عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مهند علي محمد فوده - مصر

فتاة لها نكهة مدينة


مهند فودهلم تكُن مجرد غنوة اقتحمتني ذات ليلــة. كانت تعويذة سحر أصابتني. وربما كانت إحدى إمارات القدر التي أرشدتني لقدري من الحب الذي تجسد لي في الصباح التالي.

في صباح تمرح فيه الشمس قابلتها، صبية سمراء، خصلات شعرها تتدلى على جبينها كسلاسل حريرية سوداء.

تتزين بورود الياسمين كما تتزين طرقات مدينتي في الأعياد لاستقبال مُريديها.

تتبرقش بالخُضرة وشاحاً يلتف دون إحكام حول أكتفاها. وترتدي الأبيض شراعاً يتأرجح على صفحات تنورتها النيلية وخاتم إصبعها الفيروزي.

كل ما ترتديه من زينة هو عبق من تراثنا الشرقي، رجال ورّثوا حرفتهم التي تكاد تندثر على مِعصمها، ولألئ انتقلت من أعماق البحر لظهر السفن لتستقر عقوداً بيضاء حول عنقها.

تمشي الهوينى مرفوعة الرأس، واثقــة في ذاتها، فتاريخها في الذاكرة محفوظ، على جسري النيل محفور، في جزيرة الورد لها صخرة، كتب عنها شاعر النيل ذات يوماً قصيدة واسماها صخرة الملتقى. فكيف لفتاة مثلها ألا تغتر وهي تتزين بكل هذا التاريخ قبل أن تُزين جسدها بمصاغ هو أيضا قطع ملتقطة من تاريخ مدينتها؟

تتباهى أيضا بلون بشرتها السمراء كجداتها، فلا تلجأ لأي إضافات قد تلوث سُمرتها، فهي لم تهن عليها كأخريات احترفن تحويلها لبيضاء بكل السبل ولم يفلحن.

يسبقها نحوي عبير الورد الذي يفوح منها كلما اقتربت خطواتها مني أكثر، تصدر من خلخالها الذهبي وكعب حذائها رنات لمعزوفة شرقية. أخطوات تلك، أم رقصـة إيقاعية تؤَدى لعروس في ليلة حنتها المصريــة؟

عندما توقفت أمامي، ابتسمت لي شفتاها الخمريـتان، وصافحتني بأوراق زهورها البرية.

"كنت أنا وجهتها المقصودة إذن، يا لحسن حظي وصباحي النادي!"

سألتني عن أحوالي، أجبتها مسحوراً: "إنني في أفضل حالاتي". ضحكت ودارت بي السماء مع ضحكتها، ورقص قلبي من السعادة حتى كاد أن يقع على الأرض بجوار أقدامها.

قالت لي مندهشـة: "ألا تتذكرني؟"

قُلت لها: "عفواً. فذاكرتي اللعينة لا تحتفظ بالجميلات طويلاً سيدتي".

قالت لي: "قابلتك ذات مساء في ليلة فرح".

قلت لها : "عذراً، فعيناي غبيتان لأنهما في تلك الليلة أضاعتا النظر".

اندهشت أكثر وقالت لي: "كيف هذا ؟ ويومها صافحتك وصافحتني".

قاطعتها قائلا: "لهذا إذن فُقدت حاسة اللمس ليلتها من كفي. ولم تعُد لي سوى الآن، ممنون لكرمك سيدتي".

خجلت من إطرائي الذي ربما زاد عن الحد وتوقفت عن الحديث، ودت أن تقول لي: توقف يا هذا عن مغازلتي وركز في الحديث، ورددت عليها مبرراً كمن قرأ ما تقوله أفكارها عني: اعذريني، فكيف لي أن أتوقف عن مغازلة فتاة لها نكهة مدينــة عاشت فيّ وتربيت فيها سنين وسنين، أعطتني وقدمت لي الكثير، ورغم سنوات عمري التي بعثرتها على طرقاتها لم أرها قبل الآن، كنت أبحث عنها طول الوقت رغم أنها كانت دوماً أمامي وبداخلي. رغم أنني أقضي على شط نيلها ليلي ونهاري.

بدا لي أنها لم تفهم كلماتي. وبدوري لم أزد أكثر حتى لا أُضيعها مني. قررت قبل رحيلها مواجهاتها بطلبي، قلت لها: "أتتزوجني؟"

ظنتني أهذي أو مجنوناً، ولكنها صدقت أنني رجلاً أملك عقلاً موزوناً حينما عقدت قراني عليها بعد ثلاثين يوماً، واستمر الاحتفال في مدينتي أربعين يوماً، تحتفي بي عريســاً لصبية سمراء لها نكهـة المنصورة. نكهة مدينة أنشأها في يوم ما سلطان أيوبي، كان له ابنة أجمل ما فيها طلتها.

وحبيبتي السمراء ورثت عن جدتها بنت السلطان ذات الطلة، كما سبق وتنبأت لي ماجدة الرومي في غنوة غنتها منذ ما يقرب من عشرين عاماً، واستمعت أنا لها لأول مرة منذ سبعين يوماً وليلة.

D 25 أيار (مايو) 2013     A مهند فوده     C 4 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 84: "عود الند" تبدأ سنتها الثامنة

تراثنا الأدبي بين الوحدة والتنوع

قراءة في ديوان للهكواتي

خصوصية الإبداع الروائي لدى نجيب محفوظ

سينما: فيلم المجهول