عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

النقد وشروط الحضور النقدي


معنى كلمة (نقد) في المعاجم العربية

تورد المعاجم العربية سيلا من المعاني اللغوية لهذا الأصل اللغوي، فيتداخل فيها المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي، وقد ذكر ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة أن "النون والقاف والدال أصل صحيح يدل على إبراز الشيء وبروزه"، ثم أخذ في تعداد بعض المعاني اللغوية، رابطا تلك المعاني بسياقات لغوية بسيطة، من ذلك قوله: "نقد الدرهم، وذلك أن يكشف عن حاله في جودته، ودرهم نقد: وازن جيد، كأنه قد كشف عن حاله فعُلِم"، وقد صرح الزمخشري في أساس البلاغة عن هذا المعنى، فقال: "ونقد النَّقاد الدراهم ميز جيدها من رديئها، ونقدت الدراهم وانتقدتها: إذا أخرجت منها الزيف".

فراس حج محمدويشتم كذلك من بعض معانيها اللغوية التنبه واليقظة، فقد أطلقت العرب على القنفذ اسم أنقد لأنه لا ينام، وعلى الرجل البصير العالم في الأمور صاحب الخبرة والعلم والمعرفة بأنه (نَقِد) على وزن (فَعِل)، ويقولون: "نقد أبد" أي عالم بالأمور مجرب أريب.

وعلى هذا فإن هذا المجرب الأريب قادر على الملاحظة والنقد واستخراج العيوب وذكرها، ومن هذا المعنى لكلمة نقد يُفهم حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك"، ومعناه: إن عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثله، ويمتد المعنى أبعد من ذلك، لتطلق المعاجم اللغوية النقد على لدغ الحية.

وقد يدخل الأصل اللغوي لكلمة نقد في بنيتين صرفيتين ليدلا على معنيين متضادين، فإذا كانت "النقادة تعني الشيء المختار وهو من نقادتهم أي من خيارهم، فإن النقدة تعني الذميم، وهو نَقَدَتهم أي من سفلتهم"، ويتصل بكلمة (نقد) معنى آخر ذو دلالة بارزة، وهذا المعنى – كما جاء في الصحاح- "ناقدت فلانا إذا ناقشته في الأمر"، ومنه نقد الكلام ناقشه، ومن هذا المعنى الأخير جاء قول بعض المعجميين أن فلانا من" نقدة الشعر ونقاده "، وزادوا على ذلك في السياق ذاته قولهم: انتقد الشعر على قائله، وتبقى الإشارة إلى هذا المعنى الذي لا يكاد معجم يخلو من النص عليه، فقد جاء في حديث جابر وجمله: "فنقدني الثمن أي أعطانيه نقدا معجلا" أي ضد النسيئة ونقد الثمن أي قبضه.

المعنى الاصطلاحي

لعل لتلك المعاني اللغوية التي اخترناها لكلمة نقد ارتباطا بالمعنى الاصطلاحي، وما يتصل به من دلالات اجتماعية واقتصادية من: تمييز ونقاش ودفع وبيان العيوب، قد تجسدت هذه المعاني بصورة أو بأخرى في المعنى العلمي الاصطلاحي المرتبط بالتعليق على النص الأدبي، ففي هذه العملية يظهر التمييز بين الجيد والرديء وذكر سقطات الكاتب ونقاشه وجداله والرد عليه بقول يناقض قوله حالا بمجرد سماع النص.

مما سبق، نستطيع أن نعرف النقد الاصطلاحي بأنه: "عملية تمييز جيد الكلام من رديئه والتنبيه على ما في الكلام من العيوب مع الدعوة إلى تجاوز هذه الأخطاء للوصول إلى نص خال من السقطات".

العملية النقدية، وشروط الناقد

والعملية النقدية عملية فطرية؛ يمارسها الناس كافة، ولكنها عملية ذوقية يتفاوت فيها الناس، وإن وجد حد أدنى من المواصفات يتفق عليه الجميع، إلا أن هناك فوارقَ كبيرة بين النقاد في النظرة إلى النص الأدبي؛ فليس شرطا أن يكون العيب الذي اكتشفتُه هو عيب عندك، بل قد يكون في نظرك محمدة في النص إن أحسنت تفسيره وتعليله، ومن هنا اختلف أصحاب المذاهب النقدية فيما بينهم، فذوو النزعات الرومانسية من النقاد لا يعجبهم غالبا الشعر التقليدي المعجمي والحماسي، وهؤلاء لا يعجبهم الأدب الرمزي الخالي من حرارة الواقع وسطوته التصورية الجارحة أحيانا، والفكريون من النقاد لا يعجبهم الشعر البسيط الخالي من العمق الفلسفي، الذي له بالضرورة أتباعه من النقاد الذين يدافعون عنه، وهكذا.

وتظهر في هذا السياق الخبرة والتجربة والعلم والمعرفة الدقيقة عند من يقوم بهذه العملية، وهذا يستدعي أن يكون الناقد عالما بالشيء وضده، فالناقد إنسان يميز بين الخطأ والصواب، يعرف الصواب فيقيس عليه، ويعلم الخطأ فيشير إليه، وينبه من يقع فيه، فالناقد علاوة على العلم والمعرفة شخص متيقظ ذو حساسية مرهفة في التقاط المعيب من الكلام. وعلى الناقد ألا يتعجل في الحكم على ما يسمع أو يقرأ بل عليه أن يتأنى، ويأخذ نفسه بالدربة والمران وصقل الموهبة ليكون قادرا في نهاية المطاف على تقديم حكم نقدي يقتنع الآخرون به، ويستلزم هذا أن يكون الناقد مطلعا على ما يلزمه من علوم لتتمرس عنده الملكة، فإن لم يتشبع الناقد بالعلم لن يكون ناقدا جيدا.

ولنضرب لذلك مثلا:

هب أنك حضرت أمسية شعرية، ألقيت فيها العديد من القصائد، فكيف لك بالحكم على الشاعر والشعر إن لم تكن مدركا لعلوم اللغة من نحو صرف ودلالة ألفاظ، وعالما بالبلاغة العربية ومباحثها، وقادرا على التمييز بين المجاز والحقيقة، متقنا للعروض زحافاته وعلله وبحوره وتفاعيله ومستقيمه ومكسوره، رابطا كل ذلك باللفظ وسياقاته النصية ومناسبتها للمعنى التي جاءت فيه، إذن لا بد أن يكون لديك سابق معرفة نظرية في هذا كله حتى تستطيع تكوين حكم نقدي مقبول ومقنع، فتقول في نهاية المطاف: إن هذا الشاعر جيد؛ تراكيبه محبوكة جيدا، صوره البلاغية مرسومة بعناية، ألفاظه موظفة جيدا لخدمة الموضوع ومناسبة للمعاني، عباراته تستفز السمع والفكر.

علاقة النقد بالأدب

لا تحتاج إلى كبير عناء لتكتشف أن النقد تابع للنص الأدبي، فوجود الشاعر والشعر أسبق من وجود الناقد والنقد، فالنقد لا يترعرع إلا في ظل حركة أدبية نشطة سابقة عليه، وهذا الأمر ليس معناه تدنيا في مستوى الناقد وما ينتجه من نقد، بل إن ذلك يشير بوظيفة النقد التقويمية للنص، مما يستدعي علاقة توجس ووجل بين الناقد والشاعر على اعتبار أن الناقد مولع بالتنقيب عن العيوب وإبرازها ولفت نظر الآخرين إليها، وفي تاريخ النقد العربي القديم تقوم العديد من الأمثلة دليلا على مثل هذه العلاقة تمثلت في هجاء الشعراء لبعض من نقدوهم، ومن جهة أخرى فإن الشاعر نفسه نصب من نفسه ناقدا على نفسه قبل أن يتعرض له الآخرون بالذم أو التجريح، فنجحوا إلى حد بعيد من الإفلات من قبضة النقاد وملحوظاتهم، وقد صدق الشاعر في قوله معبرا عن هذا الموقف النقدي الاستباقي:

لا تعرضن على الرواة قصيدة = = ما لم تكن بالغت في تهذيبها

فإذا عرضت القول غير مهذب = = عدوه منك وساوسا تهذي بها

ولذا فإن النقد الأدبي يقدم خدمة جلّى للنص الأدبي، فتلك العلاقة التوجسية كانت كفيلة بإخراج النص من احتمالات التشويه النقدي والبحث عن عيوبه، وهذا أيضا جعل الناقد باحثا ومتصفحا عن كل ما يثلم النص، لا ليعيب النص والمنتج له بقدر ما يريد إثبات شخصيته النقدية، وقد دخل النقاد نتيجة لذلك في صراع مرير مع النصوص المتينة الجيدة، ليتصالحوا معها، ويقدموا على الهامش ديباجة نقدية إيجابية كانت لازمة وضرورية كذلك لإثبات حضور الناقد حتى مع تلك النصوص المبدعة والعبقرية، وهكذا دواليك لنكتشف أن العلاقة جدلية ما بين الناقد والأديب، وهي مستمرة ما دام النشاط البشري والفكري مستمرا.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2010     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات