رامي أبو شهاب - قطر
ملامح النأي والاغتراب في شعر السياب
ملامح النأي والاغتراب في شعر بدر شاكر السياب: أنشودة المطر وغريب على الخليج نموذجا
مدخل
تشكل تلك الفترة التي قضاها بدر شاكر السياب في الكويت منعطفا هاما في دراسة تحولات تجربته الشعرية، حيث طفا البعد الجغرافي على تصورات الشاعر للعراق، وبدت المسافة قادرة على تشكيل منظور جديد لواقع لم يكن ليتخذ بعده الحقيقي لولا ذاك النوى الذي انبعث فجأة حيث بدا العراق بعيدا وقريبا في آن واحد. وضمن هذا السياق ننظر في قصيدتين من أهم أعمال الشاعر وهما قصيدتا " غريب على الخليج " وقصيدة أنشودة المطر " متمثلين ملامح العراق المتشكلة بناء على معطى جديد عاينه الشاعر في تجربة النأي.
القارئ للديوان يلاحظ أن الشاعر حدد مكان وتاريخ قصيدة "غريب على الخليج" إذ كتبت في الكويت 1953م؛ هذا ما يؤكده الدكتور إحسان عباس مشيرا إلى أن بدر شاكر السياب عندما عاد من الكويت كان يحمل معه ثلاثة قصائد، هي الأسلحة والأطفال والمومس العمياء وقصيدة غريب على الخليج ومضيفا، وربما أيضا قصيدة أنشودة المطر. [1]
تشكل القصيدتان "غريب على الخليج" و"أنشودة المطر" رؤية واضحة اتجاه إشكالية صورة الوطن؛ القصيدة الأولى "غريب على الخليج "تتجلى من خلالها تلك العلاقة المتكئة على منظور يبدو في ظاهره حنينا إلى ذلك الوطن، ولكن ذلك الحنين ينتقل إلى مسافة أبعد حيث يصبح رؤية واقعية للوطن بشكله الحقيقي متجسدا بصورة ساخطة وقاتمة، والسخط يصبح أعمق في القصيدة الثانية "أنشودة المطر" على الرغم من أن الصوت في كلا القصيدتين يبقى صوتا واحدا يحمل ترددا واحدا، وصورة تبدو متطابقة لوجه العراق وتشكله شعريا بطرح عدد من التساؤلات.
ما الملامح المحدثة للعراق جراء معايشة الشاعر لتجربة جديدة بدت فيها صورة متكاملة بمنظور مسافي؟ كيف عبر الشاعر عن رؤيته للعراق، وما هي الدلالات المتولدة عن ذلك؟
الملمح الأول
يرى أدونيس أن وظيفة الشاعر هي أن يغير الطريقة السائدة في رؤية الحياة والعالم وأن يكون التزام الشاعر وانحيازه باتجاه الحرية الكاملة "[2] يقارب السياب هذه المقولة إذ انبعث الشاعر متحللا من كل مقولات أيدلوجية متبناة، واتجه نحو تعبير سافر عن وطن اتخذ من اللغة أداة حادة، وربما متناسيا دماثة التصوير لواقع وطن ينتمي له، هكذا بدت هاتان القصيدتان بأثر جلي ومتزامن تعبيرا لتشكيل ملامح العراق.
يظهر الملمح الأول في قصيدة غريب على الخليج متوسلا عتبة نصية (العنوان) ضمن قراءة إشارية تساؤلية اصطنعها هنا في تحوير للعنوان، ضمن منهج تأويلي، نضع أقواسا حول العبارة النصية تنتهي بعلامة استفهام (أغريب هو على هذا الخليج؟) مع إضافات تجاورية لمفردات تنفتح جراء العنوان وهي هنا: (الخليج – العربي – العراق – الغربة) ونفتح القوس هنا ليشمل (المكان والزمان فالخليج مرة أخرى)، الاغتراب يظلل المساحة الجغرافية (الخليج) وذلك يظهر من خلال القصيدة ككل، والتساؤل المطروح كيف يكون الإنسان غريبا في وطنه؟ التساؤل حائر وملتبس:
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصد من نشيج [3]
تظهر هنا صورة العينين والحيرة التي لا تنظر إلى شيء قار، فليس هناك من نقطة توجه النظر إليها، وهذا ينطبق على المقطع الشعري الأول من قصيدة أنشودة المطر، هناك تبدو العينان كغابتي نخيل ساعة السحر، توقيت الصورة ضبابي، فتلك العيون يبتعد عنهما القمر لتتسع مقولة النأي، لتنتج دلالة الإعتام، والصورة التي تنعكس للأقمار هي صورة غير حقيقة، إنها صورة خيالية منعكسة في النهر، ويؤكد الشاعر تلك الضبابية حينما يصرح بالضباب.
"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر،
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء . . . كالأقمار في نهر
يرجه المجداف وهنا ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما، النجوم
وتغرقان في ضباب من أسى شفيف" [4]
الصورة تمتاز بعدم الوضوح والحيرة والقلق، وكأن الضياء يتراجع مقابل الظلام فعبارة "يهد أعمدة الضياء بما يصعد..." توضح دلالة تراجع الوضوح والإشراق مقابل ذلك الظلام الذي يكتنف هذا الوضع، وهنا نقصد الوضع السياسي القائم في العراق.
الملمح الثاني
يذكر إحسان عباس إن قصيدتا "غريب على الخليج" و"أنشودة المطر" وجهان لعملة واحدة وبينهما تطابق ازدواجي "فالعراق والمطر شيئان متطابقان لأن الصلة بينهما صلة حياة" [5] فلفظة مطر تحمل العراق أيقونيا وهي هنا منسحبة بمشروعية كاملة لرصد المكان المؤسلب جغرافيا ومعنويا:
صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي: عراق
والموج يعول بي: عراق، عراق ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق. [6]
يبرز التكرار هنا للفظة العراق ست مرات، وصورة عراق هنا تظهر في تناقضها المسافي والمكاني فهي قريبة من الشاعر في تكرارها الملح، وهنا قرب وجداني دلالي، وبعيدة ماديا جغرافيا كما يبدو ذلك متمظهرا في الجانب اللغوي التعبيري في قوله: "البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون والبحر دونك يا عراق".
ويظهر الملمح مرة أخرى عبر تكرار لفظة المطر في أنشودة المطر:
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر. . .
مطر. . .
مطر. .
مطر. . [7]
الملمح الثالث
يظهر الملمح الثالث من خلال علاقة الأم والطفل، شكل الارتداد نحو الطفولة، نحو الأم نحو الجذور الأولى، ولكن تلك الصورة تبدو غير واضحة المعالم منتقصة وغير مكتملة، وهذا إلحاح لغوي حرص الشاعر على نسجه في بنية القصيدة "هي وجه أمي في الظلام" ويبقى فقدان الأم صورة لا تفارق الشاعر وحالة من الترقب والشعور بالوحدة والطفل الذي لا يؤوب، إن صورة العراق التي تتمثل بالطفولة ووجه الأم هي صورة تمتاز بالقلق والتوتر العالي الحدة.
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
واكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
من الدروب؛ [8]
الشاعر يخاف، والخوف يتأتى من رمز عميق الدلالة في البينة الثقافية، فالنخيل حالة تماهٍ مع العراق، التداخل المشتبك مع العراق ماضيه، ومستقبله الغبش، عدم العودة من الدروب وتلك الأشباح هي حالة مرضية في وجدان كل طفل يفتقد الاستقرار والأمان، بعد نفسي يداخل كل طفل حين يستشعر ضآلة عالمه دون رحم أمومي يقيه شر المجهول.
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين؟
. . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
أفليس ذاك سوى هباء؟
حلم ودورة اسطوانة؟
إن كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء؟ [9]
وتبرز تلك الصورة صورة الأم الغائبة (الرحم) في قصيدة أنشودة المطر، الصورة ذات الشكل الملتبس وكأنها حقيقة ووهم ورجاء مفقود، فتثري النموذج المؤسلب المصطنع في الوعي.
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه – التي أفاق منذ عام فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال
قالوا له: " بعد غد تعود. . . [10]
الملمح الرابع
يتمثل العراق بصورة المرأة ولاسيما في قصيدة غريب على الخليج، فتصبح المرأة عراقا، والعراق امرأة، وهي إشراق حقيقي، ولكن غير مكتمل كما تبرره عبارة: "والليل أطبق" ومن ثم كان قدوم المرأة بلا معنى، مفرغا كل الدلالات القادرة على تخفيف وطأة الجغرافيا الجديدة.
أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه؛
يا أنتما مصباح روحي أنتما – وأتى المساء
والليل أطبق، فلتشعا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب ما كمل اللقاء!
الملتقى بك والعراق على يدي . . هو اللقاء. [11]
الملمح الخامس
المطر ينطوي على المفارقة بين العقم والخصب الموت والحب والفقر والوفرة، والمطر موروث كلاسيكي محمل بدلالات جديدة [12]، فالمطر موضوع طباقي الحياة – الموت (العراق) الذي يحمل الكثير من التناقضات فهو صور الحياة والموت:
عواصف الخليج، والرعود، منشدين:
"مطر. . .
مطر
مطر
وفي العراق جوع" [13]
العراق المحاط بقيم الاستغلال المنتج دلاليا في النص بعبارة الغربان، وهي تعبير صريح لواقع الإقطاع:
وينثر الغلال في موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحى تدور في الحقول. . . حولها بشر [14]
في قصيدة "غريب على الخليج" تنسحب ثيمة الجوع الذي يحمله الإنسان أينما ذهب، كما هو الصليب بتداخل ديني لاستحضار نصي ثقافي، حمل الصليب وغناء الشاعر أينما حل، وفي خلفية كل هذا مرارة الواقع والجوع والقهر.
بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة،
وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه
فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمى من عثار [15]
الملمح السادس
إن الإثارة في قصيدة غريب على الخليج تعتمد على السحر البدائي الكامن في اللفظة، واللفظة هنا تتجسد بمفردة (نقود) وتظهر هنا كالتعويذة [16]، وهي معادل موضوعي للعراق، ولا ريب أن كليهما أشبه بالشيء المستحيل، النقود والعراق مفردتان متلازمتان لغويا، كما هما في المرجع الواقعي، فالشاعر بين اليأس والأمل يقف هنا أمام مانع (جدار) وهذا المانع هو النقود، وهكذا تنبثق مواجهة بين المعنوي والمادي، فلا مندوحة للشاعر أن يبقى متمحورا حول عوامل تقطع السبل بينه وبين وطنه.
في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يا نقود
متى أعود؟ متى أعود؟
أتراه يأزف قبل موتي، ذلك اليوم السعيد؟ [17]
بين العيون الأجنبية،
بين احتقار. وانتهار، وازورار. . . أو خطية [18]
مداخلة في البناء الفني
قامت قصيدة "غريب على الخليج" على بناء فني متكامل حيث بدأت القصيدة بمقطع يصور مناخا أراد الشاعر نقل عدواه للمتلقي، وكأن هذا المقطع يحمل طبيعة المقدمة التي امتازت بها قصائده القديمة، بينما كانت أنشودة المطر تعتمد على المقاطع الشاعرية التي تمثل وحدات ذات ارتباطات دلالية. ويلعب السرد في كلا القصيدتين دورا هاما في السير بالقصيدة نحو نقطة توترية، ومن ثم يحصل التحول أو كما اسماه سامي سويدان بنية التحول، ويقصد بها تلك البنية التي تشير إلى تحول أو تغيير طارئ في هيكلية النص [19]. ولكن نقاط التحول تختلف تبعا لكل قصيدة وقيمة التحرك السردي في كل قصيدة.
ونلمح في قصيدة "غريب على الخليج" ذلك الدفق الشاعري الذي يمثل في توارد الصور تباعا من صورة الطفولة والأم والحبيبة، وتصوير الحالة الاغترابية وحوائجها إلى أن يصل إلى نقطة تتحول فيه وتصبح مصابة بشيء من الانكسار:
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض [20]
إن الشاعر في قصيدة "أنشودة المطر" يسير في القصيدة بطريقة تنتهج مقاطع ذات بؤر محددة، ضمن نسق واحد على الرغم من أن كل مقطع يحمل معه رؤيته الخاصة التي تخدم القصيدة، فمن مقطع الطفولة إلى مقطع الحديث عن العراق والجوع، إذ يبقى الفاصل الإيقاعي ذو الدلالة: مطر مطر مطر، المفتقد في قصيدة "غريب على الخليج"، ولكن يبقى عنصر الإيقاع متمثلا بتكرار الشاعر لبعض الثيمات اللغوية كلفظة عراق ولفظة نقود وبعض التراكيب اللغوية: "ما زلت" و"متى أعود؟"
ويبدو أن الشاعر في كلا القصيدتين يتبع تقنية متشابهة إلى حد ما، فالشاعر يخاطب دوما امرأة، فالسياب في "غريب على الخليج" يظهر في حديثه ذلك الصوت النقي صوت الشاعر وكأنه يتحدث من الداخل، ولكن في "أنشودة المطر" يتداخل صوت الشاعر ويتحرك موقعه تبعا لحركة القصيدة، فمرة يتحدث بضمير المتكلم ومرة أخرى بضمير المتكلمين:
وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع
ومنذ كنا صغارا، كانت السماء
تغيم في الشتاء [21]
ويتضح البناء التراكمي المتصاعد في قصيدة "غريب على الخليج" حيث يبتدئ من لحظة ساكنة ومن ثم يبدأ بالتوتر والتصاعد المطرد إلى أن يصل إلى ذروته في تكرار لفظة عراق مرات عديدة، وإذا ما نظرنا جليا في ذلك المقطع الذي يمثل السكون حيث يوضحه لنا الدكتور عبد الواحد لؤلؤة بقوله فإننا "نكاد نلمس السكون وخفوت الضوء على شواطئ الخليج في الليل، وقد اجتمع عند الشاطئ صيادو الليل. تذكرنا صور صيادي الأسماك في ليل الخليج، الذي لا يكاد يرتاح من قيظ النهار بصورة لم تبارح خيال بدر شاكر السياب: زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار/من كل حاف نصف عار" والصيادون في ليل الخليج هنا لا يؤنسهم سوى قمر آب". [22]
ومن الملامح المميزة في كلا القصيدتين ذلك التوظيف التاريخي والرمزي لبعض الموروثات التاريخية والدينية كما هو في قصيدة غريب على الخليج:
وهي المفلية العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شق القبر عنه أمام عفراء الجميلة [23]
ونلحظ هنا حديث الشاعر عن قصة الشاعر عروة بن الحزام وحبه لعفراء، وذلك يظهر مرة أخرى في حديث الشاعر عن المسيح:
غنيت تربتك الحبيبة،
وحماتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه [24]
وقد أشار إحسان عباس في معرض دراسته عن السياب إلى أن هذا يمثل أول التفات للسياب إلى المسيح والصليب [25].
وفي قصيدة "أنشودة المطر" يتمثل لنا ذلك في حديث الشاعر عن ثمود وتوظيفه لبعض القصص كقصة الصياد.
= = =
الهوامش والإحالات
[1] إحسان عباس، بدر شاكر السياب دراسة في حياته، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 6، 1992، 132
[2] أدونيس، سياسة الشعر دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، دار الآداب ط 1، 1985، 20
[3] بدر شاكر السياب، الديوان، دار العودة، بيروت، 1986، ص 317
[4] المصدر نفسه، ص 374
[5] إحسان عباس، المرجع السابق، ص 151
[6] ديوان بدر شاكر السياب، ص 318
[7] نفسه، ص 475
[8] نفسه، ص 381، 319
[9] نفسه، 318، 319
[10] نفسه 476
[11] نفسه، ص 320
[12] محمد عواد، مجلة فصول، الأرض اليباب وأنشودة المطر معالم بارزة في طريق الحداثة، العدد الثالث، 1996، ص 134
[13] ديوان السياب، ص 478
[14] نفسه، ص 478
[15] نفسه، ص 312
[16] إحسان عباس، مرجع سابق، ص 152
[17] ديوان السياب، ص 323
[18] نفسه، 321
[19] سامي سويدان، بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر الحديث، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2002، ص 20
[20] سامي سويدان، المرجع السابق، ص 22
[21] ديوان السياب، ص 478، 479
[22] عبد الواحد لؤلؤة، مدائن الوهم شعر الحداثة والشتات دراسة نقدية، دار رياض الريس، ط 1، 2002، ص 105
[23] ديوان السياب، ص 318
[24] نفسه، ص 321
[25] محمد عواد، المصدر السابق، ص 130.
◄ رامي أبو شهاب
▼ موضوعاتي