عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: ميخائيل نعيمة

مقدمة كتاب جبران خليل جبران


ميخائيل نعيمةاعتذار

ترددت كثيرا قبل أن أقدمت على وضع هذا الكتاب لأني لست أؤمن بأن في الناس من يستطيع أن يصف من حياته حتى لحظة واحدة بكل ما فيها من معان مشتبكة بمعاني الحياة الكونيةـ فكيف بمن يحاول أن يحصر بين دفتي كتاب حياة غير حياته، سواء أكانت حياة عبقري أم حياة بربري، وسواء أكان نصيبه من فن الكتابة وفيرا أم يسيرا؟

وعندي أن كل ما يرويه الناس باسم التاريخ ليس إلا رغوة متطايرة فوق بحر الحياة الإنسانية. أما أعماق الإنسان وآفاقه فأبعد وأوسع من أن يتناولها قلم أو يستوعبها بيان، فنحن حتى اليوم لم نكتب «تاريخ» إنسان ولا «تاريخ» شيء على الإطلاق. ولو أننا كتبنا تاريخ إنسان واحد لقرأ فيه تاريخ كل الناس. ولو أننا دونا تاريخ شيء واحد لطالعانا فيه تاريخ كل شيء.

ثم إن في حياة كل إنسان «أسرارا» يكتمها عن الناس. وأنا قد وقفت على البعض من أسرار جبران وفاتني منها الكثير. فهل يليق بي أن أبوح ولو ببعض الذي أعرفه؟ وإن أنا كتمته، فما معنى الذي أكتبه؟ أأخون نفسي والقارئ وجبران بكتمان ما ليس مكتوما في سجل الحياة الكبرى — وإن كان مستورا عن أعين الناس — فأصوره صورة لا وزن لها بين ظلالها وأنوارها، لأرضي بعض من لا ذوق لهم في الحياة، وأجور على ذوقي وأدفن رأيي في التراب؟ وإن أنا لم اكتمه، فكيف لي أن أبوح به من غير أن أظهر في عين القارئ كما لو كنت أدين أخي بهفوات قد لا أكون بريئا منها؟

وبعد ذلك، فكيف لي أن أكتب عن جبران من غير أن أذكر نفسي. فهل يفهم القارئ أني ما فعلت ذلك إلا مضطرا، وأني أكره التحدث عن نفسي، لا سيما في كتاب أحدث فيه عن سواي؟

تلك بعض الأسباب التي دعتني إلى التردد في وضع هذا الكتاب. لكنني عندما عدت إلى الشرق بعد عام لوفاة جبران، وجدت صديقي يكاد يكون أسطورة من الأساطير حتى في بلاده، فهو ليس جبران الذي رافقته خمس عشرة سنة، وخبرت أحلامه وآلامه، وبلوت قوته وضعفه، ورقبت جهاده العنيف مع نفسه والعالم، وقاسمني أشواقه وأفكاره، وشاركته في أفكاري وأشواقي.

ولكم سمعت أدباء ومتأدبين يطالبونني بكتابة ما أعرفه عنه. فمنهم قائل إن ذاك دين في عنقي. ومن قائل إنه واجب عليّ للأدب، ولا مناص لي من تأديته. ومن قائل إن سكوتي في مثل هذه الحالة ضرب من الإثم.

فكان من ذلك كله أني تغلبت على التردد، فألفت هذا الكتاب، على أمل أن يطالع القارئ من خلال فصوله صورة جبران كما عرفته، لا «تاريخ» حياته الذي لا يعرفه أحد، وأن يقع فيه على دروس في الحياة التي يشترك فيها كل الناس بالسواء. وها أنا أرسله في سبيله عالما حق العلم أن ما فيه من صراحة سيرضي البعض ويغيظ البعض ويدهش الكثير ممن لم يعرفوا جبران إلا في ما قرأوه من أدبه واطلعوا عليه من فنه.

لكنها صراحة لست لأتخلى عنها، فلولاها لما كان الكتاب أهلا للنشر. ولولاها لانطمس أجمل ما في حياة جبران: وهو صراعه المسثتب مع نفسه لينقيها من كل شائبة، ويجعلها جميلة كالجمال الذي لمحه بخياله، وبثه بسخاء في رسومه وسطوره. فالفن مهما تسامى في نظر صاحبه ونظر الناس ليس من الأهمية على شيء، ما لم يترجمه صاحبه والناس إلى قوة تنشط بهم من عقالات المعيشة المحدودة إلى حرية الحياة التي لا تحد — من الإنسان في الله إلى الله في الإنسان.

والأدب، مهما جمل، لا معنى له إلا على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبت من الأرض وأبقى من السماء.

ميخائيل نعيمة

بسكنتا، لبنان، في 15 حزيران (يونيو) سنة 1934.

= = =

نعيمة، ميخائيل. جبران خليل جبران: حياته. موته. أدبه. فنه. 1934. مطبعة لسان الحال، بيروت 1934.الصفحات أ، ب، ت.

D 1 آذار (مارس) 2022     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات