عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: محمد برادة - المغرب

كانوا يضحكون كالموج


ثلاث مرات في الأسبوع نجتمع بمنزل عباس بعد انصرافنا من المدرسة. تستقبلنا أم منانة بالترحاب والقبلات: "أولادي، تبارك الله على ولادي." نصعد إلى الغرفة المجاورة للسطح متأبطين دفاترنا وكتبنا. نتجرع الاتاي ونقضم الرغايف السخنة. يبدأ الاجتماع في شكل حوار لا ينتهي ليشمل كل الموضوعات: اعتقال المناضلين والزعماء، مقطعة السجاير والسلع الفرنسية، قدرة اللغة العربية على التعبير، أم كلثوم وعبد الوهاب، غراميات الأصدقاء مروية بالسند والحجة.

ذات يوم، عقب 20 غشت، اتخذ اجتماعنا طابعا جديا صارما. عباس يتكلم بحدة ويتساءل عن دورنا. لا تطول حيرتنا فقد كان يمتلك الحوار:

"غدا تنظم مظاهرة احتجاج على نفي الملك. الجميع سينزلون إلى الشارع ونحن كذلك. هل هناك اعتراض؟"

يطغى الحماس، ترتفع الأصوات محبذة، نشتم لفرنسيس وجنسه. نعلن استعدادنا للعمل ولما ينطوي عليه من مخاطرة.

ضحوة صباح من أصباح غشت تغمرنا ونحن نتقافز كالجراد بين صفوف المتظاهرين نعمم الشعارات ونضرب الهواء بقبضة أيدينا:

"يا فرنسا سيري في حالك، والمغرب ماشي ديالك."

نلتقي بمنافسينا من قسم الكبار يهدرون بأصواتهم وقد بدا أن لهم دورا في تنظيم المظاهرة. لا نرضى بالهزيمة. نرفع عباس فوق الأكتاف. تزغرد النساء ويتراجع عسكر الكوم أمام امتدت صفوف المتظاهرين. هل أستطيع أن اصف ذلك الحماس، وذلك الفخر الذي أحسسنا بهما ونحن عائدين إلى بيوتنا يسيل العرق فوق وجوهنا المحمرة، وتتعثر خطواتنا من شدة الإرهاق؟

فوجئنا بعد ذلك بتغيب عباس عن المدرسة طوال عدة أيام كل أسبوع. نحاصره بالأسئلة فينتحل الأعذار. وعندما نزوره بغتة قلما نجده. تستقبلنا أم منانة بنفس الترحاب، ونتحرز من أن نقول لها إن عباس لا يحضر بانتظام إلى المدرسة، بل إن استغرابنا زاد ونحن نسمعها تجيبنا ذات مرة بأن عباس "عنده اجتماع" وكأنها تتعجب لكوننا لم نذهب إلى نفس الاجتماع. كلما حضر إلى المدرسة سألنا عن المقرر الدراسي وعن الاستعداد للامتحان الثانوي، وعن أحاديث مسامر الحزب. نجيبه بنوع من الاعتزاز أن اللقاء مع المسامر كان مفيدا وهاما لأنه شرح لنا الخطوات المبذولة لإدراج قضية المغرب ضمن جدول الهيئة الأممية، والتصريحات الصادرة لإدانة الأعمال "الوحشية" للإدارة الاستعمارية. يهز رأسه مع ابتسامة ساخرة وكأنه ينظر إلينا من شاطئ آخر.

لم يستسغ أعضاء جماعتنا هذا السلوك الجدي لعباس. وبدأت مشاعر النفور تتشرب إلى نفوسنا، لكن كان يكفي أن يحضر إلى القسم لنستعيد ألفتنا وقوتنا، فتنطلق الضحكات، وتتضاعف جرأتنا ونحن نتحلق حول التلميذات في انتظار قدوم الأستاذ. تتبدد الحيرة والشكوك، ونسأل عن موعد المظاهرة المقبلة. يجيب في تعقل لا يناسب ما عهدناه فيه:

"عليكم أن تهتموا بالدروس لتنجحوا، فالامتحان على الأبواب."

نجحنا جميعا، وعباس أيضا. بدأ التساؤل عن إمكانية متابعة الدراسة بالعربية بعد مرحلة الشهادة الثانوية. لاح صيف سنة 1954 متجهما، متوترا، وشعرت كأن الأرض تسيح تحت أقدامنا.

ذهبت لتوديع عباس بمناسبة سفري خلال العطلة، ودار بيننا الحوار التالي:

"سررت لنجاحك رغم أنك لم تواظب على الحضور."

"ماذا سنفعل بهذه الشهادة؟ ننتظر أن يهدي الله فرنسا لتعطينا الاستقلال ونكمل تعليمنا بالعربية؟"

"هذا مستبعد، بل اتفقنا على السفر إلى المشرق. هل غيرت رأيك؟"

"نعم. لم اعد أرى جدوى من ذلك. لن نحرر الوطن بالشهادات."

"لكننا صغار لم نتجاوز الخامسة العشرة."

"اسمع: لا دخل للسن فيما نتحدث. أنا من عائلة فقيرة، وأنت كذلك. لا تملأ رأسك بالأوهام. سأبقى هنا. يهمني أن أشارك الآخرين في البحث عن طريقة لمواجهة المستعمر. تلك هي المشكلة."

"لكنك ستلعب دورا أهم كمتخرج من الجامعة عند تشييد الاستقلال."

"يهمني الحاضر أكثر. ما تقوله ليس مضمونا إذا لم يكن هناك من يحقق استمرارية الفعل."

"هناك الجماهير. أنت تعرف ذلك أكثر مني."

"أتظن أنها ستظل تثق فينا ونحن نعللها بأن الفرج قريب، وبأن صورة الملك انتقلت إلى صفحة القمر؟"

"ماذا إذن؟ ماذا يقول الزعماء؟"

"لا شيء، أو كل شيء. إنهم لم يهيؤونا لما يتوجب أن نفعله الآن. علينا أن نبتدع فعلا ملائما للمرحلة."

يتكلم كأنه رجل محنك، كأنه ليس من سننا، كأنه ليس هو الذي يعشق اللعب والضحك ومغازلة البنات. حاولت أن أرتقي إلى نفس الأجواء التي كان يحلق فيها وعيه وهو يحاورني."

"اسمع عباس، لا بد أن ينهزم الاستعمار."

لم يرد. اكتفى بابتسامة ساخرة. كان يبدو متعجلا مشدودا إلى عالم مغاير لعالم الانتظار والتوقع الذي كنت أغوص فيه.


مقطع من قصة بعنوان كانوا يضحكون كالموج منشورة في مجموعة قصصية بعنوان سلخ الجلد. الناشر: دار الآداب - لبنان (1979)، الطبعة الأولى.

JPEG - 38.7 كيليبايت
غلاف مجموعة قصصية
D 1 آب (أغسطس) 2006     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات