وهيبة قوية - تونس
حكاية باب
تمكّن منّي الحزن كما تمكّن منّي التّعب والأرق من قبل. أتى، لا أعرف من أين، هكذا! دفعةً واحدة، كتلة ثقيلة جدّا، مثل يد عملاقة من نار ودخان تسدّ شقوق أنفاسي فيتبعثر كلّي، وألتقط بين الحين والحين نفسا بصعوبة. كلّ نفَس له طعم مرّ ورائحة خانقة تتفشّى في كلّ خلايا روحي. ويَثقل صدري. ويضيق. يضيق، وأختنق. أختنق، وتصبّ اليد العملاقة في روحي أطنانا من الحديد المذاب يحجب عن روحي الحياة.
وكنت وأنا غارقة في حزني أسمع صوتا خفيّا خافتا يلحّ عليّ بأن أنهض، وأن أسعى في دروب الحياة، وأن أحاول فتح الباب وأخرج. بَعيد الباب، بعيد جدّا، فكيف أصل إليه وأفتحه؟ ورأيت، فيما يرى الغريق، خيطا رفيعا يشدّني إلى مسلك ضوء أبعد من الباب. ولكنّي لم أعرف كيف تكون أوّل خطوة إليه. حاولت، ففي المحاولة حياة. ولكنّي وجدتني مسمّرة في مكاني، يشدّني الحزن الخبيث إلى القاع ويغريني الباب بالخروج وروحي تتأرجح بينهما ولا تستقرّ.
باب البيت أمامي، حاولت أن أقترب منه. مددت إليه بصري أنظر إليه ولا أحبّ أن يغلق. لم أصل إليه كما لم أصل إلى أيّ مكان في البيت. المسافة بعيدة جدّا. متران أو ثلاثة أمتار أو خمسة، هل عليّ أن أتحرّك وأتنقّل كلّ هذه المسافة؟! وبعد؟ لماذا أتحرّك في البيت؟ لماذا أخرج من البيت؟ لست إلاّ مجرّد جثّة تتنفّس. أو شجرة عجوز تقف على حافة الطّريق، تتشبّث بالأرض لتقف مترنّحة وتطلّ على ما حولها وما لا يتجاوز طول أغصانها وظلّها، وتنسى الفصول الّتي تمرّ بها لأنّها لا تثمر. ومثلها أنسى. ولا أذكر إلاّ أنّ الحياة مستمرّة خلف الباب، بعيدا عنّي ولا تتعثّر بجثّتي وأنا مشدودة إلى وسائدي وحولي جدران خرساء.
بقيت أراقب الباب قبالتي وأبتسم كلّما اقتضى الأمر حتّى لا يرى من حولي حزني الخبيث الثّقيل، وأحاول فتح أبواب موصدة في روحي وأغلق أخرى.
= = =
باب البيت مفتوح على جدار أبيض ترتسم عليه أشعّة الشّمس، تمحوها سحب داكنة تراوغها مرّة غِبّ مرّة، وأنا لا أتحرّك من مكاني. ألتقط المشهد ما بين الباب والجدار وأتفقّد الجدران الّتي تحيط بي. ماذا لو أبعدت هذا الواقف خلفي؟ هل سيتّسع مجال الشّمس ومجال الغيوم ويصير مكاني بينهما؟
قد أركب غيمة تطير بي وراء الشّمس. تحرقني الفكرة فأنكمش في مكاني. وأطير إلى فكرة غيرها. ماذا لو حاولت دفع الجدار حيث أضع الوسائد لأتّكئ؟ هل تدخل الشّمس أو السّحب إلى البيت؟ تغسلني مياه سحابة تعبر فوق رأسي فتعرّي حزني وعدم رغبتي في مشاركتها الاحتفال بالمطر.
ويجرفني سيل الفكرة. إذا أبعدت هذا الجدار فسأحرم من زاويتي الّتي أراقب منها الباب والجدار الّذي يُفتح عليه. ماذا لو رفعت السّقف قليلا هل سيتّسع المكان لأتنفّس؟ لو حملت البيت كلّه إلى مكان آخر؟ فوق السّحاب مثلا. أبتسم لفكرتي. وأتراجع. لا يوجد سحابة تحتمل وزن البيت، إن استطاعت فستمطر حطامه على الأرض وأظلّ معلّقة في الفراغ.
يظلّ السّقف فوق رأسي لا يرتفع ويُسقِط عليّ أفكارا تدوّخني، وتظلّ الجدران واقفة حولي تصدّ عنّي الشّمس والسّحب والرّيح وتسند وسائدي وتراقب ضعفي. وتظلّ أمنيتي تبعدها وترفعها وتغيّر أمكنتها وتبحث عن احتمالات جديدة لمكان يتّسع لضيق صدري ويمنحني الأنفاس اللاّزمة لأغيّر مكاني أو أخرج حيث الشّمس، وأركض مثل الرّياح.
ويظلّ البيت قفصا كبيرا يحبس روحي، ومهما حاولت دفع جدرانه لا يتّسع. مع ذلك لا أرغب في الخروج منه، فهو يحميني من النّاس وأسئلتهم الكثيرة. ويحميني من القناع الّذي عليّ أن أضعه لأظهر للنّاس أنّني بخير. فأنا بخير، ما دمت في بيتي لا أتجاوز بابه ولا الجدار أمامه. البيت سيحميني دائما وسأكون بخير.
لا يهمّني العالم الّذي يمضي في سُبل الحياة خارج البيت وما بعد الجدار الأبيض الّذي يسوّره. ذاك عالم لا أحبّه. فأنا، من مكاني قبالة الباب، أرسل أطيافا تجوب الأرض وتطير في كلّ مكان وتمنحني القوّة، فأقاوم الحزن، أو تزيد حزني إذ تعود الأطياف بمزيد من الأسئلة. لا أجيب. أنظر إلى الباب المفتوح وأغلق باب تفكيري. أنا لست هنا. وهذا يرضيني.
وحين يُغلق الباب في اللّيل أواصل النّظر إليه. وأنتظر أن يُفتح من جديد ربّما يأتي منه حلم ما، بلا جرس وبلا موعد. وقد يزول الحزن العالق بروحي وأنزل على الأرض لأعانق الحلم.
يصير الباب في اللّيل حاجزا بيني وبين الأنوار الّتي تظهر خلفه وفوق الجدار الأبيض. أرى الباب واقفا بهمّة يصدّها وأراها تعانده فتتسلّل من تحته ومن جانبيه ومن فوقه. تحيط به كإطار من النّور ويبقى الباب مظلما. يصير معلّقا في محيط النّور وأظلّ معلّقة في الظّلام والفراغ. وأصير بابا معلّقا مشرعا على الحزن. وتظلّ عيناي مرشوقتين على لوحه فأبعث خيالي يرسم له أحلاما وابتسامات وبعض الحكايات حتّى ينفتح صباحا على الجدار الأبيض على أمل أن تشرق الشّمس ويلاعبها الغيم.
وطال مجلسي أمام الباب ينفتح وينغلق. يوما بعد يوم، لا أبرح مكاني نهارا أو ليلا، أراقبه وأتخيّل كيف أغيّر الجدران في هذا القفص الكبير، وأزيّنه بحكايات أرويها لنفسي.
= = =
كانت جدّتي رحمها الله، تراقب باب بيتها مثلي، رغم أنّها لم تعرف حزنا مثل حزني، فقد كانت امرأة تحبّ الحياة كثيرا ودائمة الابتسام والفرح وتشارك كلّ النّاس أفراحهم المتنوّعة. وكان باب بيتها معبرا للفرح، ومنه يدخل الناس بأخبارهم المتنوّعة. كان بيتها عامرا في كلّ الأوقات وبابه لا ينغلق إلاّ في ساعة متأخّرة من اللّيل حين تطمئنّ أنّ كلّ من في البيت قد نام. ولمّا تقدّمت بها السنّ وتفرّق أهل البيت الكبير على بيوتهم الخاصّة، حافظت على عادة فتح الباب والجلوس قبالته.
تقول جدّتي: ‹‹أرى وجه الله حين يُفتح الباب››. وكنت أصدّقها وأجلس إلى جانبها وأنتظر أن أرى وجه الله. ورأيت خلقا كثيرا يمرونّ أمام الباب المفتوح، ويدخلون منه، وراقبت معها الشّمس والرّيح والظّلال. ولا أدري إن كنت حينها قد رأيت وجه الله. ولكنّي كنت أطمئنّ حين أسمع تسابيح جدّتي في مجلسها قبالة الباب. كم تمنحني الثّقة!
وتعلّمت من مرافقة جدّتي ومجالستها كيف أثق بالله لأراه، كما تعلّمت منها تدبير أمور كثيرة منها عدّ الأيّام على طريقتها. وأعتقد أنّها كانت تعرف حبّي للأعداد والعدّ مع أنّني لم أخبرها.
وجدّتي تعرف كلّ المواعيد، ولا تخطئ في عدّدها والاستعداد لها. وكلّ مواعيدها ترتبط بمواسم الفلاحة، مع أنّها ليست فلاّحة، أو ترتبط بمواسم دينيّة كثيرة كانت تحفظ ترتيب قدومها إلى البيت. وكانت شديدة التعلّق بأدقّ تفاصيل المناسبة. ويسعدها ذلك، فتسعد الأطفال في هذه المناسبات ببعض الحلوى أو بهبة ماليّة، على بساطتها، تدخل الفرح إلى كلّ القلوب الصّغيرة. كان قلبها كبيرا ومفتوحا مثل باب بيتها وأكثر.
مرّة، دخلت عليها وكانت واقفة في فناء البيت ترفع يديها إلى السماء بالدّعاء وعيناها في اتّجاه الباب المفتوح مع ذلك أعتقد أنّها لم تلحظ دخولي منه لانشغالها بما هي فيه من تبتّل وابتهال. حين أتمّت دعاءها الجميل التفتت إليّ وقالت: ‹‹"المباركات خرجت››. وسيزورنا الخطّاف، وسيبني عشّه ككلّ سنة في سقيفة بيتنا››.
لم يخطئ طائر الخطّاف موعده، ودخل إلى بيت جدّتي واتّخذ زاوية بين الجدار وسقف السقيفة ليبني عشّه، وجدّتي تراقبه بفرح، بل تعدّ الأيّام لموعد خروج الفراخ من بيضها ومواعيد دروس طيرانها. وحين طار أوّل الفراخ دعت من كلّ قلبها ويداها ممدودتان إلى السّماء ونظرها معلّق في آخر شعاع للشّمس قبل اختفائها في الأفق:
‹‹يا ربّ: وكري وكري. وهذا البيت وكري فبارك لي فيه واجعله عامرا، وأعد إليه من طاروا منه سالمين، وارحم من رحلوا عنه، ويسّر لي ببركة الطّير القادم من بيتك زيارته ولا تحرمني من وجهك الكريم››.
يومها عرفت أنّ جدّتي، رحمها الله، وقد حجّت البيت، كانت ترى وجه الله في الطّير القادم من بعيد. وحين تحدّثت معها في ذلك، قالت: ‹‹نرى وجه الله في كلّ خلقه وفي كلّ تفاصيل حياتنا. نراه بقلوبنا لا بعيوننا››. ثمّ وضعت يمناها على صدري، حيث أشعر بالخفقان، وأضافت: ‹‹حين يكون هذا طاهرا ومفتوحا لخلقه ترين وجه الله››.
أغمضت عينيّ وتنفّست عميقا ورأيت وجه الله في التّفاصيل الصّغيرة لحكمة جدّتي، رحمها الله.
وها أنا أحاول مثل الطّفلة الّتي كانت، أن أتنفّس عميقا وأغمض عينيّ وأفتح قلبي لأرى وجه الله. ولكنّي لم أعد طفلة.
رحم الله جدّتي، لم أتعلّم براءتها. ونسيت عدّ الأيّام مثلها. فالأيّام في حسابي مختلطة ولم أعد أحفل بدخول الرّبيع أو خروج الفلاّحين لمواسم الجني المختلفة. ولم أعد أعرف العدّ ولا الأعداد، ولم أعد أميّز بين الأيّام، فكلّها سواء. وطائر الخطّاف لا يزور بيتي، أظنّه لا يعرفه.
= = =
موسم الخطّاف حلّ منذ بدأت العطلة القصيرة الّتي منحها لي الطّبيب على أمل تخفيف الحزن الّذي اجتاحني ومحاولة لتخفيف أوجاعي المتنوّعة. لم أخرج من البيت لأرى الطّائر القادم من بعيد يحمل ألوان الرّبيع، ولكنّي تشجّعت ووقفت عند الباب قريبا من الجدار الأبيض الّذي يسوّر البيت.
كان عدد من الطّيور يطوف في الفضاء وبعض آخر يحطّ على سلك الكهرباء القريب. ما زال يبحث عن مكان يبني فيه عشّه. رأيت أيضا حمام الجامع يطير نحو الصّومعة وحولها، وتمنّيت لو تحطّ حمامة وخطّاف في زاوية من زوايا بيتي. وضعت حبّا عند زاوية من الجدار الأبيض على أمل، وما زلت أرقب الفضاء من خلال الباب، أطمع أن تبعث الأطيار حياة أخرى لجدران البيت.
وانتبهت إلى نشيد الطّير السّاكن بين أغصان شجرة اليوكاليبتوس المطلّة من نافذة الغرفة. وبنيت عشّ الخطّاف في رأسي. وها أنا أنتظر أن يفقس البيض لأراقب طيران الفراخ الصّغيرة.
أراقب الطّيور وأنا قبالة الباب، والوجع نار تضطرم في كلّ عظامي يزيد من حزني ويقوّيه. تتحكّم فيه حركة زائدة حينا أو راحة زائدة حينا آخر، وحفنة الدّواء لم تعدّل الوجع ولا مزاجي ولا نومي. ومع مرور الأيّام صرت أقنع نفسي بضرورة التّعايش مع الوجع. ولكن كيف؟
يشهد الباب المفتوح أمامي كم مرّ من خلاله من الأفكار الّتي كتبتها على الجدار الأبيض وبها مقترحات للخروج من حالتيْ الحزن والوجع معا. ويشهد الخطّاف الّذي عشّش في رأسي كم ريشة ألصقتها بجناحيّ لأتعلّم الطّيران مع فراخه الّتي نقف بيضها وبدأ يكسوها الرّيش، وطمحت أن أطير معها وأخرج إلى الشّمس والهواء.
ويشهد الله ووجهه المبتسم في سماء روحي أنّني لا أرغب في الحزن ولا في الوجع. ولكنّني موجوعة وحزينة ورغبتي في الحياة صرعتها رغبة الفناء. وأنا بين الرّغبتين أحاول أن أتمسّك بالقليل الباقي من أنفاسي وأستعين بوجه الله المشرق في قلبي وثقتي في أنّه سيعينني. لذلك أحاول أن أساعد نفسي لأخرج ممّا أنا فيه، فاعتنيت أكثر بمواعيد الدّواء ودوّنت على الأوراق المواقيت حتّى لا أنسى الأيّام، وحتّى يزول الحزن ويخفّ الوجع وتبتعد عنّي الحفر السّوداء الّتي تجذبني إليها. وانزويت حتّى لا تنتقل عدوى الحزن إلى من أحبّهم. أقاوم الوجع ما استطعت ولكنّه عنيد، والحزن أشدّ عنادا منه.
= = =
بقيتُ أيّاما وأنا أنظر إلى الرّوزنامة وإلى يوم محدّد وضعته في دائرة كي لا أنساه. هو اليوم الّذي سأفتح فيه باب البيت وأخرج بعد عطلة دامت شهرين متتاليين لم أفتح فيهما باب البيت سوى مرّتين لأجل عيادة الطبيب. واحتجت إلى ثلاثة أيّام لأقنع نفسي بالخروج إلى الشّمس خاصّة بعد الأمطار الغزيرة الّتي هطلت لأيّام في غير موعدها. وكلّ يوم أحاول التدرّب على فتح الباب والخروج، ثمّ أعدل وأبرمجه لغد كاد أن لا يأتي.
كنت أفكّر في الطّريق الطّويلة. ثلاثمائة متر أظنّ. لم أفكّر في قياسها ولكن عادة خمس دقائق بخطى وئيدة توصلني إلى العمل. ويحسدني كثيرون على قرب بيتي من مكان عملي. ليتهم يعلمون كم هي بعيدة المسافة حين خرجت هذه المرّة.
وجدت الشّمس في انتظاري خلف الباب ورافقتني إلى العمل وأنا أبتسم للسّماء ولخطواتي المرتعشة على الطّريق المقفرة، والّتي كنّستها ريح لم تكن قويّة. وتوقّفت مرّات أنظر إلى الخطّاف يقيم مهرجان طيرانه في الفضاء الواسع فيرتفع إلى السّماء مرّة وينخفض حتّى يكاد يلامس الأرض مرّة أخرى. فحرّرت الخطاف الّذي في خاطري ليحتفل بجناحيه وأطلقته ليبني عشّه خارج رأسي.
وراقبت زرقة السّماء وبعض الغيمات المشرقة بأشعّة شمس الصّباح، وأنا أبتسم لوجه الله المشرق في سمائي، وروحي تلتقط زقزقة الطّيور في الطّريق الخالية من النّاس، وتشرع جناحيها مثل الخطّاف في زرقة الأفق الممتدّ.
- عصفور الخطّاف
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ