عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هدى أبو غنيمة - الأردن

الصوفية في روايتين لغرايبة والقيسي


الرمز والأيديولوجيا في الرؤى الصوفية في روايتي "جنة الشهبندر" لهاشم غرايبة و"الفردوس المحرم" ليحيى القيسي

.

هدى أبو غنيمةالتصوف والفن كلاهما من مفردات عالم الوجدان، والكلمة روح حينما ترتبط بحالة التسامي الوجداني. أخذ فعل الصوفية في ثمانينيات القرن العشرين يؤثر في الحداثة الروائية ويصدح بقوة، ففي عام 1980 ظهرت رواية الطاهر وطار "الحوات والقصر". ومع ظهور "التجليات" لجمال الغيطاني عام 1983 انفتح أفق جديد بين الرواية والصوفية. لم يأت ذلك عفوا، بل هو بتأثير الهزائم السياسية والاضطرابات الفكرية والاجتماعية، والعكوف بالتالي على الذات والغيبيات.

في العام نفسه، أي 1983، ظهر الجزء الأول من ثلاثية إدوار الخراط "رامة والتنين". وتجلت النزعة الصوفية في الجزء الثالث: "يقين العطش" 1996. وفي المغرب، سنة 1990، أعلنت الصوفية عن حضورها الباذخ بلغة تتفيأ اللغة القرآنية في روايتي الميلودي شغموم "مسالك الزيتون"، ورواية "مجنون الحكم" لبنسالم حميش ثم رواية مدارج الليلة الموعودة" لموليم العروسي، 1993.

وإذا كانت القراءة الجادة، حسب نظريات السرد لعبة ذهنيّة بين المؤلف الضمني والقارئ الضمني، فلا بد أن يتوجه القارئ الجاد والباحث إلى الموقف الأيديولوجي الذي يتخلل النص أثناء عملية القراءة، وحتى بعد الفراغ منها عن طريق التأمل في المقروء، والتفاعل معه وتمثله[1].

لذلك لا بد للقارئ الباحث أن يتساءل، هل تمثل الرواية للخطاب الصوفي في التجارب الأدبية الحديثة احتجاجا فنيا، ونأيا بالذات عن صخب العالم المليء بالصراعات الطائفية والمذهبيّة، والماديّة؟ وهل هو إدانة للتطرف والكراهية، التي تؤججها هذه الصراعات؟ لعلها دعوة إلى التحرر من انغلاق الأصوليات الدينية والسياسيّة، والفكرية، في عصر سريع التحولات في كل حقول المعرفة والفكر.

دلالات الاتجاه للموروث الصوفي في الرواية

يحمل اتجاه الكتاب العرب في الرواية إلى الموروث الصوفي والنهل من ينابيعه ورموزه في أعمالهم الإبداعية دلالات أهمها: "أنهم ورثة هذا التراث، وثانيها لرؤيتهم أن الفكر الصوفي قد يقي المجتمع من الخواء الروحي، وهو رافد للواقعيّة السحريّة، ويمنح الرواية مسحة إنسانية عميقة الدلالة، تختلف في مكوّناتها عن الخطابات الأخرى" كما تشرح حورية الظل، التي تعطي أمثلة على توظيف الموروث الثاني: "من أبرز الروائيين العرب الذين استثمروا التراث الصوفي ورموزه في أعمالهم نجيب محفوظ في "رحلة ابن فطّومة" وجمال الغيطاني في "التجليّات" وإدوارد الخرّاط في "مخلوقات الأشواق الطائرة" وفي الأردن يحيى القيسي في مشروعه الروائي بدءا من "باب الحيرة" ثم "أبناء السماء"، و"الفردوس المحرّم"[2].

هاشم غرايبةوإلى الأمثلة أعلاه، يمكن إضافة هاشم غرايبة في جنة "الشهبندر" التي تعيد إلى الأذهان ثقافة السؤال في الموروث العربي وهي التي مارسها أبو حيّان التوحيدي، وهاجس اللغة التي بها الحوار والهاجس التواصلي في كنف مناقضته بحكم استئناف الشك في المسلّمات. وكذلك ظلال رسالة الغفران لأبي العلاء المعري.

وكما تقول حورية الظل: "لعل هذه التجارب هي تجارب جادة ليكون الكاتب العربي طرفا فاعلا في هذا العالم مدركا أن مبدأ المشابهة لا معنى له إلا في إطار مبدأ الاختلاف في عصر تتعاظم فيه الحاجة إلى الحوار وإلى تلبية حاجة النفس الإنسانيّة إلى النظر في علاقتها بنفسها وبمجتمعها، وبالله"[3].

ترى هل هناك علاقة بين ملابسات العصر الذي ازدهر فيه التصوف وملابسات عصرنا؟ في تناولها لهذه المسالة، تقول آمنة بلعلي: "تبدو ملابسات العصر الذي ازدهر فيه التصوف، وعاش فيه أقطاب المتصوفة، وهو القرن الثالث الهجري، ملابسات معقدة، وهي حقبة حاسمة في التاريخ الإسلامي الفكري والحضاري، فنرى الصراع بين المعتزلة والحنابلة، والشيعة والقرامطة والصوفيّة، ونشهد ملامح الحياة المترفة وما فيها من إسراف وترف، وكيف تتشابك العواطف بالأحداث، ونرى العالم العربي تنتابه انتفاضات فكرية وثوريّة واقتصادية، وثقافية"[4].

هذه الأجواء تشبه في بعض ملامحها أجواء المرحلة الحالية التي نعيشها. في عرضه لكتاب سهيل عروسي يوضح أنور أحمد "أن الصوفية كفكر ونهج، تعارض الطغيان والظلم والاستبداد وعندما وجد المتصوفة أنفسهم بين مطرقة السلطان وظلم الفقيه، تمكنوا من تجاوز تلك الثنائية عبر ثنائية مضادة قائمة على التحالف بين الفكر، وعامة الشعب"[5].

نستنتج من ذلك كله أن لجوء الكتاب العرب إلى التجربة الصوفية كممارسة إبداعية، وفلسفة لرؤية الكون، ليست مظهرا من مظاهر الحداثة فحسب، بل هي سعي حثيث لتأكيد هويتهم وتحقيق خصوصيتها وتفردها، وبعدها الإنساني في وجه التطرف وأجواء الكراهية السائدة في العالم. ويشير محمد أدادا إلى أن التجربة الصوفية تلبي احتياجاتهم الفنيّة الأيديولوجية لكونها كما يرى الناقد الفرنسي جان إيف تادييه (1978) "بنية مفتوحة متعددة الخطابات وجماع أجناس تحتضن الشعر والسرد والمسرح والرسم والأسطورة"[6].

الأيديولوجيا والرمز في الرؤى الصوفية في رواية "جنة الشهبندر"

تعتبر الرؤية الأيديولوجية في الرواية على المستوى النظري، وكذلك التطبيقي منظومة فكريّة يتحدد من خلالها موقف معين من الكون والمجتمع، ولا يمكن لأي عمل روائي أن يتنصل من مثل هذه الرؤية التي تتفاعل مع التحولات الاجتماعية والسياسيّة، لتكتسب طابعا خاصا ممكن أن نسميه الرؤية الإنسانية"، كما يوضح نبيل بو السليو[7].

وتستحضر "جنة الشهبندر" في رموزها معظم الشخصيات التي حضرت في روايته "الشهبندر" التي أعاد فيها تظهير صورة عمان برؤية واقعية يظللها الإحساس بالفجيعة هادفا إلى تحليل الحاضر من خلال قراءة الماضي متتبعا جذور الصراع الاجتماعي والسياسي والتحولات التاريخية من خلال التوازي بين التاريخ القديم والحديث مشيرا إلى عراقة المدينة، وموقعها الاستراتيجي منذ القدم جغرافيا.

وينحاز غرايبة إلى الثقافي والإنساني في مواجهة السياسة التي تتصف بالشطارة والقسوة، ولا يغفل الحلم بالمستقبل، والتحرر الإنساني، ولا يقيم وزنا لمبدأ الربح والخسارة. ومثلما بدأ روايته "الشهبندر" بعد موت محمد علي الجمّال، الشهير بالشهبندر بعيدا عن داره الواقعة بين دار منكو وسكن أبو حنيك مستعرضا حياة المدينة، وعلاقاتها الإنسانية كما يراها، مثل لعبة الشطرنج بين التجارة والسياسة.

يفتتح غرايبة رواية "جنة الشهبندر" على لسان الشهبندر بعد موته:

"أهمسُ لكم بسر: عند الموت، لا يجد المرء أمامه إلا إيمانه الخاص. إذا كان يعتقد بالعدم فسيمضي إلى العدم. وإذا كان يؤمن بالبعث فسيبعث. والذي يعتقد أنه ذاهب إلى الجحيم، فسيجده أمامه. كان ضجيج سيارتي، وهي تهوي يصم أذنيَّ. هل مضى وقت طويل على تهشمي دفعة واحدة، وانتقال روحي إلى العالم الآخر؟

"الآن أرى الصراط المستقيم أمامي كمرج أخضر والسماء بحمرة شمس الصباح في أفق عمان الشرقي تماما كما وصفه شيخي محي الدين بن عربي: "درب تظلله الطير صافات ويقبضن، ومرج تسرح به الأيائل أدركت أني إلى الجنة أسير"[8].

تحضر أم الشهبندر الترفة بنت عبد الله رمزا صوفيا يحمل دلالة صوفية فهو على عتبة الجنة يبحث عنها، وفي ديار الحق والحقيقة يسأل عنها. ولعل الدلالة لذلك، كما توضح حورية الظل، هي "أن بعض الصوفيين يحيلون أصل الإنسان في مفاهيمهم إلى أمه ويرونه النسب الصحيح"[9].

وفي المشهد الذي يصور فيه لقاء الشهبندر برضوان خازن الجنة والملاك الذي تفوح من ردنه رائحة المسك "يمنحه رضوان ابتسامة مطمئنة قائلا: "تلك دفاتر أعمالك موكلة إلى الميزان. أما ثواب ما خفي في نفسك فها هو". وكتب بماء الذهب على القرطاس الأخضر: (نقي السريرة) قبل أن أنطق حرفا دفعني الحارس المتين دفعة قوية بين كتفيَّ فدخلت الجنة" [10].

تشير هذه الفقرة إلى غياب النار والجحيم في الرواية وحضور الجنة والبرزخ وهو من رموز المتصوفة، لكنه في الرواية برزخ مادي واقعي يحمل ملامح عمّان. وهذا يتضمن تمثل الكاتب للقراءات اللاهوتية أن الجحيم فكرة تأديبية، وليس عقابا جسديا، لأن ذلك يتناقض مع تنزيه الله عن التعذيب.

يقول مهدي نصير في تحليله للرواية: "برزت أصوات رواة متعددين أمثال: ابن عربي، وندى، لوليتا، وحياة، وسميّة وحضرت شخصيات تاريخية، ذات حضور فكري وفلسفي وثقافي، وجسد حضورها حوارا ثقافيا تاريخيا بين مكوّنات الثقافة العربية ومدارسها، فحضر ابن رشد ممثلا العقل البرهاني، وابن ميمون، وحضر العقل التجريبي، عقل الأحوال بلغة ابن عربي: ممثلا بجابر بن حيان".

ويستنتج نصير أن "اللغة الصوفية في هذه الرواية تمتزج باللغة اليوميّة التاريخ بالحاضر التصوف بالبرهان في رحلة تحاول استكناه أسئلة الثقافة العربية المعاصرة وتضع على محك النقد وتحت الضوء الخطاب الديني السائد بين الناس وتدفع به بعيدا عن المكوّنات التي يجب أن تسود، وتتحاور لتخليص الإنسان العربي من رواسب التخلف والجهل والظلام"[11].

يلفت الانتباه أن هذه الشخصيات تتحرك وتتصرف في البرزخ كما يتخيلها الكاتب في حياتها البشرية على الأرض وكأنه يقول إننا حتى في الآخرة بشر. وتنطبق على رواية غرايبة ملاحظة محمد أدادا الذي يقول:

"من أبرز المكونات السردية، التي تبرز اشتغال البعد الصوفي، في الكتابة الروائية المغربية الجديدة، نجد مكون الزمن" مضيفا أن "أبرز ما يميز زمن الرواية الجديدة هو تخلصه من الزمن التاريخي واللحاق، وبطرق رمزية، باللحظات الأولية للوجود، وذلك لأجل معانقة المطلق والسعي إلى اكتشاف الحقيقة" [12].

يقول هاشم غرايبة في شهادته الموجزة عن الرواية:

"الحاضر هو لحظة وهم بين الماضي والمستقبل، كذلك هو زمن الجنة، والجنة كما يرى هي أن تعيش اللحظة، التي لا يمكن إمساكها البرهة، التي تسمى مجازا أبد. وحسب توقيت الأبد فثمة متسع، لأن تكتب روايات كثيرة وليس رواية واحدة عنوانها جنة الشهبندر [...] ترى لو كانت هناك حديقة في أحلامك، حديقة لم ترها أبدا في الحياة ربما لأنها في الجانب الآخر من الحياة، فإن أفضل طريقة لتخيل تلك الحديقة هي أن تروي قصصا تتناول آمالك ومخاوفك".

ويضيف المؤلف: "الضمير عذاب أهل النار، والنوم غفلة أهل الدنيا، والحلم حدائق أهل الجنة، فالشرير يعطي ضميرا خيّرا كي يتعذب بذاكرته المكتظة بالخطايا والخيّر تنفي ذاكرته كل ما ينغض عليه راحته الأبدية"[13].

في الأبدية لا تغيب ملامح عمّان في الجانب الآخر من الحياة: "أصغيت لأوركسترا الطيور العزباء، واستمتعت بمعزوفة عيدان القصب في غور الأردن، وشاهدت باليه الحور العين الأربعين، ورقصت الفلامنجو على أوتار عود زرياب، وجلست في الصف الثالث على مدرج حجري، أتابع أوبرا اللبوات الثلاث والغزال الشارد، ثم ذهبت إلى مضارب الغجر ودبكت حبل مودّع من جنيّات بلون النحاس"[14]. لعل ما يتخيله الإنسان يصبح واقعا.

يُلمح في رواية هاشم غرايبة، ما يقوله عبد السلام المسدّي، أي "أثر ثقافة السؤال التي مارسها التوحيدي، وهاجس اللغة، التي بها الحوار وبها السؤال، وبها الجواب. وهذا الهم الأكبر الذي هو الهاجس التواصلي في كنف مناقضته بحكم استئناف الشك في المسلّمات ومن بينها ذات الإنسان في علاقتها بنفسها وبالله، ولذلك بدت كل المحاورات وكأنها محاكمة للذات وما يعتري الإنسان من حيرة ودهشة، حين يلتفت إليها وما يصادفه من إشكال في إدراكها" [15].

رواية "الفردوس المحرّم" ليحيى القيسي

إذا كانت أسئلة "جنة الشهبندر" وحوار شخصياتها نقدا للخطاب الديني السائد المتوارث، فإن "الفردوس المحرّم" ليحيى القيسي تحاول تفسير جزء من النظام الكوني، وتعقد موازنة بين العلم والروحانيات وتطرح السؤال بقلق الباحث لا بقلق الوجودي عن الذي يحكم العالم، وليس عن الذي يسيّر الكون، وتذكر أن الواقع نفسه أشد غرابة من كل خيال (وقد لا يكاد يخطر على قلب بشر).

يفتتح القيسي الرواية بخطاب صوفي عنوانه "يا للعجب مما جرى!" وجاء فيه:

"لو لم أر كنوزها بنفسي، لقلت أضغاث أحلام! لو لم أسمع موسيقى حروفها بأذني، وأتنشق عبق عطورها بأنفي، وأتلمس مكامن أسرارها بيدي، وأتذوق فاكهة بساتينها بفمي، وألج أبواب أسوارها بجسدي، لقلت ما ذلك إلى تلبيس ووهم وضلال. مرة أكون هو ومرة أكون غيره، ومرة أكون نفسي الأمّارة بالتساؤل والقلق، والتربص بالإشراقات إذا برقت، واللمع إذا هلّت والإشارات إذا مرت، والرؤى إذا هطلت. يا لخراب هذا العالم النائم إن لم يعرف ما عرفت"[16].

يحيى القيسييقدم القيسي في "الفردوس المحرّم" شكلا روائيا يحمل ملامح الواقعية السحرية إضافة إلى الرؤى الصوفية، وهما مترادفان، وينسجم مع معطيات العصر، التي وفر فيها العالم الافتراضي قدرا من المعرفة، التي تجذب انتباه القارئ إلى آفاق العلم والفيزياء إلى جانب الماورائيات، وتهيب به أن يتجاوز ألفة الاعتياد، وغفلتها، وينفض عنه كسل التلقي السهل، الذي يبلد وعيّه ليفكِّر فيما يتلقى.

يقول المؤلف في فصل "حدائق رمادية" على لسان أحمد الحسيني، وهو الشخصية التي برزت في رواية القيسي "أبناء السماء" رمزا لحديث الروحانيات، متخذا من الرسائل الإلكترونية وسيلة للحوار:

"وثمة جهات خفيّة في هذه الأرض تريد أن يظل الإنسان عبدا لها، وألا ينهض من إغفاءته التي طالت، ولا ينتبه إلى ما فيه من كنوز وقدرات مذهلة، ودعني أطلق على هؤلاء المسيطرين علينا اسم "المستحوذون"، حيث يحاولون حجب كل نور، وتدمير كل من يحاولون كشف أستارهم، وتبديد ضلالهم. ثمة اشتغال خفي على أن يشرب البشر جميعا من قناة واحدة، وأن يخضعوا إلى ما يشبه التنويم المغناطيسي ليتم التحكم فيهم بسهولة، وكلما جاءهم معلم ليوقظهم من سباتهم الذي طال، وليشير إليهم كي يكتشفوا ما أودع الخالق فيهم من قدرات هائلة، طردوه أو قتلوه أو اتهموه بالسحر والجنون"[17].

في قراءته للرواية، يسلط حكمت النوايسة الضوء على شخصيتين، هما الحسيني، والدكتور جمال ويصف الثاني بأنه "صوت الواقع وصورته" ومن صفاته أنه "يملك الأدوات العلميّة، لكنّه يوظف هذه الأدوات في صناعة الحلم/حلم اليقظة، ويشدّ المعرفة التاريخية/الآثاريّة إلى معاقل أحلام الباحثين عن الكنوز والدفائن من أجل الانطلاق في عالم الثراء البديل"[18].

تزخر الرواية بالاحتجاج الفني على الواقع اليومي والسياسي، وغفلة البشر المنغمسين في جزئيات هذا الواقع وأكاذيبه وتضليل وسائل الإعلام دون الانتباه إلى آفاق أوسع. قد تفسح المجال لرؤية شمولية قد تضيء العتمة المحاصرة للعقول الغافلة المستسلمة لبلادة الركود.

وتنحاز الرواية للإنساني العالي المتسامي عن الاختلافات الفرعيّة التي وجدت للتعارف وليس للتقاتل، وتدعو إلى تعزيز الحوار بين الأديان والحضارات. وكأن القيسي يتمثل رسالة عمّان، وهي وثيقة رسمية اعتمدت في عام 2005، ومن بين بنودها عدم جواز تكفير فئة من المسلمين لفئة أخرى بصرف النظر عن الانتماء المذهبي.

إن الروائييْن، غرايبة والقيسي، على اختلاف مرجعياتهما المعرفية وتقنياتهما الفنيّة، وأسئلتهما يمتحان من موروث الرؤى الصوفية ورموزها وحكاياتها. ولعل مرد اتجاه الكتاب إلى مرجعيات التراث الصوفي في الرواية هو أن هذا النمط من الحكايات يفترض أحداثا ذات طابع لا معقول، من قبيل استثمار الرمزية لصالح الأفكار الأيديولوجية بحثا عن حرية المبدع في التعبير عن واقعه وتوقا إلى عالم مختلف.

وحسب ناهضة عبدالستّار: لم يكن الرمز الصوفي في الموروث هدفا شكليا قُصد للتحسين البلاغي وإنما قصد لأهداف مذهبية لم يكن من السهل التصريح بها، لذلك كانت القصة في الموروث الصوفي خير سبيل لاستبطان التجربة الصوفية وضمان بثها، وإيصالها إلى المريد في شكل تعبيري يشده، ويدهشه الأمر الذي يفضي إلى الإقناع، وخلق الإيحاء المطلوب الذي يرجوه الصوفي[19].

ولعل رواج هذه النزعة في الحداثة الروائية يقترب مما قاله كولن ويلسون في كتابه "الشعر والصوفية" ما مفاده أن حالة التسامي الوجداني تشبه إضاءة غرفة معتمة. ,ترى هل تضيء هذه النزعة ضمير العالم الغارق في الصراعات وعتمة المادة؟

= = =

الهوامش

[1] مرسل فالح العجمي، الواقع والتخييل أبحاث في السرد تنظيرا وتطبيقا، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة، 2014)، ص 41-51.

[2] حورية الظِّل، "الرواية العربية وتمثل التجربة الصوفية"، الفجيرة الثقافية، (الفجيرة، هيئة الفجيرة للثقافة، 2015). شوهد في موقع ثقافات على الرابط التالي:

http://thaqafat.com/2015/06/26290

[3] المرجع السابق.

[4] آمنة بلعلي، تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج الحديثة النقدية المعاصرة، (الجزائر: منشورات الاختلاف، 2002)، ص 24.

[5] أحمد أنور، "التصوُّف والإيديولوجيا: تأصيلات على هوامش الفكر والمنهج"، البيان (الإمارات، 2016). شوهد على الرابط التالي:

https://www.albayan.ae/books/from-arab-library/2016-07-22-1.2683350

[6] محمد أدادا، "الصوفي في الروائي"، موقع محمد عابد الجابري. شوهد على الرابط التالي:

https://www.aljabriabed.net/n40_06adada).htm

[7] نبيل بو السليو، "الأيديولوجي في الرواية"، مجلة البحوث والدراسات الإنسانيّة، العدد 8/2014، (سكيكدة: جامعة سكيكدة-الجزائر، 2014)، ص 85.

[8] هاشم غرايبة، جنة الشهبندر، (الأردن: دار مدارك للنشر، 2016). ص 7-8.

[9] حورية الظِّل، "الرواية العربية وتمثل التجربة الصوفية".

[10] غرايبة، جنة الشهبندر، ص 9-10.

[11] مهدي نصير، "نصير يعاين تجربة هاشم غرايبة في روايته الجديدة جنة الشهبندر"، الرأي (الأردن: 2/4/2017).

[12] محمد أدادا، "الصوفي في الروائي".

[13] مهدي نصير، "نصير يعاين تجربة هاشم غرايبة".

[14] غرايبة، جنة الشهبندر، ص 11-12.

[15] فاطمة بلعلي، "تحليل الخطاب الصوفي"؛ عبد السلام المسدّي، "التوحيدي وسؤال اللغة"، فصول، عد 3، مج 14، خريف 1995 (القاهرة: الهيئة المصرية للآداب، 1995) ص 133.

[16] يحيى القيسي، الفردوس المحرّم، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2016)، ط 1، ص 10-9.

[17] القيسي، الفردوس المحرّم، ص 34-35.

[18] حكمت النوايسة، "الفردوس المحرّم ليحيى القيسي: مغامرة الشكل الروائي"، ثقافات (الأردن: 2016/2/26).

[19] ناهضة عبدالستّار، بنية السرد في القصص الصوفي المكوّنات، والوظائف والتقنيّات، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2003)، ط 1، ص 47-52.

JPEG - 39.3 كيليبايت
غلاف رواية جنة الشهبندر لهاشم غرايبة
JPEG - 31.7 كيليبايت
غلاف رواية الفردوس المحرم ليحيى القيسي
D 1 آذار (مارس) 2019     A هدى أبو غنيمة     C 5 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 12: التقدم التقني والبطالة والعولمة الكاذبة

تجليات الفقد في بيت آسيا لاستبرق أحمد

"خيميائية" الحب والفوضى

كوْرا: قراءة في نصوص من التبت

قمرنا أحلى