عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. فراس ميهوب - سورية

فرعون والشاعر المتمرد


فراس ميهوب= خمس سنوات تصرّمت، قبلناك طريدا، من أرض كنعان، ادّعيت الهرب من الخوف، تقول إنّك من يافا، ما يدرينا لعلّك لصّ، أو قاتل؟

= هل بدر منّي في مصر ما يدخل الشّك إلى قلب الوزير؟

= نعم، أنت تتغنّى بطير فرّ من قفص، وتنشد للعشّاق تحت المطر، بل تنظم الشّعر عن جمال القمر، وتعمّدت قاصدا، أو تناسيت متجاهلا، أن تمدح الملك المعظّم الّذي آواك.

= تعرف يا حضرة الوزير أنّي لم أقل شعر الإطراء في حياتي، كما الهجاء.

= سكتنا عنك كلّ هذا الوقت، ولكنّ شهرتك زادت عن الحدّ، وباختصار أمامك حلّ من اثنين، إمّا أن ترحل صباح الغد الباكر، أو تسهر اللّيل، لتؤلّف قصيدة تقريظ عصماء تمدح بها جلالة الملك، فتنال الرّضا، وتصبح شاعر البلاط المرّفه.

خرج الوزير، ورجاله، وتركوا الرّعب محوّما في المكان كطيور الموت.

اصفرّ وجه مراد. لديه ليلة فاصلة واحدة، وعليه الاختيار، ما بين الذّلّ الغنيّ ، أو الكرامة الفقيرة.

علا صوت نفسه الأمّارة بالسوء:

= ما المشكلة مع المديح، إنّه ضرب من الشّعر، تتقنه كغيره، وتستمر بضروبه الأخرى؟

حسم قراره تقريبا، قرّر النوم، فقصيدة مدح لا تحتاج إلى سهر.

رأى في غفوته كأنّه صار نبتة عبّاد شمس في حقل واسع، مترامي الأطراف.

كان الذّباب الأزرق يهاجم جسده النّباتيّ الضّامر، ولا يأبه بآلاف النبتات الأخرى.

استغاث، حاول إبعاد الذّباب عنه، لكنّ صوته العالي كان يجذب أعدادا أكبر منه.

تورّم وجهه بشدة، وأحسّ بألم عنيف، حتّى فقد الوعي تماما.

صحا بعسر خانق عند المساء، وحيدا منهكا، أرداه الأسى، حين رقد الرّفاق في عين الهجوع.

نبا عن عقله فقه السّرّ الغامض، وأنشبت الحيرة أظفارها في عنقه.

أطلّ من الشّرق صبح جديد، واقترب أطفال صغار، هم روح الحبور، فرطوا قليلا من بذور عبّاد الشّمس جميعا، إلّا هو، فقد تركوه، كأنّه سراب مفقود، وذهل لرؤية البذور تعاود البزوغ، وبسرعة فائقة، في وجوه أصحابه.

سها عن الألم المبرّح الّذي سبّبه الذّباب، وشغله أمر وحيد، طالما أنّه دوار شمس كأقرانه في هذه الأرض الفسيحة، ما الّذي يجعله يتلقى هذه المعاملة فريدة السوء؟

كاد الهمّ يقتله، ولم يعد يهتمّ بإزعاج الحشرات الصّغيرة القذرة لرأسه المتعب، بقدر حسرته من البعاد الممضّ.

انتبه عند الظّهيرة لأمر ثالث محيّر، فقد أبصر أصدقاءه عبّاد الشّمس، يتبعونها بفرح، ويستديرون مع الغزالة كيفما دارت في السّماء، بينما ظلّ هو مطرقا، لا يقوى على رفع رأسه، وسرى اليأس في جسده النّحيل.

خطر بباله أنْ ينظر إلى الأرض، صدم عندما شاهد ساقه مقطوعة من نصفها السفلي، ولا جذور له، بل كان مستندا إلى معدن غريب مغروس في الأرض.

قضم الجنون رأسه، سمع جيرانه يتهامسون، وريح الشّماتة تلطم أذنيه، عن عبّاد الشّمس الوحيد الذي قبل بالذهب بدلا من ساقه وجذوره، أعطاها للملك الذي أغراه طبيبه بتجريب وصفة الخلود، تمنحها له أشعة الشّمس المخزّنة في خلايا أطول وأجمل نبات في المملكة.

على صوت قهقهة عال، أفاق مراد مرعوبا، كان كابوسا مزعجا، رغم ذلك، أحسّ بالوجع يأكل من جبهته، وحتّى قدميه.

جمع أغراضه، وضع دواوينه في الحقيبة الجلديّة التي جاء بها يوم ترك يافا، وما تيّسر من أشياء عزيزة على قلبه.

خرج، دمعت عيناه، اجتاز نهر النّيل، عند ضفافه وعلى مدّ النّظر حقول عبّاد الشمس. شاهدها وهي تلاحق الشّمس برؤوسها الدائريّة، فاستقرت نفسه قليلا.

نأت عنه أرض مصر شيئا فشيئا، وفارقها حزينا، جرحه الفقدان، ولكنّ سكون الضّمير واساه.

مضى الوقت على موعد مراد في القصر، مع الملك وحاشيته، ولم يتأخر الوزير وجنوده القساة بمداهمة بيت الشّاعر المتمرّد. كان الباب مفتوحا، والنّاس في بهو الدّار، ينظرون إلى ورقة مغروزة على الحائط.

قصيدة مراد الأخيرة في أرض مصر، مكتوبة بما تبقى له من حبر أرجواني:

قدّدْت لهم جسمي النّحيل

كي يأكلوه

فنبذوه مرميّا على القارعة

ألحمي سقام؟

وعصرت لهم من قلبي

شرابا حلالا كي يرشفوه

فسفحوه في الأرض

كخمر حرام

فمددت لهم قلمي جسرا

كي يعبروني إلى الجبل المقدّس

خلف الغمام

ورحلْت عن مصر

قبل الفجر

كئيبا، شجيا

تبكي عيوني أرض السّلام

D 1 حزيران (يونيو) 2018     A فراس ميهوب     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 09: غزة لا تستكين

غزة: صور من مسيرات العودة

وسلامي لكم + عائدون

ناجي العلي: العودة وفلسطين

مظاهر أدبيّة النّص النّثري عند محمد البشير الإبراهيمي