مختارات: فاطمة خليل حمد - فلسطين
امرأة ووجه من أريحا
لأزمان ليس بالقليلة، وجدتني أضيع في وجه عبير هذا الوجه الطيب الدافئ. وجه أشهى من برتقالة. وأكثر وداعة من مطر ناعم. وربما، ربما أجمل من شاطئ يافا. وتمنيت لو استحم في بريق عينيه النجمتين.
التقيته بمحض صدفة عابرة. لم أسأله عن اسمه. كنت وكأنني أعرفه منذ زمن ليس بالقريب. امتد جسر عريض بين عيني وعينيه، وبين قلبي وقلبه. وسمعت صوتين يتناغمان في صوت واحد: صوت عذب ما عزفته آلة أو يدان، بل موسقته الطبيعةـ والطبيعة وحدها هي القادرة على إبداع مثل هذه الأنغام التي تسقينا إياها يد الحب لتفترس العين والخد والفؤاد.
نعم، التقيته محض صدفة أو محض قدر. لم يخطر لي ببال، كما أنه لم يخطر ببال أحد، أن هذا الالتقاء سيكون مطرا وقدرا، وسيكون هذا الوجه القمحي قبلتي ونبعي الطاهر، أشرب منه وأشرب ولما أرتو. وهل هناك من يرتوي من ماء كوثر الفردوس؟
لم يكن وحده—كان هناك آخرون يجلسون متكئين على الأرائك أمامي وبجانبي. كانوا يجلسون ولا يجلسون، وينطقون ولا يتكلمون. كنا جماعة وكنا اثنين ولم يكن الشيطان ثالثنا—كانت رحابة المكان تؤنسني، والهواء النقي ينعش صدري ويلون خدي بالأحمر المعافى، وسكنتني ريح صبا تحمل ريّا القرنفل، عطرت كياني ووجداني. امتد أمامي حقل قمح ضعت في ذهب سنابله، ورأيت أبي وهو يصنع من السنابل أغمارا تمتلئ سنابلها بالحب الناضج الأشقر، ويلوح لي أن أذهب إليه وسط هذا المرج الذهبي. كان يفتح ذراعيه وصدره لاستقبالي. ورأيت نفسي وقد اختفت قامتي الصغيرة بين السنابل العالية.
أقترب من أبي. يبتسم لي. يريني غمر القمح الخصيب. يضعه جانبا ثم يرفعني بين يديه القويتين الممتلئتين بالخير. التصق بوجهه وألوذ إلى دفء حضنه، ويضمني إليه في حنان. يا ألله! وجه أبي ووجه من التقيت صدفة سنبلتان متماثلتان: العينان اللامعتان، الأسنان المفروقة، الوجه الممتلئ بالبيادر، اليدان القويتان ترفعان إلى أعلى عليين حيث مواسم الخير والأعياد دائما، هذا شأنهما وتبارك من شأن. حتى فارق السن لم أره ذلك الفارق، رغم أن أبي كان في الستين، وكان من التقيت (لا أدري ماذا أسميه: صديقي، أخي، رفيقي، حبيبي، أبي) كان في العشرين. كان في العمر الجميل، مع أني لا أضع عمرا للعمر الجميل، فليس للجمال فصل. كل الفصول جميلة ورائعة، تصنع جميعها تفاحة العام، وتترتب الفصول لتشكل هذا الوجود الساحر: يعطيها الخريف البذرة، والشتاء يمنحها الحضن الدافئ، والربيع يعطيها الولادة، والصيف يهبها إكسير العصير الحلو السائغ.
كان صديقي كذلك. فيه مزايا الفصول جميعا: فيه حنان أبي، ورقة أمي وعطفها، وحماية أخي، وانس صديقي، ووداعة طفلي. كان بين الجالسين ملكهم أو ملاكهم، يتفوق عليهم بميزته وان كان معهم ومنهم قريبا بعطفه بعيدا بعزلة كشعاع الشمس، يدفئ وينير وهو في الوقت نفسه عزيز لا يطال. لا أنكر أنني شعرت براحة لم اعهدها، إن جاز لي التعبير، فهو في حال الحضور الدائم، إن في الحضور أو في الغياب، حضور يدفع إلى الاسترخاء والشعور بالأمن والطمأنينة، فهذه الابتسامة اللامعة تمسح عني كل أثر للتوتر والخوف، وتقول لي إن الدنيا ما زالت بخير، وإن الصدر قريب من الصدر يمنح الأسراء اللطيفة ويمنع الشيطان من الدخول ويتيح الفرصة للورد والعطر والنبتة.
آه يا أيها الوجه الطيب. يا من احتلني كما يحتل الليل غابة. يا وجه أخي، يا وجه حبيبي، يا ابتسامة أبي، يا سنبل القمح الأسمر، ويا امتداد النخيل العالي صاعدا في سماء العراق، كم أحسد أريحا لأنها تضمك ضمة أم لطفلها، وتقبل يديه الصغيرتين المليئتين بزهر البرتقال، وتمسح جبينه الذي يخفي وراءه كل روائح الخير والمسك.
قالوا لي بعد قراءة ما كتبته إنني امرأة غير متزنة. سألتهم: "ما هو الاتزان؟" احتاروا وأجابوا بما ينم عن أدب مصطنع وعن كذب وادعاء. كل ما في الأمر أنني ركبت فرسي وحاولت اللحاق بهذا الفارس الشهم الذي يبذر الحب في كل مكان يذهب إليه. أنت طلع النخيل وحقول البندورة والكوسا والملوخية والفلفل الحار. رأيت العيون الحلوة. أحببت هذه العيون التي فجر الحنان واللمعان فيها أنهارا من العسل والحب الصادق، عيونا مضيئة كمشمش نيسان وورد أيار.
وأنتظر طيفك أيها الحاضر الغائب، فلا تدعني أرجوك، وخذ هذا القمح من يدي وأصنع منه أرغفة للفقراء، واعجن من نور عينيك بندقية حرية وشرف، واقتل بها نفسوهم القبيحة التي تحاول إن تجعل من حبنا قصة قذرة، واغزل من حنانك غيمة ماطرة تغسل بها الحزن المتمكن المزمن في دمي.
للأسف لم يطل بقائي في هذه المدينة المليئة بطعم البلح. كان عليّ أن أنصرف. لم أحزن لافتراقي لأنه ليس افتراقا، بل هو وحدة وانصهار: لقد جئت بمفردي وعدت معه.
قصة منشورة ضمن مجموعة قصصية بعنوان البكاء على زهرة القمر، لفاطمة خليل حمد. الناشر: مركز اوغاريت الثقافي، رام الله-فلسطين (2003)، ص 25-28.
- غلاف: البكاء على زهرة القمر
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي