى تعود لتسمعه[21]
ونلحظ أهمية الدور الذي تنهض به الخاتمة أو البيت الخامس لدرجة حمل بعض النقاد على تفاوت شعر حج محمد حين نلحظ قوة الخواتيم، وشدّة أسرها، وهيمنتها على النص ثم على القارئ، وعلاقتها الحيوية مع أجزاء الخماسية.
ويتميز هذا النمط من الشعر بعدة خصائص منها:
(1) أن الوحدة العضوية المتكاملة أكثر وضوحاً، لأنها تستند على موضوع واحد، وجميع كلماتها تشكل ترابطاً مكثفاً حول الفكرة، التي هي قطب النص ومحوره. ونلاحظ ذوبان الذات والزمن في عالم ذلك الموضوع، وكذلك معانيها وسكناتها منجذبة نحو النص، ومركزه ضمير الغائب (هو)، ونلحظ النص عند الشاعر يتمحور حول لحظة مميزة مع الحبيب وصدّه، لأنها شعلة مضيئة من شعوره العميق والنشوة العارمة التي تذوب فيها الأنا والزمن والمكان.
إنَ وحدة الخماسية النفسية وفرّت فيها الوحدة العضوية، التي وجدناها في تماسك الهيكل وقوة البناء، وهناك عوامل أسهمت في قوة البناء، والوحدة النفسية الشعورية، واعتمادها على قافية موحدة، واعتماده على صيغ نحوية تشدُّ من ترابط التراكيب والعبارات، ومن ذلك خماسيته الثامنة والثمانين، إذ يقول:
يــا مـهـملاً قــلبي كـفــاك = = قلـبـي تـعـذب فـي هــواك
لو تطلبنَّ الروح تسري = = كالنبض تسري في رضاك
أنتَ الحبيب على المدى = = هـذا الـفراق غــدا امــتلاك
فتـخـلصنْ مــن هـمــه = = وتـعـانـقـــنْ قلـبـي المـــلاك
لا تهـمـلنْ شـوق الرجا قــد = = عشـتُ أحيـا في هلاكْ
التي قسمها إلى قسمين من حيث الهيكل أو البناء، فالبيت الأول بدأ بالنداء دلالة العتاب، والمقطع الأول يشتمل على بيتين: الثاني مبدوء بحرف شرط (لو) امتناع الامتناع، أما المقطع الثاني الذي يشتمل على البيتين الآخرين المبدوء بحرف فاء واقعة في صدر جواب الشرط (فتخلصنْ من همه)، إذ لا تتم الجملة الشرطية إلا بهذا الجواب، ولا يطرد المقطع الأول ما لم يلتحم مع المقطع الثاني نحوياً ومعنوياً، فإنَّ كل ما ورد من أفعال في المقطع الثاني ممتنعة الحصول لامتناع حصول الأفعال الواردة في المقطع الأول.
(2) اللغة المقتصدة: الاقتصاد في اللغة من سمات هذا الأسلوب من الشعر، ليس فقط في قصر المقطوعة، بل أيضاً في خلوها من الزوائد واعتمادها الإخفاء والإيحاء، وإبراز جوهر الفكرة فيها، ومن ذلك قوله في خماسيته الثالثة والستين:
ويعاود القلب الجريح غناءه = = والعجز قد صاغ اللحونا
ونلحظ الاختزال في المفردات، فلا نعوت إلا ما هو ضروري، وبكتلة كلامية متراصة، وبعوالم من المعنى واسعة، ذات إيحاء وعمق كبيرين، إذ يقول:
وتجدِّدُ الرؤيا شروقاً طافحاً = = فتســافرُ الآمــال فـينــا
العبارة تتجه بقوة نحو النهاية في بناء متراص، ومن خلال ظلال الدلالات تنفجر الجملة على فضاء واسع من البوح والإيحاء.
(3) الموسيقى في الأدب، لا سيما الشعر، قرينة التوهج العاطفي والنفسي وثمرتهما، وقد يخطر على البال أنَّ شعر الغزل عند فراس حج محمد يغلب عليه الطابع العاطفي في التعبير عن مشاعره الجياشة، بالالتزام بالبحور الخليلية الشعرية والقوافي، حتى القافية اكتنزت بمعطيات علاقتها بما قبلها وما بعدها، وأنّه ملتزم بعروض الخليل، وأنّه نظم في عدة بحور منها الكامل والوافر والرجز والرمل والبسيط والهزج[22].
الخاتمة
أبدع الشاعر فراس حج محمد في هذا النمط الشعري، وشدَّ تجربته إلى العروض العربي الذي احتضن الشعرية العربية القديمة، وصيّرها أنموذجاً في التأليف، بما لديه من قدرات لغوية ومواهب فنية، وعلم وافر في مواكبة الخماسيات، التي تعبر عن مشاعره وأحاسيسه في موضوعات كثيرة منها الذاتية. ولم يخذله قلمه، ولم يتوانَ عن إرضائه بلغة سلسة تتدفق كشلال يبهرك ببهائه وصفائه.
ولم يقف الشاعر الفلسطيني من الأدب موقفاً سلبياً، ولم يخضع شعره لقالب بعينه، ولم يعش تحت ظلِّ تجاه أدبي بذاته، لأنَّ الشعر عنده هو الوجود كله الذي يكشف عن عبقريته وحكمة الإنسان، فقد التزم بمعالجة القضايا الإنسانية، على الرغم من ذاتيته التي سبح في أعماقها. ومن هنا نطفو على سطحهما بأسلوب يزدان بالدقة والعذوبة، وتزاحم الصور والأخيلة، إلى جانب ابتكاره وإبداعه، ومحافظته على الوحدة العضوية للنص في تناغم موسيقي جذّاب.
= = =
الهوامش
[1] إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر، ط5، المكتبة الأكاديمية، القاهرة،2007م، ص 53.
[2] السامرائي، يونس: ظاهرة المقطعات في الشعر العباسي، مجلة آداب المستنصرية، العدد 8، 1984م، ص 337.
[3] ابن منظور بن محمد بن مكرم: لسان العرب، ج2، دار صادر، بيروت، ص 353.
[4] عبد النور، جبور: المعجم الأدبي، ط1، دار الملايين،1984م، ص 552.
[5] ابن طباطبا العلوي، محمد بن أحمد: عيار الشعر، تحقيق محمد زغلول سلاّم، منشأة المعارف مصر، 1984م، ص 213.
[6] سويف، مصطفى: الأسس النفسية للإبداع الفني في شعر خاصة، ط1، دار المعارف بمصر، 1951م، ص 305.
[7] حج محمد، فراس: ديوان أميرة الوجد، ط1، جمعية الزيزفونة، رام الله، 2014م، ص 104.
[8] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 55.
[9] حمدان، ابتسام أحمد: الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي، ط1، دار القلم العربي، سوريا – حلب، 1997م، ص 186.
[10] ديوانه أميرة الوجد، الخماسية 47.
[11] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 57.
[12] أنيس، إبراهيم: موسيقى الشعر، مجلة الخفجي، السنة 15، العدد 11، فبراير 1986م، ص 73.
[13] ديوانه أميرة الوجد، الخماسية 92.
[14] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 68.
[15] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 3.
[16] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 6.
[17] عز الدين، إسماعيل: التفسير النفسي للأدب، منشورات اتحاد الكتّاب العرب،1998م، ص 58.
[18] سورة الأنبياء، آية (69).
[19] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 34.
[20] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 96.
[21] ديوانه أميرة الوجد: الخماسية 35.
[22] الملائكة، نازك: قضايا الشعر المعاصر، ط3، مكتبة النهضة، 1428هـ، ص 164.
= = =
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
ابن طباطبا، محمد بن أحمد العلوي: عيار الشعر، تحقيق محمد زغلول سلاّم، منشأة المعارف، 1984م.
ابن منظور بن محمد بن مكرم: لسان العرب، ج2، دار صادر، بيروت.
إسماعيل، عز الدين: التفسير النفسي للأدب، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، 1998م.
الشعر العربي المعاصر، ط5، المكتبة الأكاديمية، القاهرة،2007م.
أنيس، إبراهيم: موسيقى الشعر، مجلة الخفجي، السنة (15)، العدد 11، فبراير 1986م.
بدران، محمد عبد الحميد: المقطعات الشعرية أصولها وسماتها، مجلة حوليات للتراث، العدد، 11، 2011م.
حج محمد، فراس: ديوان " أميرة الوجد " جمعية الزيزفونة، رام الله – فلسطين،2014م.
حمدان، ابتسام أحمد: الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي، ط1، دار القلم العربي، سوريا–حلب، 1997م.
السامرائي، يونس: ظاهرة المقطعات في الشعر العباسي، مجلة آداب المستنصرية، العدد 8،
1404هـ - 1984م.
سويف، مصطفى: الأسس النفسية للإبداع الفني في شعر خاصة، ط3، دار المعارف، مصر، 1951م.
شربل، داغر: تحليل النص، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1988م.
عبد النور، جبور: المعجم الأدبي، ط1، دار الملايين،1984م.
نازك، الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، ط5، مكتبة النهضة، 1428هـ.
- غلاف ديوان أميرة الوجد
◄ أسماء حمد
▼ موضوعاتي