عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هيام ضمرة - الأردن

أوراق الزمن


هيام ضمرةيجمعن مع أمتعتهن أطراف ذكريات، وبعض عصارات نفس تذوب بالشوق على قصاصات ورق تحنو في بعضها، وتلقم أنفاس الروح في بعضها الآخر، خرجن في مساء موعود، تجمعن أربعتهن في صالة المسافرين، قبل موعد إقلاع الطائرة بساعتين بناء على ترتيبات مسبقة فيما بينهن، استعدادا للسفر إلى البلد الشقيق الذي سينعقد على أرضه المؤتمر الثقافي الذي دعين إليه، وخلف عربة واحدة حملت أمتعتهن جميعاً تحركن بين مواقع إنهاء المعاملات إلى صالة الانتظار الأخيرة.

تبادلن عبارات الحمد لسير الإجراءات، وسِرن بعد أن تخَفّفن من حِملهن عند موظف الشحن وهنّ يتنفسن الصعداء، وتذكرت أمل لحظة وداعها لأطفالها، وعبرت عن قلقها لمفارقتهن المرة الأولى في حياتها، وهي تجفف دمعة فاضت عن شجن، استثارتها الأمومة للحظة الوداع بشجنها المؤثر. أبدت عن امتنانها للزوج الذي شجعها على المشاركة في هذا المؤتمر، وسماحه لها بالسفر في صحبة المجموعة الطيبة والفاضلة من النساء- وهن تقصدهن بالطبع- أسعدهنّ الثناء، ورُحنّ يستعرضن المواقف التي رافقت مراحل استعدادهن للسفر، ولحظات وداع أفراد أسرهن.

تتسارع الأنفاس مع تسارع الخطوات، يحاولن اختلاق العبارات لتتحسس أرواحهن شذى متعة المرافقة، يخطين خطواتهن الأخيرة قبل أن تتلقفهن أضراس السلم الكهربائي المتحرك، قفزت سامية خطوتها الأولى برشاقة لتأخذ موقعها على واحدة من الدرجات، بينما تبعتها كل من فداء و سكينة بخطوة أكثر رزانة.. ثم بحرص بالغ وضعت أمل قدمها اليمنى وأتبعتها باليسرى وهي تبسمل وتحوقل ببعض الأدعية وقالت على الفور أنها تعاني رُهاب السلالم المتحركة، مؤكدة أن هذا السلم هو أعلاها وأطولها على الإطلاق. تفتعل الثبات، وحين التفتت إليها سكينة وألفتها مغمضة العينين لم تشك أن الأمر مجرد رد فعل لما يجيش في قلب أمل من اضطراب، ولذلك أدارت وجهها على الفور استعداداً لخطوة الوصول الأخيرة عند فوهة الدرج المتحرك، وخطون تباعاً.

وفجأة، دوت أصوات فوضى خلفهن، بعدها ارتطام فأنين، استدرن مذعورات ليلفين زميلتهن أمل وقد انطرحت أرضاً في المساحة التالية لموقع انتهاء السلم، وقدمها عالقة في زاوية درابزين السلم دون الحذاء. أدهشتهن المفاجأة، وسارعن نحو أمل يلتقطنها من تحت إبطها، يرفعنها عن الأرض بحذر شديد، وقد تلاشت الألوان من وجهها، وتعكرت صورة ملامحها، فيما تكاثر لغط المسافرين:

"اسم الله عليك."

"يا حرام!"

"سليمة. سليمة."

" لماذا لا تنتبهين؟"

"الحمد لله أنت بخير."

" كوني حذرة على سُلم كهذا."

"أجلسوها إلى حين تتجاوز الصدمة."

نهضت أمل ونفسها مخفوقة بالارتعاش، تقبض بأصابعها على فردة الحذاء وهي تهمس بوهن.

"الكعب. لقد انكسر كعب الحذاء."

جالت نظرات سكينة في موقع سقوط أمل لتعثر على الكعب وهو يعتلي زاوية مسننات العتبة الأخيرة للسلم وبنفس روح المبادرة والحماسة فيها، سارعت إلى طلب العون من موظفي الخدمات في مبنى المطار، للحصول على مطرقة أو مواد لاصقة. وحين باءت المحاولة بالفشل، كان على أمل أن تختار المسير بحذاء مكسور الكعب وتصبح كطائر البطريق المنهك، أو أن تتخلى عن الحذاء نهائياً. انكمشت أمل وهي تغوص في حرجها، حبات عينيها الزرقاوين تدور كالبندول متخيلة أن كل العيون ترمقها، وأن كل الأصابع سوف تصوب باتجاهها مصحوبة بالابتسامات الهازئة، ونظرات مصبوغة بلون الدهشة والشفقة.

"آآآآ". تفلتت عنها أنة. كانت نسيت أمر الرضوض في كتفها وجانب حوضها، فقد غلب هدير الحرج على هدير الألم في حمأة تلاحق الأحداث وحرجها. وعبرت بصوتها المرتج: "يا إلهي كيف أن السقطة بدلت سعادتي وأربكت فرحتي!"

فقالت سكينة بهدوئها المعهود: "عليك أن تأخذي نفساً عميقاً وبقوة. شهيقاً وزفيراً لمرات عدة."

انتحين بها في زاوية من صالة الانتظار، وهن يستعرضن جملة حلول فلم يكن أمام أمل سوى المسير دون الحذاء في أروقة المطار وداخل الطائرة، وهي تفتت أجزاء الحرج بالابتسام!

حطت الطائرة في العاصمة المستضيفة للمؤتمر، وحطت معها أعصاب أمل المتوترة، تصلبت عيناها على الطفل الغافي مع فراشات الحلم في حضن أمه في الجانب الآخر من الطائرة. تذكرت ثانية أطفالها المتسحبون لتغفو فيهم أنفاس الخوف بلا خدوش، فيما قدميها الحافيتين تتحسسان بؤس الأرض المسكونة بالخطوات، فسبحت حدقتاها بملوحة دمع التأثر!

طابور المسافرين أمام نافذة موظف الجوازات ينمو باطراد، والنساء الأربع يصطففن بتتابع، فيما سامية تراقب بتحفز، تقف على رؤوس أصابع قدميها، تشرئب بعنقها، تحصي بدقة طابور الرؤوس، تنظر في ساعتها وذهنها يحاول تقدير زمن الوصول إلى النافذة. سكينة تتلو بعض آيات قرآنية قصيرة وتحوقل. تقول إن ذلك دائماً ينفعها في مثل هذه الظروف.

أنهت سكينة معاملاتها وتبعتها أمل. انزلقتا باتجاه صالة استلام الحقائب، وعقلهما يتربص الخطوات التالية، وقفتا تنتظران سامية وفداء قرب عربة حقائبهما استعداداً للخروج من مبنى المطار. يحاول موظفو الجوازات في بعض الأحيان نسف فرح المسافرين بالعزف على الأوتار الأمنية المشددة، لإشباع رغبة غامضة فيهم، فيحجزوا أوراق المسافرين الرسمية، ويجمدوا عملية انفلاتهم من روتين المعاملات، فلا يطلقوا ضحاياهم إلا بعد أن ينبت فيهم القهر المسنون، وويل لمن تأخذه العزة إلى الاعتراض، حينها سيتحول نحو طائرة العودة وجواز سفره ممهور بالشبهة.

بدأ تساؤلهما حول زميلتهما يصطدم بجدار مبهم، لا جدوى من الاستمرار حين يتلون كل شيء بالعجز، مضى قرابة الساعات الثلاث، وقد بدأ انبلاج نور النهار، ضمت أمل يديها تحت صدرها وهي تقول بتأثر مشوب بالندم!

"لعله قصاص من الله ذلك الذي يجري لنا، لأننا مسافرات دون محرم. أليس (الخارج من داره يقل مقداره) كما يقول المثل العامي؟"

سقطت كلمات أمل كصفعة تطيح بصورة النضج المفترض أن تعززه أصلاً بشخصيتها، وكأن كلماتها تلطخ معتقدها الذي يجيز السفر للمجموعات المشهود لها بالخلق. بواسطة الوسائل الآمنة. الأمر الذي أثار سكينة فبادرتها قائلة:

"هيا يا صديقتي. أوقن بحدسي أن الحادثة سوف تصبح واحدة من الذكريات الجميلة التي نتغنى بها لأبنائنا وربما لأحفادنا. (وهي تشير باتجاه موقع الجوازات). ثم انظري يا عزيزتي أليستا هاتان صديقتينا وقد تحررتا من سادية موظف الجوازات؟"

صدق الحدس، حيث ما من شيء يشوب إجراءات دخول الزميلتين أرض الكنانة، سوى لوثة اقتراف أحمق للسلطة تصيب بعض الموظفين المهووسين.

مضت الأيام الأربعة للمؤتمر بمتابعة شيقة، ونسي الجميع أحداث ليلة السفر المتعثرة، وظلت الساعة تبعث دفق دقائقها بإمتاع، حتى لحظة العودة بالشوق للوطن، فانطلقت العيون تحصد لحظات جميلة تختزنها بكل عبقها الذاكرة.

وخلال ممارسة طقوس استقبال الأهل للنخبة العائدة، لم تشأ الذاكرة أن تلقي بوفرة احتسائها لكؤوس الثقافة والصحبة الطيبة خلال التجربة الأجمل، كنّ جميعهن بالعزة ثملات، وتجربتهن توقظ فيهن زخم العطاء والإبداع بلا حدود لتعبر أمل بعفوية.

"حقاً يا سكينة. لا يكسرنا الانطلاق خارج الحدود بالمقاصد السامية، وإنما تكسرنا امعانات البعض من مهووسينا لإيقاع الإهانات على الخلفية الإقليمية."

ابتسمت سكينة وهي تربت على كتف زميلتها:

"لا يأس مع الأمل يا أختي. الاحتكاكات والتقارب قادرتان أن تصرفا عنا هلع الاغتراب. فقط علينا كأصحاب قلم ورؤية أن نوظف ملكاتنا لاختبارات الوعي."

"هل نستطيع؟"

"بالمحاولة ودون تقاعس، وستحفظها بين الأيادي أوراق الزمن."

= = =

(*) قصة ضمن مجموعة قصصية بعنوان إنهن النساء. الناشر: دار وجوه للنشر والإنتاج. الرياض، السعودية (2008).

انظر أيضا الخبر الموجز عن المجموعة في هذا العدد.

D 1 أيار (مايو) 2008     A هيام ضمرة     C 0 تعليقات