عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عباس علي عبود - السودان

مرافئ السراب


عباس علي عبودوحدكَ في مضمارِ النجاة

الزوارقُ احترقتْ

والنشيدُ يغوصُ عميقا

في أوديةِ الاحتمالْ

ها أنتَ ترتدُّ إلى وكرِ التوقعِ

والواقعة

ثمَّة رنين حامض

أنينُ الأوتارِ

والمنصتونَ في البعيد

طارق عبد المجيد غادر البلدة على إيقاع نحيب وجداني مفزع، وكأنه الوداع الأخير. قبل أنْ يصعد إلى السيارة، أرسل بصره إلى السماء، ثم ارتدَّ إلى البيوت، التي بدت له بلا ملامح، كأنها وُجدتْ كلمح البصر، ثم انبهمت في طيات الخيال. وكأنه يغادرها بعد زيارة خاطفة؛ دندنت خواطره بلحن حزين:

حسرة سنيني الراحتْ

ما بترحم الجاياتْ

ندمان عليك يا عمري

وندمان على الكلماتْ

توارت البلدة والسيارة تمضي شمالا. وقال في نفسه: "هل كانت حياتي محض سراب؟" كعابر وصل للتو ريثما يغادر، لفظته الأمكنة والدروب. هامات الجميز سطعت بخياله ثم انبهمت في سراديب الذاكرة. تململ على أسنة القلق. تتخطف بوجدانه تلك الأطياف النازفة، بعيني عاصم بدر الدين، في حجرة الاعتقال، حين همس من بين شفتيه اليابستين: "سيمضي القطار إلى الهاوية."

أبطأت السيارة سرعتها وهي تقترب من لافتة تشير إلى إصلاح في الطريق. حين نزلت السيارة من الإسفلت إلى التراب، عربد بذاكرته الصهيلُ الجارح بعيني مريم بدر الدين، في ذلك الغروب الحزين. وحين تصاعد الغبار، تلوى، وتكاثف، ولولت بدماغه أحداث ليلة البارحة. شجرة الهجليج العتيقة، وتلك الرائحة.

هل كان حلما؟

أم كان وهما؟

وسط ذهول أهل البلدة، واستنكارهم، ولعنات بعضهم، تزوج طارق عبد المجيد من ندى الحاج سعيد. وبعد أربعة أشهر وخمسة عشر يوما، طلقها، كالمستجير من الرمضاء بالنار. هكذا غادر البلدة محترق الوجدان والرؤى، يدندن بصدره إيقاعُ النجيع. طاف بخياله قبس من الآتي: كانت الأمواج تقهقه عاليا ومركب الأمنيات والمخاطرة يشق الآفاق. سمع الاستغاثات الملتاعة، الحائرة، فهل شهد إسدال الستار؟ فشل في الارتكاز على نقطة محورية، تبدأ منها الذكريات، لتنتهي. انطمست بذاكرته أو كادت، ملامح الطفولة، الصِّبا اليانع، النهر والغروب. بريقُ عينيها وسؤال عنيد. مريم بدر الدين هل جاءت حقا لوداعه في محطة البلدة؟ بعدما يئس من انتظارها في المنزل، تعصف به زلزلة اللحظات.

هل توهَّـم حضورها أم تمنَّاه؟

كطائر منفلت من عاصفة

تتخطفُ حوله الأطياف

الصبحُ فرَّ

من بين ثنايا العتمةِ

إلى ضفاف حزينة

أفق تسربل بالنحيب

والشمسُ صاهلة

في كبدِ الهلاك

على طريق الإسفلت دارت بدماغه الأسئلة العصية: هل علم أهل البلدة بما حدث؟ وهل كان حلما أم واقعا؟ ثم قال في نفسه: "وحدي تابعتُ الاحتفال الفريد. هل كان من الممكن الانتظار في البلدة عدة أيام، حتى أعرف ما تسرَّب من أخبار ذلك الحفل الغريب؟ ربما كان وهما. المؤكد أنَّ أحدا ما رآني تحت شجرة الهجليج. ربما قالوا سكران نائم، وهذه أهون الاحتمالات. والجنيَّات: هل أنشدن شعرا يحكي ما حدث، ثم ترنمن به في أعالي الجميزات؟ الطريق أمامي عسير، وعودتي سراب."

ما حدث في البلدة، تحت شجرة الهجليج العتيقة، في الليلة الأخيرة قبيل الرحيل، تحول إلى كابوس مزمن، ظلَّ يطارده منذ أنْ تطلع إلى النخلة وهو يودع الديار، وحتى ذروة الأمواج والشهيق. كابوس لا يبرح الذاكرة حتى يداهمها من جديد، كابوس عنيد.

في المساء الأخير قبل السفر، دعاه صديق قديم إلى جلسة على شاطئ البلدة الرملي، قريبا من الجميزات. تردَّد في البداية لكنه قال في نفسه: "لا بأس، قليل من الخمر يريح الأعصاب، ويريحني من قلق الليلة الأخيرة، قبل الرحيل." عندما همَّ باحتساء الكأس الأولى تردَّد، وبعدما ناول الكأس الفارغة إلى جاره، داهمته رغبة قوية لينهض، وينصرف. وقال في نفسه: "دقائق قليلة وبعدها استأذن وانصرف." لكن دبيب الخمر سرى في عروقه، فنسي النداء الذي طنَّ بدماغه. كانت الرمالُ باردة، ونسمات رقيقة تهبُّ من النهر الساكن، المطرز بالنجوم، في ليلة حالكة. تأمل النهر وقال في نفسه: "يا لها من بلدة ساحرة. هل سأعود إليها مرة أخرى؟" حين نهض لينصرف طلبوا منه بإلحاح أنْ يكمل معهم الجلسة، فما تبقى من الخمر قليل كما قالوا ولن يمكثوا طويلا. سأله أحدهم: "هل لديك موعد ما؟" ضحك ثم أضاف: "انتظر حتى نذهب معا."

ودَّعهم وصعد فوق الأحجار، ثم انحدر من الرصيف إلى الديار. بدأت خطواته ثقيلة ودبيب الخمر ما زال يسري في العروق. داهمته أطواق من ظلمات دامسة، وسطها دائرة من الضوء الساطع. عطور فائحة جذبته نحو مصدر الضوء. فتاة باهرةُ الجمالِ انتصبت أمامه فارتج قلبه باحثا عن دروب للفرار. اقتربت منه فغمرته العطور، جذب هائل شدَّه إليها. توهَّج بعينيها بريق قاهر فتبعها كالمسحور. بعد خطوات قليلة اقترب من حشد كبير. كانت الدلاليك تتراطن، والزغاريد تجلجل، وأغنيات راقصة سابحة في الفضاء. فتيات رائعات، جمال باهر، عطر لا يقاوم، وألحان ساحرة. وكأنه في مدن الأحلام، حوله حلقات كثيفة من الراقصات والمنشدين.

حاول أنْ يتبين ملامح جيرانه. كانت الوجوه تبدو أليفة لكنه لم يتعرف على أحد منهم. وقال في نفسه: "من أين جاءوا؟ ومتى؟" اجتاز الحلقة الأولى يتمايل طربا، والحلقات تزداد كثافة كلما اقترب من مركز الدائرة. كأنَّ الجميع ينشدون ويرقصون من أجله. مزامير تسكب ألحانا ساحرة فيتوهج بصدره الحنين، كأنه منذور لمهمة مقدسة. بصوت خافت ترنَّم بأغنية حزينة، ثم زجَّ به في أتون الأنوار والأنغام. وسط الدائرة، تدحرج على شفير الهذيان، والفتاة الساحرة ترقص، يتموج جسدها مع الألحان. وهج ناري يلمع على خديها فتلسعه الحيرة والخوف. ظلَّتْ الفتاة تتلوى في فوضى عارمة. التف قميصها حول جسدها الريان، وشفَّ حتى كاد أنْ يتلاشى. وكأنه أبصرها في موكب الأنوار، ملساء عارية، تتأود في غنج محموم.

مطوحُ الوجدانِ

حائرُ الخطى

يترنحُ وسطَ مركزِ الدوار

في حضرةِ سيدةِ الخصوبةِ

والاشتعال.

ضوء باهر

أنغام ساحرة

ونشوة مدمرة.

وسطَ الدائرةِ الجهنمية

ترنَّحَ

اختلجَ جسدُه

طوَّحتْ أقدامُهُ

بينما صدره هادر بالنشيج.

نام تحت شجرة الهجليج العتيقة. قبيل الشروق أيقظته نسمات الصباح. لسانه ثقيل وبحلقه مرارة. نفض عن شعره وملابسه التراب. لطمت أنفه رائحة نتنة، التفت وراءه، كان على بعد خطوة واحدة من كلب ميت.

= = =

النص أعلاه فصل من رواية لم تنشر بعد عنوانها مرافئ السراب.

D 1 نيسان (أبريل) 2008     A عباس علي عبود     C 0 تعليقات