عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. أصيل الشّابي - تونس

كتابة الرائحة للدكتور رضا الأبيض

هل تؤسّس الرائحة حقّا خطاب الرواية العربيّة؟


أصيل الشابيصدر هاته السنة كتاب مهمّ وطريف للدكتور رضا الأبيض بعنوان "كتابة الرّائحة" في طبعته الأولى عن دار زينب للنشر بتونس في 294 صفحة من الحجم الكبير ضمن سلسلة الورّاق، فدراسة الرائحة في الأدب أمر لم نألفه ولم تهتمّ به الكتابة النقديّة العربيّة الحديثة رغم أنّها ركن أساسي في تراثنا ولا سيّما منه الصوفي، فالرَّوْحُ هو الرائحة، وكان عبد القادر الجيلاني من أصحاب الشمّ، فكان يعرف غيره بالشمّ.

وثمّة علاقة بين الشمّ والخيال وطيدة في إطار عرفانيّ يمكن ملامستها في التداخل بين الرُّوح والرَّوْحِ، فهذا يدعم ما ذهب إليه الدكتور رضا الأبيض حينما أكّد قيمة مسألة الرائحة، وقد ربطها بجملة مداخل دقيقة، بعد تأصيل طال الفيسيولوجي والفلسفي والديني، هي المدخل السيميولوجي والمعجمي والأدبي.

ونهض الكتاب في جملته على أنّ الرائحة مكوّن أدبي على درجة عالية من الأهميّة في النصّ الروائي العربي المعاصر، فهي لافت كبير في العناوين ذات الدلالة الإشهاريّة الكبرى، وقد قدحت رواية "روائح المدينة" لحسين الواد التفكير في موضوع الرائحة وطرائق كتابتها وكيفيات تلقّيها كما ورد في المقدّمة، ليتأسّس تصوّر التأليف، بعدئذ، على مدوّنة روائيّة عربيّة متنوّعة وثريّة شملت "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم؛ و"رائحة الجنّة" لشعيب حليفي؛ و"رائحة الصّابون" لإلياس خوري؛ و"رائحة الأنثى" لأمين الزّاوي؛ و"روائح ماري كلير" للحبيب السّامي؛ و"زرايب العبيد" لنجوى بن شتوان؛ و"رائحة الكافور" لميسلون فاخر؛ و"فخاخ الرائحة" ليوسف المحيميد؛ و"رائحة القرفة" لسمر يزبك.

خطاب الرائحة، من هاته الناحية، استوجب خطابا نقديّا كان في البداية ورقات علميّة، ثمّ تحوّل إلى مبحث متكامل ونابع من رؤية نقديّة تراهن على إعادة الاعتبار للمهمل في الدراسة النقدية، وهو هنا الرائحة أو العطر على أساس تواصلي يتجاوز اللّغوي إلى السيميائي.

والحقيقة أنّ هذا يذكّر بخطاب المرئيات السيميائي الذي نال حظّه من الدّرس من خلال تحليل الصور عند النقّاد العرب كصورة المدينة وصور المجتمع وغيرها من الصور، في حين لبث الخطاب الروائحي مغفلا.

رضا الأبيضويحدّد المؤلّف الرائحة من منظور سيميولوجي بوصفها لغة بحدّ ذاتها كالنظر والحركة والصمت، كما يحدّد أهميّتها من حيث هي إيحاء يؤسّس التأويل كما هو الشأن مع صنع الله إبراهيم الذي يبئّر على الفساد السياسي من طريق ايحاءات الرّائحة وتأويلها النصّي والمقامي.

ولكنّ المدخل المعجمي يرسّخ في الذهن أنّنا حيال حقل معرفي أساسه المعرفة الشميّة، ولا ينفصل هذا عن الجسد، سواء كان جسدا فرديّا أو جماعيّا كما هو الحال مع المدينة، فرائحة الفضاء مدينة أو ريفا بارزة عند إلياس خوري وكذلك شعيب حليفي وحسين الواد، وهي عند الأوّلين رائحة الحرب والموت، ولهذا علاقة بما يسميّه رضا الأبيض هشاشة العالم وميوعة المعنى.

وتظهر رائحة الجسد الأنثوي عند سمر يزبك وأمين الزاوي والحبيب السالمي ويوسف المحيميد وميسلون فاخر بانية صورة الشخصيات على أساس شمّي.

ويقودنا البحث في النهاية إلى لبّ المسألة الأدبيّة من خلال الشمّ بوصفه برنامجا سرديّا والرائحة استعارة، فتتحوّل الرّائحة ضمن المثال العاملي إلى فاعل يقتضي دعما ومعارضة كما يقتضي باعثا وهدفا، ولهذا علاقة ببناء الدلالة في النصوص، وهو بناء يستقي قيمته من انضواء الرائحة كما أتصّور إلى خطاب الأهواء بمعانيه المؤسّسة على الحبّ والألم والمؤثّرة في القرّاء والمنبعثة من الكتّاب.

إنّ الرّوائح هي التي تعمّق البرنامج السردي وتنقذه من السطحيّة، فما نصطلح على تسميته بالصورة عموما والصورة في الأدب بصفة خاصة ليس، في حقيقة الأمر، سوى صور قائمة في جوانب أساسيّة منها على فاعليّة الشم، فلا يمكن بنينة الشخصيّة والمكان والزمان في النصوص بمنأى عن هاته الفاعليّة، ولا يمكن تأسيس الدلالة فهما وتأويلا بمنأى عن هذا أيضا.

كما أنّ الصورة الإيطوسيّة للمتكلّمين في الرواية مرتهنة في أمثلة نصيّة كبيرة بالشمّ، ويشترك، هذا كلّه، في بيان قيمة الشمّ البلاغيّة، ويفتح على قيمته التخييليّة، هاته القيمة التي عيّن المؤلّف حاجتها إلى جهد تأويلي وما يعنيه ذلك من ثراء الخطاب الروائي ونأيه عن الحرفيّة والتسجيل.

يفضي خطاب الروايات المختارة عند المؤلّف إلى مركزيّة الذات المنتجة لهذا الخطاب من خلال مظاهر الذاتيّة كالانزياح عن المرجع الثقافي والتلوّن وخلخلة التمثّلات الجماعيّة بوعي فنّي ترفده التجربة الفرديّة، وهي فرادة تتحقّق في النصوص من خلال أهميّة الاستعارة، لا اليوميّة المتداولة، وإنّما الروائيّة.

والرائحة، من هذا المنطلق، استعارة روائيّة، بمعنى أنّها تتيح في الاستخدام الروائي عند بعض الروائيين منظورا خاصا يختلف عن غيره كالمنظور المرئي: السينمائي أو غيره.

وتتحوّل الرائحة، بالاعتماد على هذا، إلى مرآة كاشفة وفاضحة وناقدة. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا يعيد النصّ إلى الأنساق التي أنتجته وولّدته وهي متنوّعة سياسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة وثقافيّة.

إنّ النصوص الروائيّة وإن كانت مؤسّسة في داخلها على استخدامات معقّدة لغويّة وإشاريّة أخرى فإنّها فيما وراء ذلك تندرج في سياقات كبرى لا تنفكّ عنها، فالرواية العربيّة بنت عصرها وبيئتها، وليست مغلقة على نفسها، ذلك أنّ الأدب تواصل بالمعنى الأعمق للكلمة، ويغدو هذا التواصل، في ضوء منظور الرائحة، أكثر عمقا لما يحتّمه الشمّ من علاقة بالذاكرة وأخرى بالحاضر ومن علاقة بالخيال، فأشياء كثيرة لا تدرك وقد انفرط عقدها إلاّ من خلال الرائحة.

كما أنّ الرائحة، بحدّ ذاتها، استراتيجيّة استفزازيّة في العناوين واستراتيجيّة تخييليّة في الكتابة الروائيّة تتخطّى منطق اللّغة إلى منطق الثقافة، ممّا يفتح على خصوصيّة النصوص المحليّة.

وتوصّل الدكتور رضا الأبيض في الخاتمة إلى أهميّة كتابة الرائحة في الرواية العربيّة المعاصرة، فهي تحتفي بالجسد وتستعيد توهجه وتكسب الأدب منظورا ألصق بالذات تعبيرا ودلالة وتصوّرا، وقد نبّه بالاستناد إلى التحليل أنّ الرائحة قد تكون في الرواية إيهاما وفخّا يخلو منها الخطاب، بكلّ ما يشي به ذلك من إشكاليات تتعلّق بعسر تخيّل الجسد عموما وتخيّل الرائحة، ممّا يعني السقوط في تفكّك الكتابة والسطحيّة.

أليست الرائحة، ههنا، محك اختبار لمتانة الرواية في قولها ومقولها وفي وعيها ولا وعيها؟

إنّ الرّهانات التي تعلنها الرواية العربيّة كرهان الرائحة ليس رهانا ناجحا بالضرورة، وربّما يعني هذا الفشل في أنسنة الواقع المتّصل بالذات والمجتمع والتنكّر لحميميّة الجسد وتعنيفه بالتعمية عليه، وهي في الحقيقة تعمية على المعرفة قد تمارسها الذات الكاتبة على نفسها قبل غيرها بوعي أو بلا وعي.

JPEG - 17.1 كيليبايت
غلاف: كتابة الرائحة
D 1 أيلول (سبتمبر) 2021     A أصيل الشابي     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • د.أصيل الشابي تحية طيبة من الأردن وبعد كل الشكر لإضاءتك المعرفية لمضمون كتاب الدكتوررضا .الأبيض(كتابة الرائحة) وهو موضوع نقدي يستحق الإهتمام لجدته وإضافته المعرفية المختلفة للسائد في الدراسات

    النقدية

    . لقد أضفت إلينا بعدا جديدا معرفيا كنا نلمسه في بعض الروايات ولا نمعن النظر في دلالته نأمل أن تتاح لنا فرصة قراءته كاملا ودمت باحثا جادا عميق المعرفة .

    قراءته كاملا


  • شكرا جزيلا صديقي د. اصيل على اهتمامك وعلى تقديمك كتابنا . وشكرا لهيئة المجلة وقرائها المميزين . يطلب الكتاب من دار نشر زينب بتونس . وارجو أن يكون تضمن ما يفيد في قراءة مثل هذه التفاصيل والجزئيات في الرواية العربية ، خاصة ما تعلق بالحواس التي ما تزال مهملة رغم حضورها الاساسي في تجربة الحياة وقيمتها السردية وأبعادها الفلسفية والثقافية والسياسية ..


  • الأستاذة المحترمة هدى أبو غنيمة كلّ الشكر والتقدير على تعليقك على المقالة، بالفعل فإنّ هذا المبحث طريف كما تفضّلت وهو يفتح دلالات كثيرة تغذّي الإبداع وتسهم في فهمه والوعي بأبعاده الذاتيّة الدفينة وبالجانب اللاّوعي وحضوره في الكتابة. أرجو أن تسهم المعارض في وصول الكتاب للقرّاء، وقد نبّهت المؤلّف الدكتور رضا الأبيض إلى هذا الجانب. وشكرا جزيلا.


  • كتاب مهمّ جدّا صديقي دكتور رضا الأبيض ولا بدّ من وصوله للقرّاء الذين يطلبونه ، هنيئا لمكتبتنا العربيّة بهاته الإضافة المعرفيّة الكبيرة والنوعيّة.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 22: حرية المطالبة بمصادرة الحرية

زمن العزلة القادمة

الماء أمان: عرض كتاب

ومضات البرق + منبر الريش

تعويض