عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سالم ياسين - لبنان

استكانة


جلس متهالكا من وطأة السّنين على ركبتيه الضّعيفتين، شاغلا مقدارا ضئيلا من زاوية المقعد، ومنشغلا بنظرات هائمة في أرجاء الغرفة، ولكن متابعا بصمت حوارا وديا يأخذ مجراه في بيت ابنته الصغرى، في زيارة هي الثّانية له منذ اضطررنا للانتقال للسّكن جنوبا لمتطلّبات الوظيفة.

اطمأنّ من مقتطفات الحديث أنّ الأمور تجري بمستقرّ لها في سير حسن، تاركا أفراد العائلة يجتهدون بالتّحضيرات لوجبة غداء مما تيسّر من حواضر المنزل، وهو يستحثّنا بالإسراع لأخذه إلى مقهى شعبيّ من مقاهي المدينة، من باب التّغيير الطّفيف في مسلسل حياته القانع بارتعاشات عقارب الزمن الرّتيبة.

تناول على عجل من مكتبتي المتواضعة كتابا هزيلا، وأخذ يرمق الغلاف الباهت واسم الكاتب "الثّوري المستسلم"، وتمتم بضع كلمات حول "الاستسلام " و"عدم الصّلح" وحكمة تبديل القلم من الجيب الأيسر إلى الجيب الأيمن وبالعكس.

رافقته إلى مقهى قريب، حريصا أن يكون في مكان مفتوح بنسائم عليلة قرب الحديقة العامّة، ولكن سرعان ما أيقنت أنه لا فرق لديه إذا كان مكانا مفتوحا أو "قاووشا" خانقا، فما إن استقرّ في كرسيه حتى انكبّ على مراسم القراءة في طقوس تواثب العينين بين السّطور وزمّ الشّفتين لسحب أنفاس نارجيلة التّنباك العجمي، غير مبال بصخب الزوّار في المقهى، ولا بخفقات أجنحة اليمام الحذرة، وهي تنقد ما سقط من حبوب الذّرة والتّرمس التي سقطت من أيدي الأطفال على غفلة منهم.

ابتعدت عنه بسلام دون أن أجرؤ على التّملي من قسمات وجهه بتجاعيد كمسارب لماء حياة انسابت في رمال الزّمن، وانسحبت مفكّرا بقلق بعينيه وزرقتهما المتزايدة، والتي يصفها أصغر أبنائي بـ"عيون جدّي الحلوين"، حيث طفرة من الماء الزّرقاء تصرّ على التّجمّع بسبب الإرهاق، وإثر إصراره منذ مدّة على متابعة قراءة ثلاث جرائد يوميّة، "يستأجرها" من مكتبة الحاج أنيس، في اتّفاقيّة فريدة تقضي بأن يعيد الجرائد للمكتبة بعد قراءتها، حيث يصرّفها الحاج كمرتجع لمكاتب الصّحف قبل صباح صدور الأعداد الجديدة. ثلاث جرائد يوميّة تتناسب مع ثقافته المحايدة مواكبة لأنفاس التيّارات الرّئيسة الثّلاثة المختلفة في البلد، دون أن يجهر بموقف يتناقض مع رأي أو ينسجم مع آخر، ودون مبالاته بأن تتناسب تلك الضّريبة مع سواد عينيه في اتّساع حلّتها الزّرقاء.

عدنا لتناول الغداء جميعا، حريصين على أن يأكل الأطفال بسعادة وهناء، متجاذبين أطراف الحديث ومزاحات بنكهة خاصة تتلوّن بموروث عائليّ مسالم في اللعب على معاني الألفاظ والكلمات.

"بعد الانتهاء من احتساء القهوة، سأعرّفك على جارنا أبي يزبك إذا أحببت، فهو كاتب وأديب ومفكّر عاد بعد طول غياب من بلدان الاغتراب". خاطبته بارتياح لمبادرة سخيّة مني بإضفاء الأطايب الفكريّة لزيارته الكريمة.

"أهو مسنّ مثلي يا عمّي؟ لا أحبّذ لقاء المسنيّن بشكواهم الدّائمة". أجابني بكلمات حاسمة أخرست ما تبقّى لي من كلمات منمّقة كنت أهمّ بإعدادها لوصف "أبي يزبك" وطاقاته الأدبيّة الفذّة. وعاد إلى هدوء قراءته في زاوية المقعد.

لحظات قليلة وكنّا نودّع الزوّار بباب الدّار حين التفت عمّي إلينا وقال:"اطمأنّينا عليكم ونراكم بخير إن شاء الله".

كانت انعطافة بسيطة في مسار حياة عمّي الطيّب، وسيعود بعدها لسعيه الدّؤوب بين المقهى والمنزل في تجوال صبره العنيد للبقاء، بعد طيّه عقودا طويلة من الكدح خلف "بيت النار" وقرب أكوام أكياس الطّحين والجرائد المستعملة. سيعود للطّواف اليومي متصالحا بتسامح مع الزّمن الواعد بمزيد من تغضّنات التّجاعيد على سمار وجهه الأليف المختلج بوميض أزرق خافت.

قفلت عائدا إلى داخل بيتي متحسّسا ما بقي من نقود في جيبي، ومحاولا الاطمئنان أنها ستكفينا لأسبوع إضافيّ على انقضاء الشّهر "بخير"، و"مستسلما" لأمنيات تتردّد عميقا في القلب خلف نظرات زوجتي وأطفالي الوادعة.

D 1 آب (أغسطس) 2010     A سالم ياسين     C 0 تعليقات