عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم قاسم يوسف - لبنان

عطر الفردوس من الشّام


عند بداية موسم التّوت في النصف الأول من تموز عام 1935، ما من أحد من الشهود القلّة الأحياء يذكر اليوم بالتحديد. في ذلك الحين مات إمام البلدة الشيخ "السّبليني"؛ الصوت الخطابيّ الصافي واللثغة النّجفيّة المميّزة، ذات الحروف الدّافقة المغرّدة، التي تتحول فيها الجيم شيْنا وتبقى القاف على أصالتها. رحل صاحب الجبّة البيضاء والكفّين الضخمتين والخطّ النّسْخيّ الأنيق، يكتب به وثائق البيع والشراء، ووصايا الناس من المتّقين المؤمنين باستخدام الريشة والدواة.

قدم من النّجف مباشرة، بتنسيق مسبق وتمويل من مغترب تقيّ وميسور، فتولى إمامة أول مسجد أقيم في ساحة القرية، قريبا من حاووز المياه ودسكرة من شجر الحور. تزوّج امرأة واحدة تصغره بخمسة عشر عاما، واستنزف منها ذرية تتألف من عشرات الأولاد والأحفاد. توفاه الله فجأة في ساعات الصباح الأولى عن عمر لم يبلغ المئة، لكنه تجاوز التسعين عاما بسنوات قليلة.

مات دونما يهزمه مرض أو يستسلم لفراش. كانت عيناه سليمتين تريان الحصى الصغيرة والزؤان، وهو ينقّي عدس الطبخ لكنّته أو أمّ عياله أو يدخل الخيط في خرم الإبرة لحفيدته، تصلح بها ثوبا أو تعيد زرا إلى عروته. كان رجلا مهيبا ممتلئ الصّحة عالي الهامة سليم الجسم والروح، يشبه في شكله "زوربا اليوناني" إلى حدّ بعيد. توفاه الله بلا علّة أو مرض ظاهر. مات وفمه مليء بالأسنان السليمة البيضاء وشعر لحيته فيه الكثير من السواد.

أمّ الحضور في صلاة المغرب والعشاء، ثم عاد فاغتسل بجرّتين من الماء البارد، وتناول طعامه لبنا وخبزا وتمرا ثم صلّى مرة أخرى للمغفرة والدعاء ولجأ إلى الفراش. حينما تفقدتْه إحدى حفيداته في ضحى اليوم التالي، وقد تأخّر على غير عادته في النهوض من النوم، كانت الشمس قد أشرقتْ وانقضى وقت الصلاة ولم يترك فراشه بعد. وجدته نائما على الجانب الأيسر كما ينام الأطفال. نادته ولم يجبْ. هزّته برفق ثم هزّته بشدة فلم يتحرك. صرخت الفتاة؛ ورحل الرجل بلا معاناة ولا أوجاع. أغمض عينيه ومضى إلى ربّه في سلام. بهذه البساطة وهذا الرضا مات السّبلينيّ الإمام.

لم تكن زوجة المتوفى وابنه قد عادا من السفر، بدواعي التسوّق واختيار جهاز العروس إحدى حفيدات الإمام، فاجتمع أعيان البلدة وكبارها على عجل، واتخذوا قرارا بتأجيل الدفن إلى اليوم التالي، اليوم المتوقع لعودة الابن الغائب وحرم الإمام؛ بالإضافة إلى العروسين المستفيديْن من الرحلة إلى الشام. لكن حرارة الطقس في شهر تموز عرقلت تأجيل الدفن وأجهضت تنفيذ القرار، وانقسم الحضور بين مؤيد ومعارض للدفن في ذات النهار.

موسى راشد لم يكن من الكبار أو الأعيان، أو ممن شاركوا في اتخاذ القرار. كان يافعا لم يبلغ العشرين تضجّ في عروقه دماء الشباب. كان يجلس في الصف الخلفي الأخير، لكنه رأى وسمع ما حدث فصمّم على أمر.

ترك المسجد على الفور وبادر إلى بغلته فجرّها وراءه، وقطع المسافة القصيرة عبر الأزقّة من بيت أسرته في الجوار، حتى حظيرة المواشي لآل "الصّليبي" آخر العمران في البلدة عند الحدود مع الغرب. ثم اتجه بالبغلة صعودا عبر مسالك عسيرة وطرق عذراء لم تطأها من قبل أقدام إنسان. يمّم وجهه صوب قمة الجبل في أعالي صنين قريبا من الحدود مع السماء.

أنجز رحلته إلى القمة بصعوبة بالغة عبر أشجار الملّول والسنديان، ووقع حوافر الدّابة على الحصى والحجارة تخترق السكون. تتناغم مع أزواج من طير الحجل تنفر إلى جواره من حين إلى حين، يتردد صدى أجنحتها مصفقة في الفضاء.

رأى أيضا بعض الأرانب الرمادية تنطلق صعودا؛ تساعدها طبيعة قوائمها على الهروب دائما إلى الأعلى، ووجود الأرانب يؤشّر بالضرورة إلى وجود الثعالب. لكنّه لم ير واحدا من هذه الحيوانات الذكية، التي تخشى ممّنْ يسلخ جلودها ولا يأكل لحمها، فتنأى بنفسها بعيدا عن عيون الناس.

أبصر كذلك كثيرا من السحالي تنبطح في أعلى الصخور، تومئ برؤوسها بآليّة ورتابة إلى أعلى وأسفل كمن يقول في ذات الوقت لا، ونعم. أو كأنها ترحّب به وتقول له أهلا وسهلا، وعانى طوال الطريق من صخور شعثة مسنّنة مزّقت شرواله ونالت من حذائه، وأشواك حادة لسعته وآلمتْ ساقيه.

كادتْ صعوبة الطريق وانحدارها الشديد تثنيه بالتراجع عن مهمته، لكنه أكمل طريقه باندفاع أهل الريف ونخوتهم في الملمات. أبى الفشل في مهمته والعيب على نفسه بالخيبة والرجوع، فتحايل في الالتفاف على العوائق والصخور في الطريق إلى القمة، وقطع المسافة في ثلاث ساعات وهو يجر بغلته وراءه.

حينما أدرك رأس الجبل بجهود جبارة تكاد تشبه ما يفعله أبطال الأساطير، روى عطشه فأكل ثلجا نظيفا لم تعبثْ به يد ولم تره عين، ثلجا بكرا عصيا على الذوبان في ظلّ جرف صخريّ عظيم، وحرارة شمس خجولة تصل إلى أدنى الدرجات على ذلك العلو المخيف، ثم ملأ كيْسيّ "ميلو أحمر": كيسين كبيرين، حمّلهما على ظهر الدابة من الجانبين وعاد بهما إلى القرية بهمّة عالية ورأس مرفوع، فوصل إلى المسجد حيثما يجتمع الناس بعد أقل من ساعتين في طريق النزول، دون أن يخسر من الثلج إلاّ القليل.

هكذا فاجأ الجميع، فهللوا له وأكبروا فيه الهمّة والشجاعة والإقدام، وتمّ حفظ جثمان الإمام حتى موعد الدفن في اليوم التالي، تحت سقف من الخشب والطين وثلج من قمة الجبل في صنين. وهكذا صار موسى راشد مضربا للمثل، يستحضرون ذكره وشجاعته عند الملمّات.

لكن بعض المؤمنين ممن شاركوا في العزاء، واستمطروا الرحمة على روح الإمام، واستذكروا الكثير من مآثر الفقيد، ومن الآيات البيّنات التي تتناول العبرة والمغفرة والموت؛ أنكروا فضل موسى راشد وبخسوه حقّه. فقالوا: لم يكن جثمان الإمام بحاجة إلى الثلج لحفظه من التلف السريع في فصل الصيف، وأن موسى أرهق نفسه بالمخاطرة والصعود إلى الجبل بلا جدوى، ففي موعد الدفن في اليوم التالي، كانت تفوح من جسد الوليّ الطاهر رائحة زكية كزهر البيلسان، أثر من شذا الجنّة كان عالقا على ثياب الملائكة ممن تولوا حراسة الجثمان طيلة الليل حتى الصباح.

من الناس من حمله إيمانه إلى أبعد من الرائحة الزّكيّة التي تنتشر في المكان، فشهد أنه رأى بعينيه طيف الملائكة تغادر عند الفجر من "باب السّر" (1) إلى فناء الحواكير، ومنهم الشكّاك المرتاب من كان لا يؤمن أبدا فيقول: هذا افتراء على الحقيقة وضلال؛ هو "عطر الفردوس" مما أحضروه مع جهاز العروسين من حيّ السيدة زينب في دمشق الشام. رشّوه على الميت وأغرقوا به جثمان الإمام.

= = = =

(1) "باب السر": باب ضيق يتفرع من دار مكشوفة إلى الخلاء.

D 30 أيار (مايو) 2014     A إبراهيم يوسف     C 8 تعليقات

8 مشاركة منتدى

  • استاذابراهيم يوسف من لبنان

    كم جميل حين تشبك خيوط الحاضر بخيوط الماضي العبقة ! فما اشبه الماضي بالحاضر.
    وكم هي راقية لغتك التي تختزل جمل " لقد إستنزف منها عشرات الاولاد والاحفاد" !
    وكم رائع طرحك لأفكارك ضمن مجموعة افكار وتعطي قارئك الحرية ليختار، لكنني على يقين انك عارف مالذي سيختاره، ألست عود الند فائق الاحساس؟
    وكم انت متناغم مع الطبيعة فانك تنصف حتى السحالي المقززة حين تصف هزها لراسها يمينا وشمالا، ترحيبا بالبطل .
    سلمت اناملك سيدي
    هدى الكناني من العراق


  • أستاذ إبراهيم تحية طيبة كل التقدير لما تكتب ,وقد رأيت في الشيخ تجسيدا للهوية الحضارية لهذه البلاد العريقة التي تمزقها الفتن .دمت بخير


  • الأستاذ إبراهيم

    مهما اختلفت التفسيرات حول الرائحة الزكية، فإن تلك التفسيرات معرضة للتصديق والتكذيب.

    وتبقى حقيقة واحدة لا ريب فيها، وهي أن (موسى راشد) كان فتى شهما وشجاعا ومثالا للنخوة والمبادرة.

    هذا النموذج من الشباب الذي نفتقده الآن، نفتقد من (يدق على صدره) ولو أمام الناس ليقول: أنا لها، بل نفتقد من يقوم حتى بالواجب أو جزء من الواجب.

    نص جميل
    شكرا لك


  • هدى الكناني

    من أقوال غابريال غارسيا ماركيز، طيب الله ثراه
    "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا
    وإنما هي ما يتذكره
    وكيف يتذكره ليرويه"

    لم أعاصر ولم أعش هذه الفترة من حياة الناس في الريف
    لكن أختي.. وأولادها بعمري وأكبر
    نقلتها إلي بكثير من الأمانة والتفصيل
    أختي.. كانت لنا أماً كسائر كبرى الأخوات

    قبل موتها بيوم واحد وهي في الثمانين..؟
    كانت تتذكر عن طفولتها أدق التفاصيل
    وأنا أعجز من أن أتذكر ما حدث معي مساء الأمس
    أو أنقل تلك الأخبار بذات الأمانة والروح


  • هدى أبو غنيمة

    بل التقدير والتجرد والصدق والاحترام
    من مزاياك.. أنتِ أستاذة نبيهة وسيدة محبوبة
    تٌحْسِنُ تدوير الزوايا فلا تؤذي ولا تجرح
    شكرا على لطفك
    ومرورك الكريم


  • الأستاذ إبراهيم يوسف
    لا يستطيع القاريءإلا أن يسعد ويستمتع بهذا الأسلوب الشائق الرائق الذي يعتمد على لغة نقية صقيلة مجلوة دون تطرف ،وعباراتها أنيقة رشيقة تتماهى مع الحكاية التي تحكيها ،تريد من القاريء أن يبتسم ويتذكر ويستدعي تراثه ومروياته المعطرة يالتاريخ ويالتراث ..وبعطر الفردوس من حي السيدة زينب في دمشق
    مع خالص المودة والتقدير


  • أ/ ليلى – السيدة الكريمة

    خانتني ذاكرتي ولم أنجح في استحضار حوار رائع، من مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم، يتحدث فيها عن "مشلينا" أحد الثلاثة وكلبهم. عندما استيقظ من رقدته الطويلة، في حاضر يحن إلى الماضي مع "بريسكا" محبوبته، التي لم يميِّزُ بينها وبين جدتها لثلاثة أجيال، بأسلوب يحرك كوامن النفوس من الأعماق.. أو؛ هذا ما تراءى لي حين قرأتها وأنا في سن الشباب. والمسرحية أهديتها لصديق، يستحق الدعاء والعمر الطويل.

    كل الشكر لك سيدتي على ثنائك
    ومرورك المُعَطر بأريج الأرض
    وقداسة أهل الكهف والسيدة زينب
    وجميع الأولياء الصالحين.


  • أشواق مليباري

    البحث في الغيبيات مسألة متعبة
    لا تجدي أو توصل إلى مطرح
    ربما كانت الضمانة الأنفع
    فيما نرى ونسمع

    والشهامة ضَمَرَتْ كثيرا يا صديقتي
    عندما امتلأت بلدة "موسى راشد" بالمطاعم والتعاونيات
    ومختلف أنواع الخدمات.. "والوتس أپ" أيضاً
    الذي لم أدرِ ما يكون لولا إحدى الصديقات
    التي لم تُعِبْ عليَّ جهلي
    فتكرمت علي بالشرح المستفيض

    ما من عجيبة تعيدنا إلى الماضي
    سوى الأحلام
    لكن..
    يبقى الأمل مرهوناً بالتأقلم
    مع الضروري من حاجات هذا الزمن
    بما له وما عليه.


في العدد نفسه

كلمة العدد 96: "عود الند" تبدأ سنتها التاسعة

تراسل المدركات في قصّة "أحلام موؤودة" للكاتبة الجزائرية زهرة يبرم

أثقل من رضوى

إحسان عبد القدوس: محاولة للبحث عن كيمياء النجاح

النقد الثقافي وأنساق الغيرية