عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

السيد غضبان


زكي شيرخانعلى مدى عمري الذي تجاوز الثلاثين، لم ألتق بشخص يطابق اسمه صفاته بالشكل الذي عليه السيد غضبان. السيد غضبان، الأربعيني، يغضب بسبب وبدونه. متجهم، متبرم، شاكٍ من كل شيء ومن لا شيء. وسامته وأناقته خادعتان لأكثر الناس فراسة إن لم يتحدث.
جمعتني به الوظيفة التي سبقني إليها بما يقارب العقدين. موظف، باعتراف الجميع، مواظب، متمكن من اختصاصه، مخلص في عمله، حريص. لا أحد يستطيع العمل معه بسبب التوتر الذي يخلقه بسلوكه مع الآخرين. في بداية تعيني كان لا بد وأن أكون معه في نفس المكتب لاكتساب الخبرة، كما قرر المدير.

= كان الله في عونك. راهنّا أنك ستستقيل بعد أسابيع.

هذا ما قاله لي أحد الموظفين، ما أن بدأت العمل. المدير كان صريحا معي وأخبرني بما يعتبره من سلبيات السيد غضبان. ما كان مني إلا الابتسام مما دفع المدير أن يستغرب. توقع غير ردة الفعل هذه، وإن لم يعلّق. في العادة، لا أبالي كيف يتصرف الناس إن لم يمسني سلوكهم شخصيا. أستطيع التعامل مع الآخرين مهما كانوا.

في الأعم الأغلب، خصوصيات الآخرين لا أقحم نفسي فيها منعا للآخرين من الخوض فيما أنا أعتبره يخصني وحدي. لكن بالنسبة للسيد غضبان وجدت نفسي، بعد فترة قصيرة من عملي، متورطا بما أزعجني. كانت البداية عندما سألني:

= هل أنت بطبعك هادئ، أم تراك مفتعلا له؟

اعتدت أن أتجنب الخوض في نقاش عقيم، بسبب صراحتي التي تزعج الآخرين، في أغلب الأحيان.

= لا أخفيك، أبذل جهدا للحفاظ على هدوئي...

قبل أن أكمل، سارع.

= لقد حذروك من سلوكي. أعرف أن الجميع لا يود التعامل معي، لا أحد منهم يدرك ما مررت
به حتى أصبحت على ما أنا عليه.

= أغلب الناس، عادة، لا يهمهم ما يمر به غيرهم، وانعكاس ذلك على السلوك والطباع والشخصية. يهمهم الظاهر، أما الباطن فلا يكترثون به.

= ولكنك مختلف عن الآخرين.

= ما الذي جعلك تحكم بهذا؟

= رغم قصر المدة التي قضيناها سوية، لم أجد ما يشي بأنك برم مني.

= = =

بينما أنا أسير، جلب انتباهي طرق على زجاج محل مررت بجانبه. استدرت فإذا بالسيد غضبان يدعوني للدخول بإشارة من يده. على منضدة أمامه عدة قناني من الجِعَة، وصحون صغيرة. كان من المحال أن يسمعني أو أسمعه. أشرت إلى ساعتي، ومضيت في سبيلي.
في اليوم التالي عاتبني على عدم تلبية دعوته.

= لم أستطع، لسببين، الأول، أني لا أتناول الكحول البتة، ولم أدخل مثل هذه الأماكن. الثاني، أني كنت على موعد وكان عليّ ألّا أتأخر.

= سأدعوك لمكان آخر، وأعدك أنك لن تشم فيه حتى رائحة الخمر.

وقبل أن أرد، استطرد:

= بحاجة أنا أن آخذ رأيك في موضوع. الليلة، ما رأيك؟

= = =

ما أن استدار النادل بعد وضعه ما طلبنا أمامنا، حتى أحنى جذعه مقربا أنفه من فنجان القهوة آخذا نفسا عميقا. استند على المقعد. حبس الهواء في رئته لثوان، ثم زفر ببطء. ارتسمت على شفته ابتسامة بدت ناشزة مع ملامح وجهه العبوس.

= شم القهوة عادة لازمتني منذ تعودت شربها. هذه الرائحة أفضلها على كل العطور. تريحني، تنعشني. هناك محل لتحميص وطحن حبوب البن ليس بعيدا عن هنا، وكلما مررت به أتمهل في سيري حتى استمتع لأطول فترة.

تناول فنجانه وأخذ يرتشف بتتابع سريع غير آبه بالحرارة.

= حتى لا آخذ من وقتك الكثير، سأدخل في الموضوع مباشرة، وسأحاول الاختصار قدر الإمكان. خلال التدقيق وجدت عقدا لمواد نستخدمها. أول ما جلب انتباهي هو الكمية الكبيرة للمواد المطلوبة. هي تعادل استهلاكنا لسنوات عديدة. ثانيا السعر العالي للمادة. الشيء الآخر هو أنه لم يتم إعلان مناقصة. تأكدت من أن الشركة التي تم التعاقد معها ليست مسجلة بشكل رسمي في غرفة التجارة. نصف ثمن الصفقة تم دفعه عند التوقيع كما ينص أحد البنود. لم يتم استلام أية كمية رغم مرور فترة طويلة على التوقيع، وليس هناك مدد محددة للتسليم. وليس هناك شروط جزائية على المجهز عند الإخلال.

= هل أنت متأكد مما تقوله؟

= تماما. كل ما يثبت كلامي مدعم.

= وماذا أنت فاعل؟

= لا أدري. لهذا نحن هنا. احتاج لمن يرشدني.

= أنا؟

= اخترتك من دون جميع الزملاء لأسباب، منها أنك لم تمض وقتا طويلا معنا، وهو وقت ليس بالكافي لتكّون علاقات ملوثة. ويتم تعينك بدون وساطة.

= وما أدراك؟

= وهل يخفى شيء عندنا؟

= ولكن العقد تم اخفاؤه رغم مضي وقت طويل على توقعيه كما قلتَ.
وكأن ما قلته قد وخز عقله. طال صمته. فَهمَ النادل إشارته فجاءنا بفنجاني قهوة.

= هل توحي بأن أحد ما دس العقد في الأوراق المقدمة لي للتدقيق؟ لماذا؟

= الأمر وارد. ربما اعتقد فيك النزاهة ونظافة اليد. أو لم يجد في نفسه الشجاعة للمواجهة. كل الاحتمالات واردة.

زادت تقاطيع وجهه صرامة. من شدة الغضب صار فنجان القهوة في يده يرتجف. على عجل وضع الفنجان في الصحن.

= أتشك في نزاهتي؟

= يا سيد غضبان، أرجو أن تعذر صراحتي المنفّرة، فمعرفتي بك التي لم تتعد الأشهر لا تكفيني للحكم عليك. ثم، إننا وفي الزمن الذي نعيشه من الصعب تقييم الناس من خلال ما يظهرون، لأن ما يخفون هو حقيقتهم.

= كيف تستطيع أن تتعايش مع الناس؟

= ومن قال لك أني أستطيع ذلك؟ الكل عندي موضع شك وعليّ الحذر منهم. أضع الناس في الخانة المناسبة لهم بعد أن أراقب سلوكهم والتأكد من أنه يتطابق مع ما يدّعونه من تقوى وورع وتباكٍ على الفقراء والمساكين، واحترام حقوق المرأة، والحفاظ على البيئة، والدفاع عن الحيوان. ناهيك عن الديمقراطية وحرية الرأي والتداول السلمي للسلطة. كل هذا نفاق. العصر ليس عصر الثورة الرقمية، أو تقنية النانو، ولا غيرها من التسميات التي يتشدق بها العارف والجاهل. إنه عصر النفاق بامتياز ولا شيء آخر يستطيع التنافس معه.

= على هذا الأساس فأنت تشك بي أيضا.

= نعم. ما فرقك عن البقية؟ ما فرقي أنا عن الآخرين؟ كيف لي أن أتأكد أن كل ما قلته لي عن العقد كان صحيحا؟

= ما قصدك؟

= أليس من المحتمل أن يكون هذا أسلوب مبتكر لجري لدائرة الاختلاس؟

= هل يعقل ما تقوله؟ كيف تستطيع العيش وسط هذا الكم الهائل من الشكوك؟
تجاهلت سؤاله. أردت أن أنهي اللقاء بسرعة.

= طلبت مني أن أقدم لك ما يعينك على اتخاذ القرار. أنت تعلم أن الفساد في البلد صار منظومة متكاملة. الفاسدون لهم أدواتهم للحفاظ على مصالحهم. سيقاتلون من يقف بوجههم حفاظا على وضعهم. سأفترض أن كل ما قلته عن العقد صحيح. أمامك ثلاثة خيارات. الأول، أن تستغل العقد وتهددهم بفضح الأمر إن لم يشاركوك في الغنيمة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنه ربما كان هذا هو الطعم الذي رموه لك. الثاني، أن تغض النظر عما اطلعت عليه. الثالث، أن تقدم ما جمعته من معلومات الى الجهات المختصة، وستلقى هذه القضية مصير مئات بل آلاف قضايا الاختلاس والسرقة ونهب الأموال العامة التي مضت عليها السنوات ولم يُبت بها رغم كل الأدلة الموثقة على حصولها.

نهضت من مكاني استعدادا لمغادرة المكان الذي لم اعد أطيق البقاء فيه.

= شيء أخير، كيف تأكدت من أن هذا العقد ليس بلعبة؟ بمعنى لم يكن هناك طلب مواد، ولا دفع نصف المبلغ، ولا مكتب غير مسجّل. هل تأكدت من العقد الذي دس بين الأوراق التي قدّمت لك ليس بأكثر من نكتة سمجة من موظف أرعن أراد أن يتسلى؟

= ولم يفعل ذلك؟

لم أجد الرغبة بالإجابة. استدرت باتجاه الباب. تناولني الرصيف الخالي إلّا من بعض المارة. هبت نسمة خريفية أعادت بعض الهدوء. لم أفكر بالغد وكيف سيتصرف معي السيد غضبان الذي سوف يَأرَق الليلة.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2020     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات