عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

رامي حسين - الأردن

وأفل القمر


رامي حسين
إنه الحب بكل ما يعنيه من معنى: سعادة، حنان، عاطفة. ذاك الدفء الذي يحل على ليالي الشتاء الباردة، جرح، حزن، ألم. نعم إنه الحب، يبدو كطفل بريء لكن سرعان ما ينقلب إلى كائن متوحش عندما يصطدم بواقع المجتمع.

كان يوما من أيام الشتاء الجميل البارد. تتجمع قطرات الندى العليل على شبابيك البيوت القديمة لتشكل لوحة فنية صاخبة بمعاني التفاؤل. لكن سرعان ما تهب الرياح القادمة من شمال الحي مزيلة جميع هذه المعاني.

نظرت إلي بنظرات مضطربة ملأها الخوف والحيرة والنظر إلى مستقبل مخيف فيه الفراق والألم والمعاناة. ذلك المستقبل اللعين الذي أقسم أن يفرق كل محب. نظر إليها بعينين ملأهما الحب والإخلاص. تمنى لو يعانقها لتـتحد أنفاسهما المتلاحقة، أن يقبلها وتقبله بشغف ويدوران سوية ليحلقا إلى الأعلى، الأعلى حيث ليس هناك ما يعكر حبهما، لكن سرعان ما يشيحان بنظرهما بعيدا فقد انتبه أحد الواقفين إليهما.

تمر الدقائق كالبرق فقد حان موعد ذهابها. تستقل الباص. تجلس مسرعة عند الشباك ترمقه ببعض نظرات. تـتمنى ألا يتحرك الباص من مكانه وأن يبقى هكذا إلى يوم الدين، لكن بلا جدوى، فسرعان ما يدور محرك الباص بصوته المزعج لكي يخترق بذلك أفكارهما، منبهاً كليهما أن موعد الرحيل قد حان.

تضغط بقدميها بشدة على أرضية الباص لكن لا جدوى فقد بدأ الباص بالمسير. تزداد تمسكا كمن يتمسك بروحه لحظة فراقها، وكلما دارت العجلات للأمام التف رأسها للوراء، إلى أن يتوارى عن عينيها البنيتين.

يلتف هو ليعود أدراجه إلى بيته ينفخ من سيجارته همومه التي ما عاد لها متسع في ذلك الجسد. يتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء قليلا ثم يتوقف بلا حراك.

يجلس إلى طاولته. يخرج قلمه وأوراقه، يمسك القلم دون أن ينبس بحرف. تتساقط قطرات الحبر في مكانها في سكون ودون حراك، تستصرخه القطرات، القلم يحك يده لعله يحثه على الكتابة لكن بدون جدوى فلقد غرق في دوامة أفكاره.

السكون يحتل جدران الغرفة الشاحبة ولا يعكر صفو ذاك السكون إلا صوت أزيز الشباك الذي يشكل مع الهواء الذي يرتطم به سيمفونية الشتاء، يصحو فجأة من تأملاته ينظر حوله. ماذا كان يفعل؟ ها، لقد كان يكتب.

ينظر إلى الورقة التي تشكلت في منتصفها بقعة من الحبر، يكمشها بكلتي يديه ويلقي بها إلى السلة لكنها تسقط على الأرض. يضحك بشدة ويستمر بالضحك كمن أصابه مس ويقول في نفسه :حتى هذه لم تتحقق. ألا يكفي أن حياتي لا يتحقق فيها شيء؟

تمر السنون بثقل والحال كما الحال، كما لو أن الساعة هي التي تقدمت فقط. يرن الهاتف. إنها هي.
"ألو، حبيبتي."
"ألو، كيف حالك؟"
"بخير، وأنت؟"
"لست بخير."

"لماذا؟"

"لقد جاء اليوم إلى بيتنا خُطّاب."

أرجع رأسه للوراء فارتطم بالحائط، فكرر ذلك عدة مرات .
"افعل شيئاً."
"ماذا أفعل؟"
"إني أحبك."
"وأنا أيضاً."
"أي شيء. تعال وأطلبني."

"وماذا أقول لأهلك؟ أني عندي بيت وأنهيت تعليمي وموظف في شركة معروفة؟"

"أهذا وقت المزاح؟"

"لا، ولكن حقا ماذا أفعل؟"
"لا تفعل شيئا."

"لا توافقي."

"أبي مصر."

"وإذا؟"
"لا أعلم."
"وأنا أيضا."

أردف قائلا كمن يريد نهاء الحوار:
"حسنا دعيني أفكر بحل. مع السلامة. انتبهي لنفسك."
"حسناً وأنت أيضا. مع السلامة."

لكنه لم يجد حلاً، كما وعدها. ماذا يفعل إذاً؟ هل هذه النهاية؟ جاءه صوت من داخله: نعم وبلا شك، صرخ بأعلى صوته: "لا، لا يمكن، اخرس." فاختفى الصوت مقهقهاً، ليتركه وحده يصارع أفكاره. نظر بعينيه الشاحبتين نحو الحائط وبقي هكذا عدة أيام .
جاءه خبر إعلان الزواج. هام على وجهه بالشوارع. شرب ولأول مرة في حياته.

وجد نفسه أمام بيتها المنار، والذي تصدر منه أصوات الزغاريد. حنق على نفسه وعليها وعلى كل من في هذه الدنيا.

استل مدية من بين ثيابه، لا يعلم كيف ومتى ولماذا اقتناها.

أقسم على أن يقتل الجميع. صعد الدرج مترنحا. وقع عدة مرات ولكنه واصل الصعود، إلى أن وصل الباب وطرقه بقوة.

رأى خيال أحدهم قادما ليفتح. خالجه شعور بالخوف. أخفى مديته بين ملابسه. فتح له رجل في أواخر الخمسينيات. إنه أبوها. وجد نفسه يهنئه! نظر إليه الأب نظرات مرتابة وقال له: "من أنت؟"
قال متلعثماً: "من أقارب العريس." رد الأب: "آه، تفضل. من هنا صالة الرجال."

جلس إلى أول كرسي وجده، وما أن لبث برهة من الزمن حتى أحس المكان في انكماش مستمر والهواء يكاد يخنقه. خرج مسرعا إلى الدرجات ينزلها اثـنـتـين، اثـنـتـين.
وجد نفسه في الشارع يضحك بصوت عال ويترنح يميناً وشمالاً ويصرخ بأعلى صوته: "لكني أحبها. قسماً أني أحبها."

لم يعد يتذكر شيئاً. ترنح كثيراً وبشدة ثم ما لبث أن سمع صوت ارتطامه بالأرض.

نهض مفزوعاً بسبب الماء الذي سال على وجهه. حمد الله لأنه يحلم. نظر حوله. لكن ما هذا المكان؟ إنه ليس البيت.
نظر حوله جيدا وقال بصوت عال: "أين أنا؟"

رأى وجه الشرطي يرمقه بسخرية ويقول له كلمات لم يفهم منها شيئاً، ومن ثم أمسك به وساعده على النهوض. ومع أول صفعة تذكر كل شيء.

D 26 أيلول (سبتمبر) 2011     A رامي حسين     C 4 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 64: عشر ملاحظات في عصر الثورات

عن مبدعة الغلاف

مقابلة: الفنان علي الرفاعي

أيادي الفن المتسخة

شكرا جورج قندلفت