عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

الهادي علي راضي - السودان

أدخنة متصاعدة


هادي علي راضيرحيق الأدخنة

وإذ رأيته -صباحا- بجانب السور المتهالك متكئا، شاخصا نحو اللاشيء، باسما بلا معنى، أدركت تماما أنه قد أعلن انفصاله عن، وأنه الآن يتسكع في حواري بلدة شوارعها من زجاج، وماءها حليب، نساءها عاريات إلا من قبعة صغيرة– بيضاء– تغطي أحد النهدين، رجالها طوال، ضخام، يرتدون السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، يطاردون النساء العاريات، يطاردهم شرطي يحمل هراوة.

دخان الحشيش

حين مدّها إلي مشتعلة، يحفها الجنون، ويختبئ في جوفها المفتت بذور الانفصال والشرود، قال إنها أتت من الغرب -والغرب خصيب- وإنها سقيت بمياه غدير حيث نساء مجنبات، وصبايا مراهقات، حائضات، غسلن دنسهن. معتقة بعبق المتزوجات ورائحة دنس الصبايا المراهقات. قال: "خذ، أيها الصديق اندفن فيها، وانس مرارات السنين المضاعة في جحيم الانتظار. خذ، جرب أن تمص شذاها وتنفث شياطينها هكذا."

(دخان كثيف يتصاعد إلى أعلى، مشكلا حلقات حلزونية بيضاء تتلوي كأفعى في فضاء الغرفة). كان يبحلق فيها ويتعوذ من الشيطان الرجيم.

دخان الند

قالت رفيقته: "خذها منه أيها الحزين، أدخل رحيقها في جوفك وأطرد خارجا شياطينها. وخذ مني هذا المحشو بالتعاويذ والرضاب المقدس، عود الند سواك الأولياء. كانت تقول أمي، أشعله، دعه بدخانه المقدس يكبل شياطين تبغك، يخاصره، يراقصه، يشملها بجبورته وسطوته، دعه ليسكب فيها شيئا من تعاويذ. ربما تنجيك من الجنون. أشعله، علّه يضلل بسلطانه العطر هذا الشرطي المتربص."

سفر الأدخنة

كالأرجوحة تتحرك اللفافة بين شفتي ويدي، أمص شذاها وألفظ خارجا شياطينه، وعود الند في احتراقه يعبق فضاء الغرفة بدخانه العطر، يختلط بدخان الند. الدخانان يتحدان ويصعدان إلى أعلى. أتابع رحلتهما مأخوذا بالتشكلات السريالية، والتكونات الغرائبية المتحورة والمختلقة عن التداخل المثير. فجأة ينبجس لي من بين طيات الأدخنة المتصاعدة – المتحورة – جواد أصهب، جميل. أسرجه، أمتطي صهوته وأنطلق. ملتحمان نغادر فضاء الغرفة المحدود إلى الفضاء الخارجي المتناهي. كالبراق يسبح جوادي الآن في السماء، إلى أن يتعثر بسحابة عابرة، يكبو، أسقط، تجذبني الأرض، أهوي بسرعة ينخلع على أثرها ذراعي الأيمن. أواصل السقوط بانحراف، ينخلع ذراعي الأيسر.

ذراعاي انفصلا، نبت مكانهما جناحان. منتشيا أحلق في الفضاء الفسيح وفمي منقار. بعيدا أرى حبيبتي ترقد علي صدر غيمة، يملأني غضب. أطير نحوهما وأحط علي نهدها المتكور، ألثم شفتيها بمنقاري، الشفتان تدميان، يغطيني لون الدم، لون الدم يغطي السحاب، الدم ساخن ومذيب، يذيبني، حبيبتي والغيمة ينصهران، يحملنا ريح مطرا.

ن

هـ

ط

ل

أنزل ببلدة شوارعها من زجاج، وماءها حليب. نساءها عاريات إلا من قبعة صغيرة بيضاء تغطي أحد النهدين. رجالها طوال، ضخام، يرتدون السواد من قمة الرأس حين أخمص القدمين، يطاردون النساء العاريات. يطاردهم شرطي يحمل هراوة. انحشرت وسطهم، الجميع يدخلون صومعة، وكل امرأة تأخذ رجلها وتصفعه.

عــــودة

صفعتني رفيقته وقالت: "عذرا أيها الحزين، صفعتك لأني رأيتك تدق بوابة الجنون، عد الآن ودع عنك امتصاص الشذى ولا تنظر إلى هذا المتصاعد أبدا في رحلته المجنونة. هاتها وأشدو لنا. لم أشدُ. أردت أن أبكي، فانسللت خارجا وبكيت.

سمعته يقول: خذي يا حبيبة، كسريه، فتتيه، ثم على هذا الورق الشفيف انثريه واطويه. أصنعي لفافة أخرى، مفروكة علي فخذك الرخامي، فإنها أتت من الغرب. والغرب حبيب. ولما رأيته عند الصباح بجانب السور المتهالك متكئا، شاخصا نحو اللاشيء، باسما بلا معنى، أدركت تماما أنه قد أعلن انفصاله عنا، وأنه ربما يتسكع في حواري بلدة شوارعها من زجاج، وماءها حليب، نساءها عاريات، إلا من قبعة صغيرة بيضاء تغطي أحد النهدين، رجالها طوال، ضخام، يرتدون السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، يطاردهم شرطي يحمل هراوة. ولا أنثى تصفع.

D 1 نيسان (أبريل) 2008     A الهادي علي راضي     C 0 تعليقات