كروان السكري - سورية
في ظلال ذاكرة شامية
فتحتُ عيني على الشمس تضيء غرفتي بعد أيام شتائية طويلة ومدلهمة، وشحوب رمادي في أفقي.
الشمس تذكرني ببلادي، أجمل مكان في الدنيا، حيث الضياء لا يمَلُّ الإسترخاء فوق الجبال والتلال والبيوت، والأشجار تحبذ ألا تتطاول كثيراً الى السماء لتبقى قريبة مني قادرة على الانحناء ومعانقتي داخل ظلالها، وحركة الناس وأصواتهم تدغدغ هدوء الفجر الوليد مع إطلالة كل يوم جديد، والصباح يتمطى بعده مبتسماً فارداً ذراعيه للكادحين كعاشق يستقبل حبيبته.
في آخر زيارة لي إلى بلادي بحثتُ عن ضحكات الأطفال في حينا وزقزقات العصافير، وعن أصوات الباعة المتجولين، يتدحرج في ندائها تفاح وخوخ وعنب ودراق، وصوت جارنا الأجش ينادي ابنته لتمد له خرطوم الماء لكي يسقي الأزاهير والياسمين المعرش على سور حديقته.
ألفة روحي مع ياسمين دمشق عشقٌ لا ينتهي، أرتله في دفاتري وبين أسطري وجدران وحدتي. استراحة شاعر عند منعطفات التعب والسفر، كلمات ترقص في أضلعي نزارية الهوى، والأحرف رجعُ قصائد تحكي حكايا شام الياسمين :
هذي دمشق وهذي الكأس والراح
إني أحب وبعض الحب ذباح
أنا الدمشقي لو شرحتمُ جسدي
لسال منه عناقيد وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعتم في دمي أصوات من راحوا
للياسمين حقول في منازلنا
وقطة البيت تغفو حيث ترتاح
أنا مثلكَ يا نزار عاشقة، وليس لعشقيَ نِدُّ. رحلتَ أنت حاملاً عشقكَ على كتفيك، وتركتني أنا شاخصة، أحمل عشقي الباكي جاثياً عند سفوح الركام وبقايا من أحببت.
أتمسح بصور ذاكرتي وأبي جالس في الشرفة يرشف الشاي الأخضر من كأس صغيرة رق زجاجها حانياً على اللون والمكان. ينظر بعيداً الى قاسيون يعانق دمشق مضطجعة بدلال في أحضانه، فيرتل الجبل في قلب أبي تسابيح الحمد للنعم والسكينة.
وبيت جدي في القيمرية، سماؤه عرائش وعناقيد تتدلى ثريات، وأشجار ليمون وبرتقال وأكي دنيا ونارنج، تتمايل مع أناشيد البلابل، وكأني به جنة وارفة الظلال، لا تكِلُّ عيناي في باحته الفسيحة من ملاحقة النافورة الصغيرة تقفز فوق صفحة الماء في البركة، وأرقب جدتي تنضد على أطرافها زبادي الأرز بالحليب المغطى بالبرتقال.
بحثتُ عن أصوات الشباب الصغار يلعبون الكرة في شارعنا ويقذفونها فترتطم بنافذتنا، فتنادي أمي عليهم "الله يرضى عليكم، العبوا بعيداً من هنا" فيرد أحدهم "لا تؤاخذينا يا خالة، تكرم عينك" فأحسدكِ يا أمي على حلْمكِ والحنو في صدرك. فمن أي عجينة صُنعتِ؟ وكيف من كل هذا الصبر والتسامح جُبلتِ ؟ وأنا الغاضبة المتبرِّمة من الأشياء والناس، أنهض من فراشي أناديهم بعصبية عندما يطيب لهم اللعب في ليالي الصيف حتى ساعة متأخرة من الليل، فيتفرقون.
بحثت عن ابتسامة البقال المتوارية تحت شاربيه الكثيفين يستقبل أبي قائلاً "هذه الجبنة البيضاء من حليب الغنم الصافي، وصيت عليها خصوصي منشانك".
أتشبث بذاكرتي وهي كل ما تبقى لي، وفي كل صباح حفل استقبال مزدحم على الرصيف العريض المقابل لبيتنا يتداول فيه الباعة والزبائن أحاديث الأسعار والجدل العقيم، وأمي في خضم الحشد تتجاذب أطراف الحديث مع جارتنا تتفحصان الخيار والكوسا والباذنجان والمشمش والجانرك يتلون بألوانها النهار والبسطات والسلال، وأنا أنظر وأتأفف من صخب هذا المهرجان الصباحي اللامنتهي.
وأمي تنثر الحَبَّ وفتات الخبز على حافة شرفتنا، ويمامتان في الانتظار. وصبايا يتهادين في شارعنا تُطرِب أسماعَهن كلماتُ غزل تتطاير من شبان ضاحكين عند المنحنى.
بحثتُ حول جدران القلعة العتيقة عن رائحة النراجيل تعبُّ دخانَها شقوقُ الحيطان الهرمة والزواريب، ألمَسُها بكفيِّ، وصوت خطواتي فوق حجارة البازلت المرصوفة في الأزقة القديمة رجعُ صدى. وعن رائحة التوابل تتسرب إلى أنفي وأنفاسي، وسوق البزورية يضخ تحت سقفه وفي دكاكينه تراثاً وأزمنة ماضية، تتنهد بخيلاء وتلقي بعبقها في صناديق الحاضر والمستقبل متسللاً بخفة من أكياس الفلفل والبهار والمليسة والزعتر والنعناع والكمون والقرفة والزعفران.
بحثت عن رائحة البن المُحمَّص في طلعة المهاجرين تملأ رئتيَّ بطفولتي وفرحي، وأنا أمسك بيد أبي مهرولة بقدميَّ الصغيرتين، لألحق بخطواته الواسعة، وهو يجول بعينيه في المكان بحثاً عن بائع " التماري والكعك " ليشتري لي واحدة، ألتهمها، ويظل طعم الدبس والسمسم فيها يتأرجح في خاطري.
بحثت عن الغوطة غارقة في عطر رياحينها وعن عرائس الشجر المكللة بالبياض في رياض الربيع، وعن جداول تحكي للمتأمِّل حكايا الصفاء الظالم في صفحة لجينها، وخرير مائها نغم يراقص الأرواح رقصة أزلية، وعلى وقعه يجري بردى لاهياً بينها وفي عروقي سواقي تسابق خطواتي إلى مدرستي كل يوم.
وعين الفيجة ساهرة تروي المدينة في صخبها وهدأتها، وماؤها زلال ينحدر من جنات سماوية شلالات تتدافع ضاحكة في رحلة الانهمار الأبدية. نبع الجود وملحمة الكرم والعطاء، يسقي العطاش محبةً لا منَّة، فلا الناظر يمَلُّ، ولا الشارب يكتفي، بل هل من مزيد ؟
بحثت عن ذاكرتي فلم أجدها، فإذا بها تاهت بين أطلال بيوت باكية، وحواجز مفترسة تلوك العابرين، وآثار أقدام، ورؤوس منكسة، وظهور منحنية، وعيون دامعة. تتعثر بوجوه شاحبة وأيدٍ ممدودة وهياكل أجساد داستها نعال العسكر.
يا ليتهم ظلوا يضحكون. يا ليتهم ظلوا يلعبون ويصخبون، فلن أغضب ولن أتأفف، بل سأنام على ضجيج ضجيجهم، وأغفو في أعطاف لهوهم. هكذا أنا أتبرم من الأشياء، وعندما أفقدها أتوق إليها. أسأل، أين ذهبوا؟ ولمَ أقفرت الطرقاتُ والبيوت؟
رحلوا وتركوا أصواتهم تصخب في عقلي وعمري. قالوا لي إن البعض لم يرحلوا بل إنهم ما زالوا هنا يعانقون حيطان بيوتهم المعجونة بأجسادهم بإسمنتها وحجارتها.
وقالوا لي إن البعض هناك ليس ببعيد عند خط الحدود ينتظرون انحسار أعاصير الموت، في قلب الصقيع والهجير، لكي يعودوا.
وقالوا لي إن الأطفال الباقين يقضم البرد والجوع أجسادهم الغضة قطعة قطعة. وأطفال آخرون متهمون بالبقاء، يشقون طريقاً في زحام الموت. وأطفال يتكورون في قلب حاويات القمامة، هي أرحم لهم من قلوب البشر، ورغيف الخبز دمعة وابتسامة.
وقالوا لي إن كائنات غريبة ترسم بالسكاكين والمدافع جغرافية سوريتي والملامح والأديان، وإنهم يبعثرون تاريخي وقلبي وخلاياي شظايا في قفار الحقد والجنون، فبكيت دموعاً سوداء، وبكت عيون بلادي دماً. وبكى نزار:
هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي
وكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
أنتَ، يا أيها الغافي على قارعة الزمن المشوه، لاجئاً سورياً وصموكَ، ثم أعدموكَ خاوي البطن فارغ اليدين، وأعدموا معك نظرياتهم وأنفسهم. أنا مثلك غافية على هامش الزمن، مكبلة الفم واليدين، يمسدني العجز والقهر عشر مرات في اليوم وبعد كل نشرة أخبار. أنا مثلك طرقتُ باب الحرية الموصد في وجهي، وما من مجيب، ثم طرقت باب الإنسانية ثم باب الأخلاق، وما من مجيب.
لم أجد حولي سوى من تلطخوا بعهر السياسية، ومن تلوثوا بعفن الحياة فسألتهم : كم تحتاجون من موتانا لكي ترحلوا؟ لم يجيبوا. فأعدت صياغة السؤال: عند أي رقم يتوقف عداد الموت عندكم كي تتوقفوا وتنتهوا؟ فإذا بعدّاد الموت يكتب "انتهى الإنسان، يا غبي".
4 مشاركة منتدى
في ظلال ذاكرة شامية, إبراهيم يوسف - لبنان | 25 آذار (مارس) 2015 - 10:16 1
كروان السكري- سورية
مهما اجتهدتُ في التعليق على الشام ( وقد فعلت مرارا)..؟ سأبقى مقصرا ً عما قاله نزار وبدوي الجبل، وعما قاله محمد الماغوط في الرضا والغضب.
"دمشق المناسف والأهراءات
دمشق الخيول الجامحة
دمشق الحداء والخناجر.. والسفن التي تسد وجه الأفق
دمشق النجوم والمشاعل المضاءة على ذرى الأوراال
دمشق المنتصبة على شواطىء الأطلسي
دمشق الليل والقنديل المطفأ بالشفتين
أغلقوا في وجهها كل أبواب العالم
لتبقى وحيدة كالريح.. أو كما الله"
في ظلال ذاكرة شامية, محمد علي حيدر - الدار البيضاء المغرب | 28 آذار (مارس) 2015 - 11:49 2
ينفتح النص على أشعة الأمل دون أن يحجب ثنائية الموت والحياة... وتشتغل الذاكرة بمعية حواس البصر والسمع والشم؛ فتلتقط العين مشاهد المساكن والحديقة والأحباب، وتلتقط الأذن حفيف الأشجار وحديث الناس والأطفال كأن الموت والدمار لم يغيبها، وتختزن حاسة الشم شذى العطر والطعام... وتتأطر الذاكرة بعاطفة جياشة سكبت شعرا وسحرا ذا أنين ورنين تجلى في إيقاعات تلتقطها الأذن لتسمع من خلالها نبض قلب غزته الحسرة ولم يغادره الأمل، فسكنَ الوطنَ واحتضنَه، وعلا حديثُه مخازيَ العابثين بمصير الأوطان أيا كان انتماؤهم، إذ ما قيمة الإيديولوجيا والعقيدة إن بررت قتل الإنسان؟ وبحس متأمل عميق تختم الكاتبة النص بسؤال وجواب موجعين ((عند أي رقم يتوقف عداد الموت عندكم كي تتوقفوا وتنتهوا؟ فإذا بعدّاد الموت يكتب "انتهى الإنسان، يا غبي".)). تألمت وتأملت ثم بُحت بما يعتمل في صدورنا وقولوبنا من ألم نتمنى ألا يهزم آمالنا. لك كل التحية.
1. في ظلال ذاكرة شامية, 30 آذار (مارس) 2015, 12:59, ::::: كروان السكري . سورية
جميل أن يكون التعليق مسباراً يخترق النص كاشفاً الأعماق ،يباريه في عذوبة اللغة والإحساس .
يكتظ الألم فينا فيتفجر كلمات . ومادامت الكلمة أمضى من السيف والمدفع ، فإن الأمل اقوى من الألم .
أوجاعنا في الأوطان واحدة. ولكن ستبقى أرواح السوريين هائمة بحب الشام وياسمينها الى أن يزول الوجود.
شكراً لك ولجميع المعلقين
في ظلال ذاكرة شامية, لبنى ياسين | 29 آذار (مارس) 2015 - 10:37 3
أوجعت قلبي فكم وكم للشام من ذكريات علقت في الذاكرة .
وما زال الياسمين يتسلق شرايين قلبي.
تحياتي لك من عمق وجع يجمعنا
لبنى ياسين -هولندا
كاتبة وتشكيلية سورية
في ظلال ذاكرة شامية, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 29 آذار (مارس) 2015 - 20:28 4
أ/ كروان تحياتي والشجن يؤنس الشجن أثرت شجوننا بنصك المتضوع بعطرالياسمين والعين تدمع حزنا وحنينا فتهمي بالياسمين هي مرابع الطفولة والصبا وأديمها السمح عطر ورؤى ربما أغفى عليه الأنبياء كما قال بدوي الجبل وفاء كمزن الغوطتين كريم وحب كنعماءالشآم قديم .نحن أبناء بلاد الشام لو على الصخر نهلة من جراحنا راح مخضوضل الظلال وريقا .سلمت من الأسى وسلمت بلادنا وتعافت من جراحها.