محمد أهواري - المغرب
تـــيـــــزران (*)
تيزران. سلطان الأرض، عاشق السماء. عند كل بياض يصحو من سكراته القاهرة لكل حلم، وعند كل بياض تسكن رأسه الحكمة وهو يشتعل ثلجا. يفتر السيل، يستقر الجريان، وتركن السواقي المتدفقة، تتجمد، تخرس، وتنحصر في صورة واحدة.
فاتنة الروم.
فاتنة الروم كانت هنا.
أين هي فاتنة الروم؟
أشياء كثيرة، عابرة، يفضي بها نهر الزمن إلى أشلاء ذاكرة. جثث عشق غابر، ونقوش باهتة تحتفظ بحكاية حب مستحيل وحروب طاحنة. وفاتنة الروم. امرأة من شجرة الحسن، اختارت قلب تيزران رمسا لها، ومعبدا تقصده أمواج من السحب العاصية. ترقد فاتنة الروم هالكة في قلب تيزران، وحلمها يتوهج عند أفق الذكرى.
أعوام مضت وتيزران لم يرحل. عاشق مصاب بالشلل، وبفتنة الفاتنة الغابرة. في العمق تنام فاتنة الروم، هادئة، ساكنة، وهي تستريح من رحلة الزمن في المكان، وسفر الروح في القلوب، بين الجداول والصخور والأجساد. وبين أشجار الفلين. فاتنة الروم. إنها هنا، لم ترحل، كما الجبل، تنزع عنها جمالها فتصوغه تاجا من الذهب، تطعمه بعيونها وشفتيها ودموعها، وتضعه على رأس تيزران. فاتنة الروم. لم ترحل، إنها هنا، قابعة، دفينة تستريح من رقصة الخلاص. لم ترحل الفاتنة، حسناء الروم، إنها هنا، جالسة بين الصخور والزهور، تغني، وفي صوتها الرخيم فتنة لكل نبض حالم، وتيزران أول الحالمين. حالم مسن، يبلغ عمره ألف ابتسامة وابتسامة، وارتفاعه ملايين الأحزان.
أعوام مضت وتيزران لم يرحل. لا يفارقني. يدخل بيتي كل ليلة، يفسد عليّ خلوتي. يخترقني، يكشفني، يكونني. إنه هنا، لم يرحل، وكل الروم رحلت. يسكن أحشائي كل ليلة، في بحث عن فاتنة الروم. هذه الفاتنة فتنة. لا أريدها. إنها الموت القادم في موكب العشق وبذخ القلوب والوجدان. جبل مرتاب. لم يعد يفارقني، أبدا. يتسلل إلى غرفتي كل ليلة، يوقظني، يزعجني، فيجهض الحلم الدافئ في أحشائي الغامرة. يحطم حلمي إلى شتات سؤال: أين هي فاتنة الروم؟
أ ي ن هـ ي ف ا ت ن ة ا ل ر و م؟
فاتنة الروم هنا. لم ترحل أبدا. لم تفارق نبع العيون الدامعة، الحالمة برؤية موكب الجلاء والرحيل. رحيل تيزران عن تيزران.
فاتنة الروم هنا. تحي على صدح الذكرى. تكسر عند كل غسق صمت طانطالوس.
رحلت الروم، وفاتنتهم باتت هنا، قابعة في أغوار تيزران. لا أحد يعلم مكانها. اسمها أو نوع عطرها العبق كل مساء. من يبحث عنها ينفخ في رماد. يفارق سيزيف صخرة شقائه وشجوه. فيضيع في متاهة بحث عابث عن فاتنة الروم.
يقولون ماتت. قُتلت. قتلها إله النجوم. قتل فيها إشراق الفتنة الوهاج، وضياء الحسن الساطع عند كل ليل بهيم. قتلها فانطفأت.
يقولون ماتت. وعلق هذبها الرخيم في شجرة خالدة. ماتت الفاتنة وصورة وجهها الناعم ظلت جلية كسطح البدر حسنا وفتنة. كصفحة البحر زرقة، وكوجه المرايا الصقيلة صفاء وجلاء. ظلت حسناء الروم هنا. تنبض بالعشق والحياة، وهي دفينة في أغوار تيزران.
يقولون اختفت في معبد قديم. قلب الجبل.
أعوام مضت وتيزران لم يرحل. تتعمق بداخلي رغبة جامحة، متأججة، في الصعود إلى القمة. رأس تيزران. سقف المكان الشارد في أزمنة مفقودة. تقتلني الرغبة المحرقة في ملامسة سقف تيزران الفاتن. وبحجم الجبل يكبر قلقي وخوفي من أن تكون الوطأة ثقيلة. بحجم الجبل الشامخ يكبر خوفي من الاقتراب من تيزران.
مرزكان**. إله الرحيل. قطب الصمت، يمنعني، يشدني. يشلني، يبقيني في السفح الفسيح، أتجرع، بين الحجر، نخب حسرتي على سفر لا يبدأ. ولا ينتهي. عبر طريق يبدأ حيث ينتهي. في ارتحال حلزوني مستعاد.
مرزكان. إله الرحيل. علمني أن في سكينة المساء استشراف لطيف على الرؤيا، واحتفال هادئ بموسم "الحضرة الهبائية".
مرزكان يكون ولا يكون. يغيب، يفنى ويضيع في غابة الأبواب. ريح في ريح. يضيع مرزكان في تيزران. وفي بحث دائم عن فاتنة الروم.
تيزران. هذا الجبل الساكن بين السحب روعة. من شموخه سوف أشرب كأس رحيلي. ولا الظمأ ينطفئ. منه تعلمت كيف أقابل كل روعة بوجه الاحترام. تيزران. فارس يركب الدنيا وهو يشد فاتنة الروم بين ذراعيه. يقف الجبل في شموخ، يطوف العالم، دون أن يرحل. لن أسمح بأن يكون تيزران، ولا حسناء الروم، يوما تحت قدمي.
= = =
* تيزران = جبل بإقليم شفشاون، شمال المغرب.
** مرزكان = اسم المنطقة التي تشكل سفح تيزران.