عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

تعويض


زكي شيرخانجمال هذا الوجه ساحرٌ، ملفتٌ للنظر. مكوناته كأنها جُمعتْ مع بعضها بعناية إلهية خاصة. جبهة متوسطة تعلو عينين لوزيتي الشكل، عسليتي اللون. أنف زاده القصر روعة يتوسط خدين متوردين كهضبتين في الشفق، يستدقان تدريجياً نحو الأسفل كأنهما دليلان إلى شفتين مكتنزتين تتربعان على ذقن يكمّل شكله روعة الجمال. وجه طفولي، بريء الملامح، يصلح أن يكون أنموذجاً لعشرات اللوحات. ويمكنه أن يُلهم عشرات القصائد، ويُعذّب عشرات العشاق.

تطلعتْ إلى هذا الوجه وكأنها تراه لأول مرة رغم إنها لم تفارقه. بهرتْ بجماله ودقة ملامحه. "كيف يمكن لهذه البراءة اللامتناهية أن تحمل كل هذه الكثافة من ظلمة التردي؟" مدت أناملها إلى وجهها تتحسسه. ضغطت بسبابة يمناها على وجنتها وكأنها تريد الاطمئنان على أن هذا الوجه ليس قناعاً. آلمها الضغط، رفعت إصبعها، فترك طرة حمراء.

أسندتْ كوعيها وتركت رأسها يرقد بين كفيها، مطرقة، مغمضة العينين، وصورة المجابهة لا تفارق مخيلتها وتأبى أن تمحى من ذهنها. الصداع الحاد زادها توتراً. رفعت رأسها فرأت من جديد الوجه الذي ما زال جميلاً، جذاباً، رغم ما اعتراه من ألم، وكبرياء مهانة، وتوتر مشوب بقلق. "ما أبشع هذا الجمال!"

سارت باتجاه المطبخ بعد نهوضها من مقعدها بثقل. ابتلعت حبة مهدئة، وحبة مسكّنة للصداع. عادت ورمت بنفسها على السرير وغطت وجهها بظاهر كفها. "الراحة بعد ساعة نوم ولو واحدة، كفيلة باستيعاب الموقف وتقييمه." لم تستطع تحمل رقادها إلاّ دقائق. في رأسها قرار آني عليها تنفيذه. خرجت مسرعة. ركبت سيارتها وسرعان ما وجدت نفسها تقود نفسها نحو هدفها.

استقرت على المنضدة أمامها إضبارة صفراء اللون، وسط هالة ضوء مصدرها مصباح منضدي على يمينها. ليس في الغرفة من ضوء سواه. نثرت أوراق الإضبارة أمامها. نظرها ينتقل من ورقة إلى أخرى. "كان محقاً في كثير مما قاله." ولم يكن هناك من حاجة لإلقاء نظرة على محتويات الإضبارة للتأكد من صحة ما قاله،" "لولا تجاوزه حدود اللياقة الأدبية، المتمثل بارتفاع صوته، لربما أدى الأمر إلى إقرار الخطأ المرتكب. لم يكن بالإمكان إقرار خطأ حتى لو لم يكن مقصوداُ." لو لم يبادر هو بهجومه، لبادرت هي واتهمته بالتدخل في عملها، ولزادت عليه، أنه اعتداء عليها أثناء أدائها واجبها الوظيفي. لو فعل ما فعله بهدوء واستكانة، لاتهمته بالجهل ولبررت هذا الخطأ بأي حجة وحجة، مقنعة أو غير مقنعة، وطالما ليس من قانون يعاقبها على فعلتها فليس هناك مما تخافه على نفسها. العمد في الخطأ ليس وارداً بالمرة. والإهمال، هناك أكثر من زميل سيدفعه عنها، لألى تُفتح الأبواب على مصاريعها لآلاف من مثل هذه الحالات.

هل يمكن أن يحدث مثل هذا التباين في نتائج فحصين منفصلين عن بعضهما لعينتين مأخوذتين من نفس المصدر؟ الأول يثبت وجود حالة مرضية متقدمة، والثاني يؤكد خلو العينة من أي آثارٍ مَرضية؟ الصورة الشعاعية الأولى التي طلبتها جاءت نتائجها خالية من أي مظهر غير اعتيادي. "لم تقتنعي، فطلبتِ إعادة الكرة، وجاءت النتائج كما ترغبين." وجود ورم غير طبيعي. "ترى لو كانت نتائج الفحص الشعاعي الثاني مطابقة للأول، ماذا كان سيكون رد فعلكِ؟ لماذا تراكِ أخذتِ بالنتائج الأسوأ في كل الفحوصات؟ ألم يكن دفع الأمور في اتجاه إجراء عملية جراحية هو الغالب على تفكيرك؟"

استحضرت صورة المواجهة وهو يقول لها:

= لقد نبهتك إلى اختلاف النتائج، وأبديتُ استعدادي لإعادة الفحص المختبري، والصورة الشعاعية ثانية وثالثة. كان جوابك أن لا مزيد من وقت لدينا كي نضيعه، هناك خطورة على حياة زوجتك.

"كيف يمكن أن يحدث هذا؟" كان هذا السؤال وغيره من أسئلة يزدحم بها عقلها، وعلامات استغراب كبيرة في داخلها. "لماذا هذا الثقل؟ ولماذا الآن؟ ولم مع هذا الشخص بالذات؟ تكررت مثل هذه الحالة بضع مرات. المرة الأولى كانت ثقيلة، أسهدتك ليلتها. في الصباح عاد كل شيء إلى طبيعته. الصداع زال. التوتر انمحى. امتّن أهل الصبي منك لأنك أنقذت حياته كما ادعيت حينها. كان الوفاق أقرب ما يكون إلى التام بينك وبين نفسك. لم يكن هناك ما يعكر صفوك."

تطلعتْ إلى الأوراق المنثورة أمامها تريد أن تجد فيها ما يعينها على تعزيز موقفها فيما لو تطورت الأمور. يبدو لها هذا الشاب، من نظرة عينيه، عنيداً، صلباً، نبرة التحدي في صوته اتسمت بالثقة. شيء من خوف في داخلها يقلقها ويجعلها وكأنها تحس خطراً يربض على بعد أيام منها. إحساسها بما قد يحدث تعرفه في داخلها ويعرفه المقربون منها، وطالما اعتمدته في كثير مما أقدمت عليه عبر مراحل مختلفة من حياتها. هكذا كانت تعتقد. هذا "المجس" كما كان يحلو لها أن تسميه بدأ يفقد فاعليته بمرور الوقت في خضم حياتها اليومية العملية. أو ربما هي التي عطّلته، أو منحته إجازة، لأنه في بعض الأحيان أصبح يعيقها في المضي فيما يغريها.

حددتْ ما يمكن أن تدافع فيه عن موقفها من خلال ما أطلعت عليه من نتائج وطمأنها هذا بعض الشيء. بعض النتائج في الإضبارة بدت وكأنها تراها لأول مرة. أشتد الضيق بها إلى حد أنها تخيلت أنها تختنق. لم تعد تطيق ظلمة الغرفة، ولا ضوء المصباح المنضدي. لم يعد باستطاعتها البقاء، ولم تطق فكرة الخروج. ليتها استطاعت النوم. ودت لو بكت. صرخت. حطمت ما في هذه الغرفة. لا تدري ما تفعل؟

عليها أن تهدأ. توترها لن يزيد الطين بلة فحسب، بل ربما قلب كل الأمور ضدها. لا بد أن تواجه الموقف برباطة جأش. في كل الأحوال، إن لم تستطع أن تبرئ نفسها، فيمكن أن يُعتبر الأمر تشخيصاً خاطئاً أدى إلى خطأ غير متعمد، وحتى في هذه الحالة يمكن الركون إلى التحليلات الخاطئة التي لم تجرها هي بنفسها بل من قبل مختبر معتمد. فإذن سيكون اجتهادها مبنياً على خطأ دفعها إليه غيرها. وفي هذه الحالة إن لم تبرأ ساحتها، فأقصى ما يمكن حدوثه هو أن توجه لها عقوبة إدارية بسيطة، ليس إلاّ، وفي أسوأ الاحتمالات، "هذا الرجل يمكن أن يتهور. لا أحد يضمن الأسوأ من النتائج."

في خضم كل ذلك خطر على بالها، "إن ساءت الأمور يمكن أن تلجأ إلى التعويض. لم لا؟" فكل شيء يمكن أن يُعوّض، والناس، كما يترامى إلى سمعها باتت تخضع لممارسة التعويض في حسم إشكالات الحياة اليومية المعاشة. بل تمادى البعض في خلق مشاكل مع الآخرين من أجل الحصول على تعويض، سواء أكانوا على حق أم لم يكونوا. عاد الناس عقوداً إلى الوراء. عادوا إلى عرف محته المدنية من قاموسها فصار مما أكل الدهر عليه وشرب. وحتى تدفع عن نفسها غائلة ما لا يحمد عقباه. "لا بأس من تسوية المسألة بيني وبين الزوج معتمدة أساس التعويض المالي."

في اليوم التالي كانت تتصل به طالبة منه أن يوافيها لبحث أمر زوجته.

* * *

عندما التقاها، كان إحساس امتلاك حجة جديدة إلى ما يمتلكه قد طغى عليه، وأصبح يحس بأنه في وضع أفضل. فهي التي اتصلت به، وهذا من وجهة نظره، دليل على إحساسها بفداحة ما ارتكبته بحقه أولاً، وبحق زوجته ثانياً. أو على الأقل إقرارها الضمني بخطئها. كلاهما كان متوتراً. متحفزاً. بادرته:

= لا تظن أن اتصالي بك يعني بأن الخطأ، إن كان هناك خطأ أصلاً، يمكن أن يوفر لك فرصة تحقيق أي مما في ذهنك.

قاطعها بهدوء افتعله بجهد:

= اسمعي يا دكتورة، هكذا لن نصل إلى التسوية التي تفكرين بها، فإن استمررت بلعبة القط والفأر التي تحاولين ممارستها، والتي يمكنني لعبها أيضاً، وأؤكد لك إنك لن تستطيعي مجاراتي بها. أقول إن استمررت باللعب، فأؤكد لك أني سأترك المكان والتجئ إلى الوسائل التي أرعبتك ودفعتك إلى الاتصال بي ومحاولة تسوية الأمر بشكل لا عنفي، أن صح التعبير.

تركها تستوعب تهديده المبطن. جعلها بصمته، تتأكد من الصورة التي كونتها عنه في مواجهتها الأولى معه، من إنه صعب المراس وعنيد إلى حد التهور، قبل أن يقول لها:

= أنا وأنت مقتنعان بأن خطئاً أُرتكبَ، وهو متعمد، الغاية منه المال لا غير. هو خطأ سواء أقرته جهة ثالثة أم لا، فهذا أمر لا أضعه بحساباتي. أنا أعتمد على إقرارك الضمني به، قبل أن أعتمد على التقرير الطبي للفحص المختبري للجزء المستأصل من جسد زوجتي، والذي يؤكد سلامته تماماً. التقرير، لعلمك فقط، موّقع من مجموعة أطباء طلبت منهم أن يقوموا بالفحص كفريق وليسوا منفردين. عادة أنا أبني أحكامي على ما يقوم به الآخرون من أولي الخبرة والدراية، لا على ما يقولونه. أنا أعلم أن الناس في أغلب الأحيان تقول غير ما تفعل وغير ما تبطن، خوفاً من ماضٍ أو آتٍ.

صمت ثانية، يريدها أن تعي ما وراء كلماته وجمله. بحركة تمثيلية، وببطء، أخرج علبة سجائره وأشعل واحدة، واضعاً العلبة والقداحة أمامه في إيماءة إلى أن الجلسة ستطول. رفع رأسه إلى الأعلى ونفث الدخان باتجاه السقف، وعاد إلى حديثه:

= هذا الخطأ، مع توفر حسن النية، يمكن اعتباره غير متعمد، وإن كنت لا أراه كذلك كما قلت لك، ليس المقصود منه إعاقة زوجتي عن الحمل كلياً، بعد أن أكدتِ أنتِ على احتمالية حصوله قبل العملية الجراحية بعام. هذا بالنتيجة أدى إلى حرمانها نهائياً من الأمومة، وحرماني مؤقتاً من الأبوة.

لاحظ عليها الضيق. صمتَ ثانية، وهو موقن بأن ما قاله بدأ تأثيره عليها. أشاح ببصره عنها مانحاً نفسه ثوانٍ إضافية قبل أن يعاود هجومه، لكنه فوجئ بها تقول:

= أنا على استعداد لأن أعوضك بمبلغ من المال. أنا على استعداد لأن أعوضك بخمسة أضعاف ما كلفتك العملية الجراحية.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة عنت لها الكثير، وهو يقول:

= أنا أتحدث عن إعاقة أمومة، وحرمان أبوة. ما أبخس ثمنهما عندك.

= ربما لا أحسن التقييم. حدد مطالبك، ولكن لا تغالي.

= المغالاة مسألة نسبية.

= لكن هناك ما يسود من الأعراف.

= أنا أتحدث عن مطالبي الشخصية.

= ماذا تعني؟

= لم تقاطعيني مذ دخلت هنا، وأرجو أن تستمري في عدم مقاطعتك، وصدقيني لن أدع سؤالاً يدور في ذهنك إلاّ وأجبتك عنه.

إنه يبدو واثقاً من نفسه إلى حد إثارة أعصابها.

= أنا قلت إني فقدت أبوتي مؤقتاً، وهذا يعني إنه يمكنني أن أصبح أباً من جديد. أعني من زوجة جديدة.

= إذن، عوضك هو تكاليف زواج جديد؟

= أنا لا أتحدث عن تكاليف الزواج، فأنا غني بما يكفي لأتكفل بأربع زيجات دفعة واحدة. أنا أتحدث عن زوجة.

= لا أفهمك.

بدا عليها ارتباك من نوع لم تعهده، أصابها كلية.

= مهلاً، تعني إنكَ تريد مني زوجة؟

= لم أشك في أن ذكائك يمكن أن يخونك.

= لا تعتمد على ذكائي في تفسير الأمر. أجبني، هل تعني إنك تريد مني أن أوفر لك زوجة؟

= تماماً.

= من أين آتيك بها؟

= موجودة.

= أين هي؟

= أنتِ.

قبل أن تفيق من صدمتها، كان يؤكد ما قاله:

= نعم، أنتِ.

خُيّل إليه وهو ينظر إلى وجهها الجميل، إنه اكتسى بكل ألوان قوس قزح. أضاف:

= في مجالس التعويض التي تعقد لحسم الخلافات، عادة ما يُفرض تعويض عالٍ نسبياً. ثم تبدأ الحسومات. مبلغ يخصم إكراماً للشيخ فلان، وآخر للسيد علّان، وآخر إكراماً للحاضرين، وهكذا وفي نهاية المساومة لا يحصل من يُعتقد إن الضرر واقع عليه إلاّ على ربما نصف ما فُرض في بداية الجلسة. أنا لا أقبل أن يخصم منك شيء، أريدك كاملة. لا يد ناقصة، ولا رجل، ولا رحم. أريدك كاملة غير منقوصة.

= أ… أأنت… رباه…

= أما ما يخص إعاقة زوجتي، فأنا كفيل به. عوضها عندي.

= أجاد أنت فيما تقوله؟

= زوجة شرعية. هذا هو الحل الوحيد الذي يضمن عدم انتقامي منك. فكرتُ كثيراً بالأمر. لم أستطع أن أسامحك. لا أضمن الحد من تهوري تحت إلحاح رغبة الانتقام.

قاطعته هذه المرة بحدة بادية من خلال ضغطها على الكلمات:

= الأمر ليس بهذه الفوضوية التي تمارسها، فالقوانين ما زالت سائدة تأخذ مجراها، و…

لم يدعها تكمل:

= وعِرف التعويض صار قانوناً معترفاً به، وفي كثير من الأحيان يُلتجأ إليه اختصاراً للوقت الطويل الذي تستغرقه المحاكمات. أنا مثلك أفضل الطرق القانونية، ولكن لا تنسي إنك أنتِ من عرضتِ التعويض.

= لكن هذا تردٍ… هذا نكوص…

= لم أكن المسبب لهذا التردي والنكوص. ثم أكرر ما قلته لك قبل قليل، أنت من لجأ إلى هذا الأسلوب. ولو فكرتِ بروية، ستجدين ما عرضته عليك هو حل متحضر. لن يسبب لك الضرر ولا الإحساس بالغبن. وسيجنبك الكثير من الإشكالات المهنية على أقل تقدير.

ثم فيما بدا لها أنه منتهى الاستفزاز قال:

= انزعي النظارات عن عينيك لتري الصورة بألوانها الحقيقية. فأعمارنا متقاربة، وتعليمنا يكاد يكون متقارباً، وأنا غني إلى الحد الذي يمكنك الاستغناء عن دخلك. والأهم من ذلك كله فإن ما أملكه سيحميك من نفسك والاستغناء عن إجراء عمليات جراحية ليس لإشفاء المرضى ولكن لسلبهم أموالهم.

نهض من مكانه، وهو يقول:

= أنا في انتظار استعدادك لإتمام مراسيم الزواج.

سار باتجاه الباب بخطوات ثابتة تنم عن ثقة أقرب ما تكون إلى الغرور. أغلق الباب خلفه بهدوء تام دون أن يلتفت إليها.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2021     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات