أثير الهاشمي - العراق
الذات بطلا في شعر البياتي
عبد الوهاب البياتي: شاعر عراقي. ولد عام 1926 في بغداد. أكمل دراسته في دار المعلمين العالية عام 1950، وانصرف منذ ذلك الحين إلى الأدب، وطبع بعض الدواوين من أشعاره الوجدانية. غادر البياتي العراق عام 1955، وعاش في مصر ولبنان وسوريا.
بدأ البياتي حياته شاعرا رومانطيقيا حالما بالحياة ودنيا الطفولة وعالم المثل، ثم استفاق على نفسه فوجدها تصطدم بالحقائق الصارمة والواقع المرير: شعب مقيد بسلاسل الخنوع وأغلال الاستعباد وحرب جرت التدمير وحطمت المثل، وناس عاشوا على التواكل ولاذوا بالقناعة وأفيون الصبر، وقوم لاجئون في الخيام يترقبون عودتهم، والريح والغد والظلام.
استولى على نفس الشاعر السأم، فنظر من المدينة وثار على الرجعية والتقليد وحطم القوالب القديمة واتخذ من الشعر الحر أسلوبا جديدا للتعبير عن قسوة الحياة وعما يعتلج في صدره من أشجان، ومن معضلات روحية هي صدى لموقف (الوجودي) الذي تأثر به الشاعر ذلك الحين، فاصطبغت به بعض أشعاره إلى أن وعى الحياة وأدرك متناقضاتها، فآمن بالتطور والإنسان وقدرته على حذف الواقع وتبديله والسيطرة على الطبيعة والتحكم بالمصيرـ فراح يغني الحرية والفرح والأمل بالحياة وترقب الفجر المنتظر (1).
وكان لتمرد البياتي على الرومانسية رد فعل قوي جعله ينتظر طويلا في المحطات الأخرى، ولا يستريح في متنزهات قطاع الطرق على كل السائرين نحو النور "فالتمرد لا يكون منطقيا وإنسانيا إن لم تكمله الثورة. إن المتمرد دون الثورة إنما يشبه البهلوان الذي يقف مبتعدا عن الأرض ضد قانون الجاذبية ولكن الأرض تشده إليها حتى تهد قواه دون جدوى" (2).
كان البياتي يجمع شعره بين حقائق الوعي الاجتماعي وحرارة الانفعال الشخصي، وتلتقي عنده الذات بالموضوع، يستقي مضامينه من واقع الحياة وتنمو أشكاله مع مضامينها نموا يستفيد من سائر المذاهب. فهو يعتمد –شأن الرمزيين– على البلورة والإيجاز والأسلوب المقتصد. ويخرج الأشياءـ شأن السرياليين، من وجودها الموضوعي إلى وجودها الذاتي، ويجعل الصورة قاعدة لقصيدته، فيلتقي مع اليوت، مثله، في طريقة تداعي المشاعر والأفكار.
ولكن البياتي ينافس اليوت في اتجاهه التحرري وواقعيته البانية (3)، فنجده يعبر عن صوره الشعرية عبر ذات تتميز بالانفعال والثورة نتيجة التمرد المرير على واقعه وواقع المجتمع الذي يعيش فيه، فيجعل تلك الصور تعبر عن الوجود الذاتي لاتجاهات تحررية جعلت من انفعاله الشخصي ونتيجة الظروف التي ذكرتها أن يكوّن عبر قصائده صورا شعرية تعبر عن ذات بطولية، ويحاول أن يرسم تلك الصور عبر قصائده التي تبتغي التحرر والبلوغ إلى الهدف التحرري من الواقع المرير.
ومن اجل الثورة والحب عند البياتي، يلتقي الكائن المتناهي والكائن اللا متناهي في شخصية الشاعر والثوري. وعن طريق التضاد والتزاحم والجدلية والصراع بين هذين الكائنين تندلج الشرارة الإنسانية التي يتفوق بها الإنسان المبدع الخالق على الطبيعة المقيدة بقوانينها، والتي لا تستطيع أن تجد شبابها إلا عن طريق تعاقب الفصول. على أنها الطبيعة لا تستطيع أن تنتقل عبر لحظات التجدد إلى ذات أكثر احتمالا لأنها سرعان ما يدب الهرم والشيخوخة إلى عملية التجدد نفسها، لأن الطبيعة تأكل نفسها بنفسها، ولان القوانين التي تقيدها قوانين ميكانيكية صرفة.
والكائنات المتناهية تحمل جرثومة موتها معها، وهي أضعف من الطبيعة، لأنها وحدات مجزأة، لذلك فان مدارها ينتهي بانتهاء دورة حياتها على الأرض تاركة ورائها الفنان–الثوري، وريثها وابنها المنتصر لها على الموت الذي تصنعه من عرقها ودمها وشقائها وحلمها بالعدالة.
الفنان الثوري إذن هو تجسيد لإرادة الكائنات المتناهية المكبوتة المضطهدة، وامتداد لها على مدى التاريخ عبر لحظات التجدد إلى ذات أكثر احتمالا. والطبيعة بالرغم من تآكلها وميكانيكية قوانينها تتفوق على الكائن المتناهي، وتستطيع أن تسحقه وتعيده إلى صدرها عظاما نخرة، ولكن الكائن المتناهي بالرغم من كل هذا، هو الذي يحول أحلام الفنانين والثوريين والفلاسفة إلى عمل وواقع، أي إلى فعل، وفي ذلك سر عظمته، ولكن الطبيعة التي تنهي دورة حياة الكائن المتناهي، تقف صاغرة منهوكة القوى إمام الفنان والثوري لما يحملانه من الخصائص المركبة لكائن المتناهي واللامتناهي (4).
الفن والثورة بهذه الصورة انتصار على الطبيعة والحياة واستئثار بهما، والفنان والثوري يعيشان في الإبداع التاريخي، ولذا فإنهما ضد التجريد والهلوسة والصوفية والمثالية المبتذلة، والتاريخ هو الوجود الإنساني الذي يسبق الماهية، فهو إذن الزمان الوجودي الذي يتمرد على مصطلحات التقويم ويرفض التقسيم المناخي والجغرافي لخارطة الإنسان الروحية، كما يرفض تقسيم التاريخ إلى متوالية عددية، ومن هنا جاء الخلاف والاختلاف بين الفنان – الثوري وبين السياسي المحترف.
السياسي المحترف هو الوجه الشرير للكائن المتناهي، فهو أناني، محدود الذكاء، يحدو للفن والثقافة، واقعي إلى حد التزوير والجريمة والغش والخداع، غارق حتى إذنيه في المصالح الذاتية المصطنعة والرياء في النقد الذاتي والأفكار الاتفاقية المبتذلة. السياسي المحترف هو الوجه الآخر للثوري المرتد الذي يسقط في وحل الجمود أو التحريف، فيفقد صفة الكائن اللامتناهي، ليصبح سيدا أو عبدا للسلطة الزمنية التي تتمثل بالبنوك وأجهزة القمع البوليسية والبيروقراطية.
الفنان الثوري خالق الثورة وصانعها، والسياسي المحترف لصها وقاتلها (5). الشاعر فنان ثوري يجسد إرادة الكائنات المكبوتة المضطهدة، والفنان مطالب من أعماق أعماقه بأن يحترق مع الآخرين عندما يراهم يحترقون (6). ولعل عبد الوهاب البياتي من الشعراء الذين مثلوا منهج الالتزام والخط الثوري.
يرد الشاعر البياتي على تساؤل الالتزام بقوله: "لا أفضل بين الإبداع وبين الموقف، وكل الشعراء الكبار الذين كانوا في تاريخ الإنسانية لم يفصلوا على الإطلاق بين الإبداع والموقف، (7). الشاعر البياتي لم يتوقف عند حدود الرؤية الثورية للحياة وإنما انهمك في إقامة بناء جديد للحياة والإنسان، استمد لبناته من التاريخ، الأسطورة، الحلم وحقائق الواقع وظلال المستقبل بعد أن طاف طوافا طويلا في رحلته الشعرية الرائدة لكل العالم (8). وجسد البياتي إرادة الكائنات المكبوتة المضطهدة بصور ثورية عبر عنها بذاته.
في فترة استطارة الحضارة —حسب تعبير توينبي— ظهرت شخصيات فعالة مبدعة منها الأسطوري ومنها التاريخي، جسدت الحب والاختراع والمعاناة والتضحية وعبث الجهد الضائع والرغبة في الخلود أو الانبعاث من جديد، وكان من بينها إيزيس وأخناتون وعشتار والإسكندر وسيزيف وبرمثيوس وأدونيس في العصور الغابرى، بينما قدمت الحضارة العربية الإسلامية – في تصور البياتي – الحلاج والمعري وعائشة وطرفة والخيام والمتنبي وغيرهم. والبياتي يهمه من ذلك دور الشخصية في دفع عجلة الحضارة (9).
لقد عاش البياتي الثورة السياسية التي تعيشها أمته من اجل الانفكاك من أسر الاستعمار والتخلف، كما أن عدم ارتياحه للنظام الاجتماعي الموجود وتركيز آماله ومطالبه على تحرر الإنسان هو الذي قاده إلى أن يتشكك في القوالب الشعرية الموجودة والاتجاه لخلق قوالب جديدة تتصل بمثاله السياسي والثوري (10). وهنا يصف البياتي ما يفعله في كل ليلة وما ينتظره من معجزات إنسانية قد تقع. يقول:
وفي مثل هذا المناخ المشحون بالتوتر والقلق والانتظار احمل كل ليلة عصاي وارحل مع الطيور المهاجرة، وفي انتظار معجزة إنسانية تقع، والكلمات تعمل في صمتها لتهبني هذه الشرارة الإنسانية، هذا الأمل، هذا الخيط من الدخان الذي اكتب فيه قصائدي، فالحرية ثقيلة وباهظة ومحرقة كما الذي استطيع أن اصنع بها في الزحام الهائل من التراكمات العددية للكائنات المتناهية من الطين والقش، هذه الكائنات العظيمة الطيبة التي تتخبط في بؤسها المادي والروحي، حيث كان الغزاة والطغاة والجلادون قد ألهبوا ظهورها بالسياط وحالوا بينها وبين المدينة الفاضلة وحرموها من النور والهواء والثوب النظيف والدواء والكتاب ورغيف العيش بل حرموها أحيانا من ابسط مقومات وجودها الإيمان: نعم الإيمان بإله، بفكرة، بأي شيء. ها أنا ابحث في هذا الزحام الهائل، الذي لا املك إلا حبه عن البطل الأسطوري، التاريخي الذي يحول هذا القش والطين المقدس بحركة من يده إلى لهب، إلى ثورة، بل إنني احلم وأنا ابحث، أن يتحول هذا الزحام الهائل نفسه إلى هذا البطل الأسطوري التاريخي (11).
هذا الأسلوب الشعري الجديد الذي اتخذه البياتي عن شرارة الإبداع في الصراع بين الحياة والموت، صورة المعاناة والمقاومة البطولية لمظاهر الظلم والطغيان والفساد، صورة النفي والغربة والإحساس بالعبث والطغيان والفساد، ثم العودة إلى المكابدة والمجاهدة واستلهام بطولات الإنسان وأفكاره وإيمانه بالحياة وبعودة الحياة في كل العصور (12). وامتزجت الثورة بالتمرد في مراحل حياة الشاعر البياتي، وحاول الدفاع عن القيم المجردة للعدالة والحب والمساواة والإخاء في بعض القصائد.
ويعلو صوت تمرده الرافض للمنفى الذي صار يعني الموت مطالبا بحقه في الحياة في بعض قصائده، ولنقرب بعض الشيء من هذه القصائد لنتأمل قدرته الفنية المبدعة بلغة سهلة ومباشرة وبخطاب ذاتي (13):
فوق الحقول، تلألأ القمر النحيل
كذبابة حمراء، يجنح للأفول
وصرخت "لا..."
في وجه موتي "لا أريد."
الباب يفتح، والضياء يمس نفسي من جديد (14)
هذا الأسلوب الشعري الجديد جعله ينجح في تصوير ذاته في جعلها بطلا تاريخيا ورمزا يصارع الحزن والفقر والضعف ويمكن. أن نسمي ذلك رؤيا أو عالم عبد الوهاب البياتي.
إذن فتحقيق الرغبة هي رغبة لكل المجتمع عبر ذاته فنراه يستخدم في كل صورة شعرية في أكثر قصائده أو بعض منها يستخدم الأسلوب الشخصي ولكن لإرادة جماعية تتولد نتيجة الاضطهاد في بيئته وعالمه الذي يعيش فيه، ويحاول أن يصنع ثورة جماهيرية عبر ذات تحاول أن تفتش في الظلام عن قربة ماء لتحوي دموع المساكين والفقراء، وتكشف كل من يسقي بذور الواقع المرير، ومحاولة إقناع الآخرين بان الإنسان محروم حتى من ابسط مقومات الوجود ومقيد بقيود الاستبداد وعدم الحرية.
الحرية التي يطالب بها الأديب العربي يجب ألا تتوقف عند حدود حرية الفكر وإنما يجب أن تمتد أيضا إلى الحرية الاجتماعية والى منع الظلم والاستبداد. وقد تميز البياتي بأنه من أوائل من ربطوا بين الشكل الجديد وإمكاناته في التعبير عن الرؤية الموضوعية المتمردة والثائرة ويلاحظ المتتبع أن "موهبة الشاعر هي التي بقيت طاغية فوق جميع المحاولات الواعية لتطوير الشكل والمضمون في الشعر العربي المعاصر، فهاجس الواقع والتصدي له يمثلان الخط الشعري الذي لا يعرف الشاعر فكاكا منه (15):
يا أيها الشاهد، فاحلف لهم اليمين
ولتمسح النجوم بالمنديل
فليس للعالم من بديل
وليس للثورة من سبيل
إلا بأن تدك هذا الجيل الثقيل (16)
إن الشاعر بلجوئه إلى لغة التأكيد والحتمية بأن ليس ثمة خيار آخر للخلاص سوى الثورة، يكشف أن أي بديل للثورة لن يأتي بالنفع المرتجى للتغيير، وأن هذا التغيير لن يتم إلا بهدم الواقع المتخلف (الجيل الثقيل). هذا هو المفروض في الثورة التي تقوم على الهدم كمرحلة أولى، ثم البناء كمرحلة لاحقة.
= = =
المراجع
1= أحمد أبو سعد وهاشم الشبري، الشعر والشعراء في العراق (1900-1958)، ص 274
2= جلال الخياط، مختارات من مهرجان المربد، الشعر والثورة 1974، ص 63
3= أحمد أبو سعد وهاشم الشبري، المصدر نفسه، ص 274
4= عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، ص 43
5= عبد الوهاب البياتي، المصدر السابق، ص 44
6= جلال الخياط، المصدر السابق، ص 63
7= سعيد بن زرقة، الحداثة في الشعر العربي (أدونيس نموذجا)، ص 208
8= شوقي خميس، المنفى والملكوت في شعر عبد الوهاب البياتي، ص 11
9= محي الدين صبحي، الرؤيا في شعر عبد الوهاب البياتي، ص 35
10= وفيق رؤوف، شجرة الرماد (المواجد في شعر البياتي)، ص 45
11= عبد الوهاب البياتي، المصدر السابق، ص 45
12= محي الدين صبحي، المصدر السابق، ص 36
13= شوقي خميس، المصدر السابق، ص 27
14= البياتي، ديوانه، ج1، قصيدة "موعد مع الربيع"
15= وفيق رؤوف، المصدر السابق، ص 46
16= عبد الوهاب البياتي، ديوان "سفر القر والثورة" (الإعمال الكاملة، ج 2).
◄ أثير الهاشمي
▼ موضوعاتي