عائدة أديب - فلسطين
سر اللغز في المدينة وقصص أخرى
سر اللغز في المدينة
جلس أحد المواطنين صباحاً في مكان يطل على بوابة المدينة، وأخذ يستعرض المواقف التي دبرها له الكائدون الذين وقفوا جميعهم حجر عثرة في طريقه طيلة أعوام عاشها مضطهداً. سرح خياله للبعيد حيث تراءت له حيتان البحر تهاجم كل من صادفها وتلتهمه طمعاً وصدى أصواتها كالريح، تزمجر رعباً، تقصف عملاً.
يحمل كيساً في يديه ما بين الأزقة باحثاً عن صفقة. رأى أمامه ثلة من الموظفين، رجالاً ونساء وقد تركوا أعمالهم. يتوقفون برهة قرب بوابة المدينة الأول. يتساءل أحدهم: هل يا ترى مرت الأمانة التي بداخل أسطوانات الغاز دون أن يفضح أمرها؟
يرد الثاني متوقعاً: أعتقد أنها ستصل آمنة لأني شاهدت ثلة من الحرس يتابعونها بسياراتهم.
وبينما هما في حوارهما، وإذا بنسوة بخمورهن السوداء يسرن نحوهما وقد سقطت من أكياسهن مجموعة من الجرذان على الأرض.
صعدوا جميعهم إلى مركباتهم وانطلقت بهم إلى جهة غير معلومة. تعجب المواطن على البوابة لهذا المشهد الغريب. ثم عاد إلى داخل المدينة، وحيداً، غريباً، يسأل نفسه عن سبب وحدته وغربته.
الجثث والمجنون
ظلام دامس، ودماء تسبح، ونحيب يعلو. ويتردد أنين خافت. وتفوح روائح نتنة. يتراءى من بعيد شبح هزيل يتوكأ على عصا نخرها النمل الأبيض، يحمل بيسراه كتاباً عتيقاً ويقترب أكثر. تعلوه ابتسامه باهته، ونظرة تسخر من الجثث الملقاة على قارعة الطريق. يميل ذات اليمين وذات الشمال، ويشتم ما يمر عليه من الجثث. وفجأة: ضوء ساطع يكتسح المكان، وتعلو الأصوات: "هذا هو، هذا هو،" فيردد معهم "هذا هو." ويخفت الضوء مرة أخرى، ويعود سكون غريب للمكان، وتبقى الجثث تنتظر مجنوناً آخر.
الطاووس
بدا لي وهو منتفخ في سيارته الباهظة الثمن كأنه طاووس. وكلما أبصر بشراً حوله، اعتقد انهم يحدقون في سيارته وفيه معجبين، فيزداد طاووسية، ويتكاثر ريشه، ويصبح له ذيل طويل يكاد يملأ المقاعد الخلفية لتلك السيارة الفارهة. دائماً يحدق بإمعان في المرآة الأمامية. يتأكد من أناقته ويطمئن على وسامته المتوهمة، مع انه ليس وسيماً على الإطلاق. الإشارة حمراء. توقف كسائر من توقفوا. انتفخ أكثر. انتفخ حتى بدأ طاووساً خرافياً. سرت همهمة غير مسموعة، واحتلت الدهشة وجوهاً كثيرة. كان الطاووس يتضخم، يتضخم حتى ضاقت به سيارته، وتخلعت أبوابها لتتيح لريشه المتنامي أن يتمدد في كل الجهات، فيما راح ذيله الضخم يهشم زجاج مؤخرة سيارته التي تصاغرت كثيراً أمام تضخمه المريع.
الصامتان
اقتنصت زيارة خاطفة لجارتي، وما أن دخلت حتى رأيتهما يجلسان متحاذيين على الأريكة صامتين. رفع رأسه إلي وسدد نظرة نافذة. يراقب دخولي بصمت. وكان الصامت الثاني صغيري. ملامحه لا توحي بشيء، بل جلس بهدوء لا مثيل له، وذلك ليس من عاداته في شيء، وباقي البيت مثلهما كان لا ينطق. ملأني التوجس بالفجيعة، واجتهدت أن أواريها، أن أتفاداها رغم أن أفكارا سوداء أدارت ساقية عظيمة في رأسي.
"السلام عليكم. خير إن شاء الله؟"
وارتخت أوتار مفاصلي. وضع يده على ركبته، كعادته حين يزيد انفعاله، وضغط على الكلمات الخارجة بغضب يحاول أن يحد منه وهو يعمق نظرته المدببة إلي دون هوادة.
"أين كنت؟ الولد يتصل بي في العمل ورعب الكون كله في صوته وأنا أسرع إليكم. ظني أن أنبوب الغاز قد انفجر بك."
اخذ نفساً سريعاً وهم أن يكمل، لكن لم تسعفه الكلمات، فانتظر إجابتي وهو على نظرته المدببة.
هدأت نفسي وقلت بصوت هادئ:
"السلام. كان نائماً عندما ذهبت إلى الجيران، فاشتعل."