رانيا الغامدي - السعودية
خفقة منبثقة نحو أرصفة الجفاف
ذات المأساة، وجمع الإجابات التي تخجل الأسئلة: أين أسرتك؟ يعفيها الفراغ من حمى الإجابة. كيف أتيت إلى هنا؟ لا تعلم ولكن قد يكون بإحدى الطرق الشائعة إما على إحدى عتبات بيوت الله أو بجانب برميل نفايات. هل تتناثر ذرات ملامحهم في أحلامك؟ وتضيق بها زوايا دور الأيتام التي احتضنت ضعفها وسنينها العجاف. يرتفع صوت نحيبها وتتفصد حبات العرق من جبينها وتزورها مشاهد عمرها سراعاً، ويتراءى لها طيفان كاذبان. تمتد يدها في محاوله للإمساك بهما فتصرخ فيهما بصوت متهدج: هل تسمعونني؟
* * *
نسج مشاعره من فرح. ألبسها حبه نبضة تلو نبضة. أحبها لأجل الحب وقبلت به لأجل الحياة. استيقظ في اليوم التالي على رائحة خيانتها وطبول فرحتها. مات في حب حي وعاشت هي على أنقاض ميت. التجأ إلى حجرته التي تعج بذكراها. أفرغ خزانته على أرض الحجرة وتبعثر حول أشيائها ليصرخ بها: هل تسمعونني؟
* * *
تحت الأشعة الذهبية وما تخلفه من حرارة يتنقل بجسده الصغير بين إشارات المرور ليحصل من أصحاب المركبات على بعض الوريقات النقدية مقابل زجاجات المياه المعدنية. عندما يضاء الضوء الأخضر يخفض رأسه لينظر إلى حذاءه المهترئ الذي يكشف قدمه أكثر مما يسترها. يتجول بين أولئك التلاميذ الذين يحملون حقائبهم عائدين إلى منازلهم بعد يوم دراسي متمنيا لو أنه استطاع الالتحاق بإحدى المدارس، ولكن والدته التي تعاني من مشاكل صحية في قلبها وأخوته الستة من الذي سيعولهم؟ في غمرة شروده، توقفت بجانبه سيارة فارهة وأشار له سائقها بالاقتراب. مسح على رأسه ودس في يده ورقتين نقديتين بقيمة مئتي ريال. ابتسم الطفل وشكره وأخذ يركض متجهاً نحو منزله ليبشر والدته برزق اليوم. من فرط سعادته لم يتنبه لبوق تلك السيارة التي انتهى بها الأمر بأن ارتطمت بجسده النحيل وألقته صريعاً. ومن بين أنفاسه الأخيرة همس لصورهم التي زارته حينها: أحبكم، هل تسمعونني؟
* * *
سمعت صوت جلجلة مفاتيحه الساعة الحادية عشرة مساءً. ما الذي أتى به مبكراً؟ أخذ ينادي باسمها بصوت عال. تبيّنت من ذبذبات صوته غير المتزنة أنه قد تناول جرعة من المخدر. لبت نداءه بارتباك شديد وبخوفها المعتاد. ألقى عليها أول اتهاماته بسؤاله عن أبنائها كما يدعوهم. إجابته بأنهم خلدوا للنوم. أخذ يستنكر ويدّعي بأنها فعلت ذلك حتى لا يعكروا صفاء جوها. انهال عليها بالشتائم وهو يصرخ في وجهها: "من صاحب هذا العطر الرجالي الذي ينتثر في أرجاء المنزل؟" أدخل يده في خصلات شعرها، وأخذ يمرغ رأسها في الأرض، ويطأ عنقها بقدمه، ويزداد صوت ألمها. تتفتح الأبواب ويصطف أبناءها أمام عينها، فما كانت حيلتهم ألا سيلاً من الدموع ومزيداً من دوائر العقد النفسية. يمتلئ فمها بالدماء. تحاول مسحها فتفيض بها خطوط يدها. ترفعها لهم، ولكن في هذه المرة تهمس لهم بأمومتها: لا تسمعوني.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ