د سمية الشوابكة - الأردن
نقد بناء: التقييم
تـتـزيا هذه القصص (أدناه) التي يوحدها شبه خط واحد بدلالة لونية طاغية فيها ثمة عتمة باهرة رغم طغيان الطغاة، وجفاف الينابيع، وازدحام الحارات بعميان البصيرة،وأفول شمس الصبر، وحصار الضباب.
واللون عنصر مهم من عناصر البناء الفني بما يحمل من دلالات ذات علاقة مباشرة بالرؤية الفنية وما يضفيه على النص من أبعاد جمالية تزيده ثراء.
تـتـشح هذه الكتابة بالسواد تارة، وبالأحمر تارة أخرى، وتـتساوق مع اللونين معا فيما بعد علّها تحظى بقليل من البياض الذي ما زالت ترقبه أو تصلي من أجله؛ ففي قصة"عيد مختلف" سواد يطغى على ألوان الأثواب المزركشة: سواد مدافع الطغيان والظلم، وسواد العيون المغمضة رغبة في النسيان. غير أن الحق قادم، ولا بد من رفع راية الحرية التي مازالت تعلو وتعلو وتعلو حد السماء، حد الحق والمصير، حد الحلم.
أما في"جفاف" فالعنوان يشي بتلاشي الألوان في ظل الأسود الموجع الذي ما زال يتسيّد الموقف ليطغى على المرئيات فـ"كأن النهار والليل تساوا في اللون" على حد التعبير الوارد في القصة "غير أن الليل ما زال قاسيا".
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (سورة الحج؛ الآية 46).
فالعمى والعطب والضجيج مفردات تُرى وتُحس، وتُلامس، وتـتعثر ببعض بعضها علّها تؤكد أننا أحوج ما نكون إلى مصباح "ديوجين" ليكون منارة للمبصرين لا العميان، فنحن لا نخشى إلا ممن يسير خبط عشواء على غير هدى فيحيل النهار ليلا، والضياء عتمة، ومنهم ربما هذا الرجل الخائب المقهور في "ليلة غروب" الذي يمارس سطوة هستيريته على زوجته فيصفع وجه نهارها بطلاق يتراقص به جذلا مع أنه الخاسر الأكبر، وهي الرابحة رغم دوار الأسى والحزن والألم الذي خُطّ على صفحة وجهها الصغير، فيكفي أنها خسرته وربحت نفسها وحنو قلب صغيرها بعد صبر مضن، ومثل هؤلاء في أقصوصة "محاصر" الذين أداروا ظهورهم وأغمضوا أعينهم عن الذين مازالوا محاصرين بالنسيان تائهين في الضباب، هؤلاء الذين قرروا أن من غاص في الضباب لم يعد على قيد الذاكرة.
ولعل من الطريف الذي قرأتُه في هذه القصص على اختلافها وتساوقها في آن واحد، ورأيتُه في عين الحلم طاقة النور التي تحمل الأمل والبشارة في راية ستُرفع صلواتها في محراب الحرية، ونواعير ستعاود تدفقها "قريبا، وقريبا جدا" رغما عن وجه الجفاف، وبصيرة ستشق طريقها نورا محمولا على كفة القلب إلى عميان الدروب، وصبر بحجم حنو قلوب الأمهات الملجومة أفواههن بأسئلة عمياء مازالت تبحث عن إجابات مفتوحة على الكثير.
هذه القصص تبشر بكاتبة جيدة تتقن فن التركيب البنائي في صور سردية حكائية موفقة، وفنية حركية تغاير المألوف، لعل من أبرزها صورة الليل القاسي الذي يتقيأ الأصوات التي" ترتعد، وتقذف بنيران تحرق كل من تلامسه"، وصورة الأصوات التي تُرى بدل أن تُسمَع في ضجيج حارات "البصيرة" المزدحمة عندما نقرأ تعبير "أرى الأصوات فيها كأنها غبار رمادي يلفح وجهي".
وأسال الكاتبة أن تقرأ أكثر فأكثر، علّنا نقرأ لها مزيدا من القصص الجميلة البعيدة عن مدافع الظلم والطغيان، والقريبة من النواعير المتدفقة حُبا وأحلاما.
قصص قصيرة
عيد مختلف
عيد مختلف مر عليها هذا العام. اتشح بالسواد فهو لم يأت كما اعتادت. لم تبحث لها عن ثوب مزركش ذي ألوان فاقعة ترتديه بل اكتفت بثوب أسود ووجنات حمراء تغالبها الدموع فتكسوها لحظة بلحظة وهي تسترق النظرات من نافذة منزلها خلسة لترى المدافع تقترب من شوارع قريتها. تذرف دموعا رقراقة لفقدها ابنها إثر قصف مدافع الظلم والطغيان.
تقطب حاجبيها وتغمض عينيها بقوة لتحاول نسيان ما مر بها لحظة سقوطه مسجى وسط الشارع. هل سيأتيها عيد مختلف؟ ربما ما زالت تنتظره بين فينة وأخرى، ترافقها دموعها وتشعر أنها لن تسكت حتى ترى راية الحرية تعلو وسط ضجيج مدافع الظلم عليها وعلى من تحب. ترفع نظرها للسماء وتبتهل داعية أن يحقق لها ولشعبها بعض ما تـتمنى.
جفاف
قالوا: جف ينبوع النواعير وسكت. ابتسمت في أعماقها وهزت رأسها معزية نفسها: ستعود تـتدفق مياهها قريبا، وقريبا جدا.
مسحت سحنة وجهها وهي تتنهد ألف تنهيدة وتسير وسط صالون منزلها وكأنها تقيس مساحته الضيقة التي باتت تختزنها وهي تحبس نفسها وتغلق أبواب منزلها عليها وعلى عيالها منتظرة والدهم الذي لم يعد.
تمددوا على الأرض وسط نوم متقطع إثر أصوات المدافع التي توقظهم كل ثانية يمر عليهم فيها الظلام ليشككهم بظلمته وليقذفهم بنيران تخفي سواده لتزيده وجعا في قلوبهم، وكأن النهار والليل تساوا في اللون. لكن لون الليل بات قاسيا وهو يتقيأ أصواتا ترتعد ويقذف بنيران تحرق كل من تلامسه.
البصيرة
أسير في طريق يعج بالضجيج. حارتنا مزدحمة. أرى الأصوات فيها كأنها غبار رمادي يلفح وجهي. اعتدت السير هنا وهناك لأشتري ما أريد. أتحسسه. ألامسه. أكتشف ما فيه من عطب. سرت يومها مسرعا سرعة لم أعتدها وكأن الساعات التي لا أعيها تداهمني. لطم جسدي لحظتها جسدا هزني. صرخ في وجهي لحظتها: "يا أعمى، ألا تنظر أمامك؟" ابتسمت وتحسست جسده معتذرا. سرت في دربي لأجد يدا تربت علي بخجل: "آسف." فرددت: "لا عليك، أعمى البصيرة أحوج بالشفقة من أعمى البصر."
ليلة غروب
رفعت رأسها مترددة. سارت وعاودت السير في أماكن متفرقة من الغرفة. حركت شفتيها بعد أن أغمضت عينيها متحلية بالشجاعة. ابتلعت ريقها: "أريد مصروفا للعيال؟"
انحنت لتناول صغيرها لعبته فهوت عليها كفه تصفعها. سقطت. أصابها دوار فرأت ما أمامها أكثر مما اعتادته. وقفت وجسدها يرتعش منتفضا. نظر إليها وأخذ يصرخ بهستيرية: "أنت طالق. طالق. طالق."
خرج راكضا يتراقص جذلا مغنيا بهذه الكلمة. نكست رأسها فتناول صغيرها طرف وجهها وقال بحزن ماسحا خدها: "آلمك؟"
محاصر
"أمي: هل ما زال العالم يذكر أني محاصر هنا؟"
"ألجم سؤالك يا ولدي لساني. ربما. ربما يذكرون وربما قرروا النسيان وسط ضباب الدروب."
◄ سمية الشوابكة
▼ موضوعاتي
- ● الغربة والاغتراب في أدب يوسف القعيد
- ● المكان الروائي في أعمال محمد جبريل الروائية
- ● مَن بعدك "يُمّة" مَن؟
- [...]
◄ عود الند: نقد بناء
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
نقد بناء: التقييم, مهند النابلسي | 10 تموز (يوليو) 2012 - 05:22 1
خواطر انشائية عادية لا ترقى لآفاق السرد القصصي الابداعي !