عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

لا تبك يا سندريلا


فنار عبد الغنيالصغيرة مذعورة، هوت على الأرض، وبدأ سيل الدموع يتدفق منها دون توقف. قلبها الصغير تتلاحق نبضاته، يكاد يثب من بين ضلوعها ويسقطها صريعة.

تقترب يده السمراء النحيفة منها وتمتد إليها بكل رقة، يربت على كتفها، لا يدري كيف يساعد هذه الصغيرة التي سيغشى عليها من البكاء. لقد ظهرت هذه الصغيرة في طريقه فجأة، كان يحمل أكياس الخضار والفاكهة بيده اليمنى وعكازه وجريدته باليد اليسرى.

كان يمشي رويدا وبشكل حذر في ذلك الوقت المبكر من النهار، يحافظ على خطواته المتناسقة وتوازنه قدر استطاعته، بينما الصغيرة ذات الجدائل الطويلة، الثقيلة، الذهبية، كانت تركض جذلى ثم تجمدت في مكانها وتبدلت ملامحها واضطربت وانتابتها حالة هلع، اغتالت فرحتها ومزقتها إربا إربا.

اضطرب الأستاذ أحمد بدوره، حاول أن يخفف من روع الصغيرة. كانت بمثل سن طفلته الوحيدة، آية، لكن الصغيرة ازدادت حالتها سوءا.

لم تكف عن البكاء، بقيت تشهق وتذرف الدموع الغزيرة الدافئة. رغبت بالصراخ لكن صوتها خانها واختفى بلا رجعة. بدأ صوت أنينها يخنقها، إنها تزداد شحوبا وتكاد يغمى عليها من شدة الرعب.

لقد كانت سعيدة منذ البارحة، عندما ذهبت مع أمها إلى بيت الخيّاطة الذي يقع في منتصف سوق الخضار في المخيم لاستلام ثوبها الجديد. تتذكر كيف وضعت الخيّاطة، كاملة، يدها على يد أمها وضغطت عليها قائلة:

"أنهيت فستان الصغيرة بسرعة قبل أن تقع عليه أعين الزائرات والزبائن. استحلفك بالله، لا تخبري أحدا أنني أنا من صنع هذا الثوب لهذه الصغيرة".

"لماذا يا كاملة تريدين مني إنكار عملك الرائع؟"

"لأنني تعبت وعانيت وأنا أجهز ثوب سندريلا. يا له من تصميم صعب!"

كانت الخياطة كاملة صديقة أمها منذ الطفولة، وهي خياطة ماهرة وذكية، لا يوجد خياطة أخرى في المخيم تنافسها في ذوقها ومهارتها. وهي امرأة بسيطة، تعمل لتعيل أفراد أسرتها. ولأنها صديقة أم آية، قبلت أن تخيط لها ثوب سندريلا الذي أعجبت به آية وكانت تضع صورته تحت وسادتها قبل النوم وتحلم بأنها ترتديه.

كانت الصغيرة تمضي الوقت خلال النهار وهي تحدق بذاك الثوب الذي أخذ بلبها، الأمر الذي دفع بالأم لتشتري قماشا يشبه قماش الفستان الذي ترتديه سندريلا، ثم أمسكت بيد صغيرتها التي أمسكت بدورها بالقصة وذهبتا معا إلى بيت الخياطة التي أنهت بدورها الفستان الجميل خلال يومين.

انتظرت الصغيرة بزوغ الصباح لكي ترتدي ثوبها الجميل الجديد، وتخرج من البيت رغم تحذيرات أمها لها. لكن عينيها اصطدمتا برؤية هذا الرجل الغريب الهزيل، الرجل كان بساق واحدة، وعكاز خشبي طويل يستند عليه وهو يمشي ببطء، حاملا لأسرته زاد يومها من القوت.

كان الأستاذ أحمد يعاون زوجته بجلب أغراض البيت رغم بعد بيتهما عن السوق، وينطلق مبكرا قبل أن يزدحم السوق وتعج الطرق بالناس وتعيقه عن الحركة، وقبل أن يأتيه الصبية الذين يدرسون عنده دروسا خاصة.

كان الأستاذ أحمد ناظرا في إحدى المدارس الابتدائية، لكنه تقاعد عقب حادثة قنص، كان يحاول فيها أن ينقذ فيها أحد الأطفال، فأصابته شظية أودت بساقه وأفقدته عمله.

فستان سندريلافرح الأستاذ أحمد لرؤية الصغيرة فرحة بثوب جديد في مثل هذا اليوم العادي الذي لم يكن يوم عيد، بل يوم فرح خاص على ما يبدو بهذه الصغيرة المزهوة بثوبها الجميل والتي تحلق عاليا وبخفة. لا شك أنها غالية وعزيزة على أهلها.

لكن رؤيتها له بددت فرحتها وأقعدتها على الأرض واجتاحتها نوبة من البكاء والرعب. كان جسدها الصغير الهزيل الشاحب كحبة السفرجل الناضجة ينتفض هلعا وهو يحاول تهدئتها:

"لا تبك يا عمّو. لا تبك يا قمّورتي".

لكن القمّورة ازدادت بكاء ووضعت يديها فوق وجهها، ثم سمعت صوت عكازه الخشبي وهو يتحرك ببطء حتى اختفى.

رفعت يديها عن وجهها، كان الزاروب فارغا، والرجل ذو الساق الواحدة قد انسحب بعينين دامعتين ليترك للصغيرة فرصة لتتنفس وتعود لبيتها.

عندما عادت الصغيرة للبيت، احتضنتها أمها ومسحت لها دموعها:

"ماذا حدث لك يا صغيرتي؟ لماذا تلوث فستانك الجديد؟ هل دفعك الأولاد على الأرض؟ ألم أنبهك؟ ألم أحذرك ألا تخرجي إلى الحارة بفستانك الجديد؟ ألم أخبرك بأن أولاد الحارة سوف يصابون بحرقة وحسرة عندما يرونك؟ لن ترتدي هذا الفستان قبل أن يحل العيد، ويشتري الأولاد ملابس جديدة".

صمتت الصغيرة ولم تخبر أمها شيئا. كبرت الصغيرة وظلت تحلم بذلك الرجل ذي الساق الواحدة وهو يقول لها: "لا تبك يا عمّو، أنا ما بخوّف".

كانت لا زالت تشعر بدموعه الدافئة وهي تنحدر ببطء على شعرها الأشقر الطويل ووجنتيها كلما نهضت من النوم.

JPEG - 32.8 كيليبايت
فستان سندريلا
D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2018     A فنار عبد الغني     C 1 تعليقات