عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أوس حسن - العراق

أجراس العتمة


أوس حسن=1=

صمت يلف غرفة الاستقبال نصف المضاءة، شعور غامض بالسكون والقلق تبعثه هذه الأشياء التي يسمع همسها وأنينها بين الحين والآخر. اللوحات الفنية المعلقة على الحائط، ضجيج عقارب الساعة، الستائر الشاحبة، والتحفيات القديمة.

وحدها أشعة القمر تنعكس من خلال الزجاج وتضيء وجهه الكئيب وهو يدخن سيجارة تلو الأخرى، فينعكس ظله على الجدار كأي مشهد مسرحي يعتريه الذهول والترقب في قاعة مظلمة.

ترى لماذا يخاف الإنسان من هذه الوحدة؟ لماذا يخاف من الولوج العميق إلى ذاته؟ ألأنها تذكره بخطاياه وانكساراته المتكررة؟ أهو الخوف أم الوهم؟ أم الضبابية التي تحيط بنا في علاقتنا مع الأشياء والواقع؟

لم يُعرف عن خالد سوى شخصيته الخجولة المرتبكة، وعزلته ذات الأطوار الغريبة، كما عرف بدماثة خلقه بين زملائه في العمل، والتزامه الدقيق بالمواعيد.

ورغم أنه يعمل موظفا حكوميا في مديرية الثقافة، إلا أن مستواه الثقافي كان متدنيا، ولم يقرأ في حياته كتابا أو مجلة، ما عدا الصحف اليومية التي كانت تقع بين يديه في العمل، فتستهويه لعبة الكلمات المتقاطعة وقراءة أبراج الحظ أو الصفحات الأخيرة التي تهتم بأخبار وحوادث المشاهير من الفنانين.

كان لخالد جسم نحيل جدا وهيئة بائسة: عيناه صغيرتان وأنفه طويل مقوس، وكتفاه ضامرين محنيـين، كما أن تقاطيع وجهه القاسية كانت توحي بجديته وصرامته وميله الشديد للانطواء ونبذ الهزل والضحك، فهو من هؤلاء الأشخاص الذين آمنوا بغربتهم وانفصالهم عن الآخرين، فلم يعره أحد اهتماما ولم يسلمه أحد زمام الأمور والمسؤوليات، ولم يثن عليه أحد طيلة حياته، فكانت مكانته الاجتماعية المسحوقة هي ما يحرك بواعثه الخفية يوما بعد يوم، فاعتاد على صورته الاجتماعية التي رضخت للقمع والكبت، والسقوط في مشاريع الآخرين.

ومما زاده شقاء وعذابا هو مخيلته الفقيرة، وفقدانه لبعض مهارات التواصل وخصوصا تلك التي يطغى عليها البعد الإنساني؛ لذا لم يتزوج عن طريق علاقة غرامية أو مصارحته لفتاة أحبها، بل تزوج نتيجة إلحاح أمه عليه التي وجدت له تلك الفتاة مصادفة عن طريق صديقتها التي كانت تعمل في أحد المحلات النسائية في وسط البلد.

لبنى الفتاة القروية ذات القد الممشوق والوجه الطفولي البريء، والعينين اللتين تتوهجان بقبس إلهي عندما تنثر صدى ضجكتها في أرجاء البيت وزواياه. لبنى الفتاة القنوعة والزاهدة التي ترى السعادة في أبسط الأشياء، وافقت أن تكون زوجة لخالد، وأن تمنح محبة جديدة لهذا الكون.

رغم الألم والمعاناة والمشاعر المتصارعة في أعماق خالد، المشاعر التي اختفت نوعا ما بعد زواجه من لبنى، لكنها لم تمت، بل ظلت مدفونة تحت ركام عميق في وعيه، والتي ستبدأ بنبش هذا الركام؛ كي تطفو على السطح ذات يوم أو ذات حلم.

ها قد مضى على زواجه أكثر من خمس سنوات وهو الآن في العقد الرابع من العمر، لكن حياته بعد الزواج لم تتغير، بل ظلت كما هي رغم وجود شريكة له في البيت والعواطف؛ إلا أنه ظل مقيدا بعادات حياته التي دأب عليها منذ الطفولة إلى الآن وهي القبول بالروتين وتفاهة الأشياء اليومية، والمزاج المتقلب والنوم باكرا جدا.

حياته التي كانت خالية من الأحداث الحيوية، انقلبت في هذا اليوم تماما وصار هناك معنى لوجوده الذي يمنحه هذا الشعور المختلط بين القلق والنشوة والشعور بالانتصار أحيانا والنكوص أحيانا أخرى.

مضت أربع وعشرون ساعة على اختفاء زوجته لبنى، لكنه لم يشأ أن يبلغ الشرطة وفضل أن يمضي يوم آخر يجرب فيه هذا الشعور الغامض، ويتأكد تماما من اختفاء زوجته واستحالة عودتها إلى المنزل.

نهض متثاقلا من مقعده الذي اصبح مثل سكاكين ملتهبة تخترق عظامه، كان يشعر بعطش شديد وجفاف في حلقه وبلعومه، توجه إلى المطبخ وملأ الكأس بالماء بيدين مرتجفتين وقدمين بالكاد تحملانه، وما أن انتهى من شرب الماء حتى سقط الكأس من بين يديه وتناثر زجاجه على أرضية المطبخ.

حملق طويلا بالكأس المكسورة المتناثرة بعينين بليدتين خاليتين من المشاعر، عينين تشوبهما القسوة والسذاجة في نفس الوقت، مشى فوق الزجاج المحطم غير آبه بالألم وبالدماء التي سالت من قدميه، توجه إلى غرفة النوم ومن ثم غرفة الاستقبال، دخل إلى الحمام وعاد مرة أخرى إلى غرفة النوم، وحملق طويلا في صورة زفافهما.

كانت لبنى لأول مرة في حياته تبدو له كملاك طاهر يسحبه نحو الأبدية، ويفتح له أبواب الفردوس، لبنى بابتسامتها واستدارة وجهها، وعينيها الناعستين، كانت تشبه طفلا بريئا من رغبات العالم وشروره، إنها الزهرة التي نبتت من بين شقوق صخرة، الزهرة التي ظلت تمنح للنهر عطرها رغم قسوة النهر الذي حاول أن يبتلعها دائما بتياره الجارف.

من شرفة شقته الكائنة في الطابق الرابع وعلى امتداد مقفر للبصر تعالى نباح الكلاب في وحشة المدى، وخفتت إنارة الشوارع رويدا رويدا. في الخارج هبت ريح قوية انحنت لها أغصان الشجر، وابتهلت لها الدروب والأزقة المنسية.

شيء ما خارج الزمن يطرق نوافذ الليل، ويوقظ في خالد حقيقته، لأول مرة في حياته شعر أنه كان يحب لبنى ويتبع طيفها المحلق في الأعالي، ومثل تائه ثمل دار في غرفة الاستقبال عدة دورات، ولأول مرة في حياته تقافزت الدموع الساخنة من عينيه، وخرَّ على الأرض منهكا ومستسلما لنوم عميق.

=2=

كانت صبيحة باردة من صباحات شباط، تسللت أشعة الشمس الخفيفة من نافذة الغرفة وداعبت جفني خالد، استيقظ خالد والتعب ما زال باديا على جسده وتقاطيع وجهه من ليلة أمس، غسل وجهه ونظف أسنانه، ورتب محتويات غرفة الاستقبال المبعثرة، احتسى على عجل كوبا من القهوة دون أن يأكل شيئا، ارتدى ثيابه وخرج من شقته مسرعا بعد أن أغلقها بالمفتاح متوجها إلى دائرة الأمن.

اكتظت دائرة الأمن بالمراجعين والموقوفين ومن لهم قضايا سابقة.

دخل خالد بمعطفه البني وقبعته التي تشبه إلى حد ما قبعة شاعر أو فنان، كانت ذقنه الطويلة ومشيته غير المتوازنة والتوتر الذي كان يعتري شحوب وجهه وحركات جسده، تشي بأنه عليل أو مريض بمرض خطير.

لم يملحه من بين هذا الزحام سوى المقدم أيوب حسين الذي عُرف بذكائه وفطنته وإنسانيته، كما عرف أنه من أشهر المحققين في البلاد، هذا إضافة إلى ثقافته الموسوعية، وولعه بالأدب والفن، ومهارته في لعبة الشطرنج وحل المسائل الرياضية المعقدة.

كان المقدم أيوب متوسط القائمة، ذا جسد عريض وقبضتين ضخمتين، يبدو من مظهره الأنيق وشخصيته الجذابة وعينيه اللتين تتقدان ذكاء أنه مليء بالحيوية والنشاط الدائمين، وأنه من هؤلاء الشخصيات التي لم تستلم يوما لنكبات الحياة ومصائبها، ولم تحن ظهرها عاصفات القدر.

انحنى المقدم أيوب أمام خالد طالبا منه الجلوس والاستراحة، في غرفة خاصة، وأوصى العاملين بالاهتمام به وتلبية طلباته ريثما ينتهي من المعاملات ويتفرغ بشكل كامل لخالد وقضيته.

مضت اكثر من ساعة ونصف وخالد عائم في بحر الانتظار تعبث به أمواج الأفكار، وتتلاطمه يمينا ويسارا، فاقدا ليقظته وحضوره. تارة يقف على قدميه، يذرع الغرفة جيئة وذهابا، وتارة يجلس على الكرسي يدخن سيجارة أو يفرك أصابع يديه المرتجفة ببعضها، إلى أن باغته صوت أجش أجفله فجأة، وجعل قلبه يهوي إلى الدرك الأسفل من الخوف: "الأستاذ خالد فليتفضل".

دخل خالد عرفة المقدم أيوب، محاولا أن يمسك نفسه ويبقي على رباطة جأشه، وأن يتكلم بجرأة وصراحة حول حادث اختفاء زوجته المفاجئء من البيت.

المقدم أيوب: ما هي قضيتك يا خالد تكلم؟

خالد: سيدي زوجتي منذ يومين غادرت المنزل، ولم تعد وقد بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها؟ في بيت أهلها وصديقاتها في الشوارع والمطاعم والحدائق ولم أجد لها أثرا؟

المقدم أيوب: لماذا انتظرت يومين لتخبرنا؟ وهل هناك مشاكل بينكما صغيرة أو كبيرة؟ أرجو أن تذكرها لنا بالتفصيل.

خالد: هي كأي مشاكل تحصل بين أي زوجين، لكنها من المستحيل أن تصل إلى هذه المرحلة، فكثيرا ما كنا نختلف ثم نتصالح في نهاية المساء، وكأن شيئا لم يكن، هي كانت حريصة جدا على مشاعري، بل كانت القلب الذي ألجأ إليه عندما تتعفن النفوس وتتيه الأرواح في متاهات الظلام. بالأمس بلغ مني الإرهاق والقلق مبلغا عظيما وكنت على أمل في عودتها في أي لحظة قبل مجيئي إليكم.

المقدم أيوب: ما هو عملك يا خالد؟

خالد: أنا موظف حكومي في مديرية الثقافة.

المقدم أيوب: ممتاز. قبل فترة أقامت مديرية الثقافة معرضا مميزا للكتب وقد اشتريت مجموعة نادرة ومهمة من كتب الفلسفة وعلم النفس.

خالد: عذرا سيدي فأنا لا أحب الكتب ولا أحب القراءة فهي تصيبني بالضجر والألم.

المقدم أيوب : لا بأس فهذا رأيك وحريتك في الاختيار، لكن ما هي الأشياء التي تحبها وما هي الأشياء التي تكرهها؟

خالد: (بعد أن ابتسم ابتسامة عميقة تنم عن الهدوء و الرضا الداخلي ): أكثر شيء أحبه هو دمى الأطفال، تلك الدمى الكبيرة، وأكره الستائر الحمراء والكتب؛ وكثيرا ما كنا نختلف أنا وزوجتي حول هذا الأمر

المقدم أيوب (بعد أن أزاح رزمة من الأوراق والأقلام كانت موجودة على مكتبه وركز انتباهه على خالد وحركة قبضته المتشنجة): عجيب كيف؟

خالد: زوجتي كانت توبخني دائما لأنني كنت أصرف الكثير من مرتبي الشهري في شراء هذه الدمى الكبيرة وبأشكال ووجوه مختلفة، فنحن كما تعرف يا سيدي لم نرزق بأطفال، وأنا أحتفظ بها في غرفة خاصة، أعددتها مسبقا كي تكون غرفة لأطفالنا الذين سيأتون مستقبلا بإذن الله.

المقدم أيوب (بابتسامة هادئة لا تخلو من مكر غامض): طيب ولماذا تكره الستائر الحمراء؟ لكن هل تدري يا خالد فعلا أنها مزعجة وتثير الأعصاب؟

خالد: بالفعل سيدي، أحسنت. وهذا ما كان يسبب لي مشاكل مع زوجتي، فهي مولعة بتبديل الستائر ودائما تفضل الستائر الحمراء، أو ذات النقش الأحمر، مما يسبب لي صداعا وألما في الرأس وأحيانا تنتابني رائحة غريبة تجعلني فريسة للغثيان أو التقيؤ، وأحيانا أسمع بكاءهم وعويلهم يا سيدي.

نظر المقدم أيوب باستغراب ودهشة إلى مساعده الذي بادله نفس النظرة أيضا، وطلب من خالد الانصراف والاستراحة في غرفة الانتظار، إلى أن ينادي عليه المقدم أيوب مرة أخرى لمناقشة قضيته والبت في الحلول والإجراءات القانونية اللازمة.

خرج خالد وجلس في غرفة الانتظار، ولم تمض دقيقتان حتى قام خالد من مقعده متوجها إلى المرافق الصحية، وقد لمحه المقدم أيوب، وأومأ إلى اثنين من مساعديه لتتبعه ومراقبته.

كان خالد يغسل يديه ووجهه بطريقة جنونية، وينظر إلى نفسه في المرأة بطريقة غامضة، كما أنه بلل بنطاله ببعض قطرات الماء وبدأ بدعك بنطاله، كأنه يقوم بتنظيفه من بقعة متسخة أو ما شابه ذلك.

فور خروج خالد من الحمام، اقتيد مباشرة إلى المقدم أيوب بطريقة عنيفة نوعا ما.

المقدم أيوب: أين زوجتك يا خالد منذ يومين؟ أنت الوحيد الذي يعرف. أين هي؟ أين كنت وقت الغروب قبل يومين؟ تكلم يا خالد فالأوراق أصبحت مكشوفة لدينا ولديك.

وتتابعت الأسئلة من المقدم أيوب ومساعده، لكن وطيلة ربع ساعة ظل خالد واجما مذهولا. عيناه المتجمدتان تخلوان من أي تعبير أو حس إنساني، تماما كتلك العينين التي اعتراهما الصقيع والموت لحظة سقوط كأس الماء من يديه وتناثر زجاجها على أرضية المطبخ.

خيط الدم والستائر الحمراء

أثناء التحقيق مع خالد لاحظ المقدم أيوب ببراعته، وسرعة بديهته نقطة حمراء على بنطال خالد الذي ارتدى ملابسه على عجل قبل توجهه لدائرة الأمن، لكنه واصل سير التحقيق بشكل طبيعي مركزا انتباهه على حركات جسد خالد الغريبة والمرضية، متوقعا ردة فعله أثناء الاستراحة في ذهابه للحمام، و تنظيف بنطاله من آثار نقطة الدم، علما أن النتائج المختبرية أثبتت أن النقطة الحمراء، لم تكن نقطة دم، والبنطال الذي ارتداه خالد لم يكن ذات البنطال الذي ارتداه أثناء قتله لزوجته، لكن المجرم الذي يبدأ بتحضير سيناريو مسبق في عقله يبقى يحوم حول جريمته وآثارها، فعادة ما يكون سلاح الشك والمباغتة في التحقيق من الأسلحة التي توقع المجرم في الزلة الكلامية وردة الفعل المتشنجة، كل هذا لم يكن خافيا عن المقدم أيوب، فقد عرف أن خالدا مجرم منذ الوهلة الأولى التي رآه فيها وهو يترنح بين الزحام.

كان خالد مصابا باضطراب وهوس اكتئابي حاد، فأثناء اعترافه بقتله لزوجته كانت تصيبه نوبات من الهستيريا الممزوجة بالضحك والبكاء والغثيان، رغم أن نتائج التقارير الطبية أثبتت أنه بكامل قواه العقلية، كما أن كرهه للستائر الحمراء، وعشقه لدمى الأطفال لهما جذور عميقة ومتأصلة فيه منذ طفولته، فقد عرف عن والدته أنها كانت عنيفة معه، وكانت ذات سمعة سيئة تستقبل أسبوعيا رجال الطبقة الثرية من التجار والمسؤولين السياسيين في بيتها، وتمارس معهم الجنس بالتتابع.

وبعد انتهاء هذه الحفلات كانت الأم تضرب خالدا ضربا مبرحا وتحبسه لساعات طويلة في سقيفة المنزل ذات الستائر الحمراء والأرضية المتعفنة والجدران المتآكلة، وهي السقيفة ذاتها التي انتحر فيها والد خالد ورآه خالد مشنوقا يتأرجح في عمق الظلام بعينين حمراويين ورقبة طويلة محنية.

وعند عودة خالد إلى غرفته كان يظل طوال الليل ساهرا يبكي محتضنا دميته المبللة بالدموع، ومنصتا لأصوات غريبة كانت تهمس في أذنيه وتتجلى له في أحلامه بهيئة أطفال أو دمى كبيرة.

اعترافات خالد

ربما لم أعرف شعورا بالمحبة تجاه أي إنسان طوال عمري، رجلا كان أو امرأة، لكن مسألة الزواج كانت بمثابة وقار اجتماعي يحميني من السقوط، لكنني عرفت الحب في لحظة من لحظات حياتي، وكان شعوري العميق بالسعادة والسكينة الداخلية، هي في الليلة التي قتلت فيها زوجتي التي اكتشفت حبي لها في تلك الليلة تحديدا.

ليس من طبيعتي الشك أو مراقبة زوجتي والغيرة عليها، لكنني عرفت أن ابن عم لبنى كان مغرما بها قبل زواجنا، وقد صارحتني هي أيضا بذلك في فترة خطوبتنا، وأنا كنت متأكدا أنها لا تعيره انتباها ولا تهتم لأمره بتاتا.

ومضت السنوات وأنا غارق في عملي وروتيني اليومي وكنت متأكدا أن زوجتي أطهر من ماء المطر.في يوم من الأيام عدت باكرا من عملي وكانت زوجتي مستلقية في غرفة النوم ناسية هاتفها المحمول على منضدة الطعام في غرفة الاستقبال، إلى أن جاءت رسالة أضاءت هاتفها المحمول.

أصابني فضول شديد لمعرفة المرسل، فتوجهت بخطى وئيدة نحو منضدة الطعام والعرق يتصبب من يديّ، وأمسكت هاتفها وبدأت بتقليبه وتفتيشه إلى أن عثرت على مجموعة من الرسائل التي تحوي عبارات غزلية كانت من نفس الرقم، لكن الرقم الغريب لم يكن مدونا في قائمة الأسماء، تناولت ورقة وقلم على عجل، وسجلت الرقم الغريب الذي جاءت منه كل رسائل الغزل على هاتف زوجتي، وأخفيت الورقة في جيب معطفي بسرعة.

في اليوم التالي توجهت إلى كابينات الاتصال الحكومية المنصوبة في الشوارع واتصلت على الرقم المسجل لديّ في الورقة، فجاءني صوت رجل عرفت فورا أنه فارس ابن عم لبنى.

بعد هذا اليوم بدأت حياتي تنحو منحى آخر، فحياتي لا يوجد فيها شيء يستحق الاهتمام، فهي مملة ورتيبة، ولم أتعود على أحداث من هذا النوع تنتشلني من كسلي وعجزي، وتجعلني افكر وأخطط، وأرسم الأهداف.

قررت في عيد زواجنا وذات يوم دافئ مشمس من أيام شباط أن اصطحب زوجتي في رحلة بعيدة عن المدينة، إلى واد يقع بين جبلين مرتفعين تكسوهما الثلوج، وبدأت السيارة تنحدر بنا إلى الوادي العميق، إلى أن أكملت مسيرها إلى الأمام حيث يلوذ بقاعدة الجبل كهف قديم ومظلم.

نزلنا من السيارة ولبنى ما زالت تبادلني النظرات الخجولة والبسمات الطفولية، والعذوبة الأنثوية التي ما فارقتها أبدا حتى في لحظات موتها، احتضنتها بشدة وقبلتها، داعبت شعرها وشفتيها وعنقها، طوقت خصرها بيدي أمام ذهولها وتعجبها من عواطفي الغريبة التي جاشت فجأة بعد كل تلك السنوات من الركود والخواء العاطفي. طلبت منها أن تستلقي أرضا،.

استلقت على الأرض كطفل رضيع يكتشف الأشياء من حوله لأول مرة، ابتعدت قليلا عنها، وبدأت أتأمل عينيها اللتين كانتا تنتظران أن أرتمي بحضنها، توهج المكان كله ببريق عينيها، فرأيتني أنقض عليها وأمسك بخناقها بقوة، وبدأت أعتصر رقبتها الطرية بقبضتيّ.

نظرت إليّ بنظرات كلها تضرع وتوسل، حاولت أن تقول شيئا، أن تنطق باسمي أو تومئ لشيء عابر مرَّ من فوقها. كنت أحس بخفقات قلبها وهو يبكي ويئن بين أضلعي. في تلك اللحظة أمسكت يديَّ برقة لا أدري هل كانت تحاول إبعادها عن رقبتها أم كانت تريد أن تمنحني آخر ما تملكه من محبة وعطف في هذه الحياة؟

لكن نوبة جنوني ازدادت، كنت عاريا من الزمن والأفكار، فوجدت نفسي أهوي بصخرة على رأسها الغض، وبعد عدة ضربات شعرت بتهشم جمجمتها وكانت نوافير الدماء تسيل من ثقوب رأسها، إلى أن بدأت ترتعش وتنتفض وتتلبط على الأرض بشهقات عالية ممزوجة بالغرغرة، ثم خمدت حركتها نهائيا واستسلمت للسكون وهي تنظر إليّ بعيون وادعة فيها الكثير من العتاب والألم، لكنهما لم تخلوا أبدا من ذاك البريق الإلهي الغامض.

في تلك الأثناء هبت عاصفة قوية وأربدت السماء بالغيوم الرمادية، وبدأ المطر يسيل بغزارة على الأرض، كنت أسمع مع زخات المطر أصواتا عديدة ممزوجة بالبكاء والنحيب، أصواتا كنت أسمعها كثيرا في طفولتي، إنها السمفونية التي تدق في الأعالي بعد كل جرح يصيب الأرض.

لم أشعر بنفسي إلا وأنا أدور وأرقص تحت المطر بشكل هستيري، شعرت بجوع شديد وخدر يسري في أطرافي التي انفصلت عن جسدي، اجتاحتني نوبة الغثيان فاستسلمت لإغماءة لم أفق منها إلا في منتصف الليل، والقمر الشاحب يغرق في البحيرة الداكنة ويضيء صمت الكهف المظلم.

الإعدام والرسالة الأخيرة

أصدرت المحكمة الجنائية قرارا وجاهيا بإعدام خالد لارتكابه جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد، وهو بكامل قواه العقلية والبدنية.

شوهد خالد أكثر من مرة في زنزانته، وهو يرقص و يدور كعاشق صوفي، وينادي باسم لبنى بصوت عال، وفي إحدى نوباته الهستيرية أخبر حارس الزنزانة أن لبنى تنتظره في مكان ما، وكان أحيانا يتلفظ بكلمات مبهمة وغير مفهومة، لكنه ذات مرة أخبر الحارس "أن البشر لا يستحقون العيش على هذه الأرض الطيبة، وأن الإنسان حشرة ضارة ومقززة لا بد أن ينتهي وجودها على هذه الأرض".

وذات مرة صرخ بصوت مختنق يشوبه الأسى: أنا الطائر ذو الجناح المكسور اخترت حريتي وسمائي، سيقتلونني وسيصفق الملوك والقادة، وستظهر صورتي في الصحف وعلى شاشات التلفزة وستفرح الأمهات وسيرقص الأطفال.العالم يريد أن يحقق العدالة، لكنه سيغرق في الظلام من بعدي وسيبقى مدانا إلى الأبد.

لم يُعرف خالد بخياله الواسع، ولا بثقافته العالية، بل على العكس تماما كان شديد النفور من الآداب والفنون ومن التمارين التي تقوي الذاكرة وتثري الخيال، لكن بعد إعدامه وجدوا رسالة في جيب بدلته الحمراء، والتي ما زال المقدم أيوب يحتفظ بها منذ تلك الفترة إلى يومنا هذا.

هنا كانت المفارقة العجيبة والمعجزة الإنسانية، إنها أشبه برسالة خطتها يد أديب أو فيلسوف خبر الحياة وتجاربها، ونهل من شتى صنوف المعرفة، إنها الرسالة التي تنم عن وعي وإدراك عميق للوجود من إنسان بسيط أو شبه أمي تقريبا:

"حبيبتي لبنى؛ أيها الملاك المحلق في ملكوت الرب، يا وجه الموسيقى في صمت المرايا البعيدة، يا وجه طفولتي المعذبة، وياربة العشق المقدس: عندما يطل الفجر الأزرق بجلاله وهيبته، وتسيل النجوم على جدران زنزانتي، وعندما تمتص الغيوم شريان الغروب، ويتكاثف العشب السماوي في الباحة الخلفية من أحلامي، اصبح ذرة تذوب في الغابات والبحيرات، في السهول والجبال، في المراعي والحقول.

"أنا ابن الطبيعة العظيمة والصدفة اللامتناهية، أنا الروح العالقة في جسر الضباب والموجة الهاربة من بحر النشيد؛ خذيني نشيدا قديما في صباحك القروي، أو حبة قمح في منجلك، أو عشبة يابسة على شرفتك الوحيدة.

"الآن فقط سأتحرر من سطوة لغتي ويضيع الزمان والمكان، الآن فقط سأتحرر من الخوف البارد الذي كان يبعثر عظامي، وسأمد يدي ذات الأصابع الطويلة والمتورمة لأصافح الملائكة والشياطين معا. الآن فقط ستقرع أجراس العتمة ويبدأ العالم بالرقص والدوران".

D 21 آذار (مارس) 2016     A أوس حسن     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • نوذج حي من نماذج العبثية في الادب،واروع أمثلته المسخ والمحاكمة لفرانز كافكا أو صمويل بيكيت:في انتظار غودو...هذا ما تجسده هذه القصة،واخذ منها هذه الفقرة" البشر لا يستحقون العيش على هذه الارض الطيبة وان الانسان حشرة ضارة ومقززة لا بد ان ينتهي وجودها على هذه الارض.." سيد أوس ،ما أكثر هذه النماذج في دنيانا من أمثال خالد ، وما أقرب العقل من الجنون!.تحياتي الخالصة سيد أوس حسن على النفس الطويل الملاحظ في هذه القصة.فاللهم فك أسر العراق وأحسن خلاصه.


    • شكرا لتواجدك هنا أستاذ يوسف ولوقتك في قراءة القصة..حاولت أن أتوغل في أعماق هذه النفس البشرية وأن أشرحها قدر الإمكان ..أحيانا يكون هناك خيط شفاف بين الجريمة والابداع ..بين الخير والشر ..النور والظلام ..صراع الثنائيات حاضرة ومتواجدة دائما في طبقات لاوعينا ..محبتي وامتناني

في العدد نفسه

كلمة العدد 119: التجارة الثقافية

العلاقات الدلاليّة في المجاز والاستعارة والكناية

التجارة الثقافية عالميا: 2004-2013

تشجيع حب القراءة

الشيخوخة والشباب