عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

وردة باللون الاحمر


"جفْنُهُ علّم الغزل" تنساب كلمات محمد عبد الوهاب كالجدول من الراديو صباحاً. يستعذبها قلبها، تدندنها كل لحظة بصوتٍ متعال، وهي تقوم ببعض التمرينات الرياضية الخاصة بالرشاقة، ترفع صوت الراديو دون حذر، ما من أحدٍ يسمعها الآن وهي تغني ويوبّخُها: "الحيطان لها آذان، ماذا سيقول عنكِ الجيران"، ترفع صوتَ الراديو بعد أن أخرجته من كيسهِ الورقيّ السميك، لقد ظلّ حبيساً بداخله لسنواتٍ طوال، تُمزّقُ الكيس الورقيّ السميك، تنقل الراديو من خزانة غرفةِ نومها إلى غرفةِ المعيشة، تضعه على الرفّ الرخاميّ بعد ما ازاحت الصور العابسة. بدا شكله أجمل بعد أن ابصر النور.

تقف أمام المرآة المذهّبة الطويلة، تتمايل بمنامة وردية اللون، شفافة، قصيرة، تشي بقامة بيضاء طويلة، لا تزال تحتفظ بنضارتها، تتأمل وجنتيها المتوردتين كما المنامة الوردية التي إبتاعتها مؤخراً من متجر "العروس".

تتمايل بغنج وهي ترفع شعرها الى الأعلى ثم تدعه ينسدل برفق قوف كتفيها. تداعب الخصلات الذهبية التي أعادت إليها الحياة بعد أن كانت قد دفنتها دهراً مهملة، معقوصة فوق رأسها، تقرّبُ خصلةً من شعرها المصبوغ حديثاً إلى أنفها، تقرّبها من عينيها، لونه الآن يليق بلون عينيها العسليتين. كم هما جميلتان بدون النظّارة!

تحضّر القهوة، تضيف لها السكر على غير عادة، تجهّز فنجانين على الطاولة وكوب ماء، تشرب من الأول على عجل، وترشف من الآخر بتمهّل، تراقب الخطوط المتعرجة والأشكال الغريبة في قلب الفنجان الأول، تغرق التفكير فيها، علها تستشف أملاً أو تختلس سراً من المجهول.

تغمض عينيها قليلاً، تحلم بشيء ما، تمشي نحو الشرفة، تفتح الباب ببطء، تشم عطر الصباح، تتركه نصف مفتوح، وتسدل الستائر. العجوز المشاكس في المبنى المقابل، يظهر على شرفته مسروراً، يسقي وروده، ويغني لها. لا تعره إهتماماً، معظم الجيران يقتنون الورود ويعتنون بها. ذات مرّة، أحضرت وروداً بيضاء إلى البيت، غضب والدها منها، وفي اليوم التالي، إقتلع الورود البيضاء وزرع بدلاً منها فلفلاً حرّيفاً. قال لها غير متأثر بعلامات الحزن البادية على وجهها "الورود لا فائدة منها، لن تجلب سوى أنظار الطامعين إلى بيتنا". ثم القى بها في ركن المهملات. تتنفس بصعوبة كاتمة سيلاً من الدمع، تدخل غرفة نومها، تبدّل ملابسها، تختار ثوباً أحمر اللون مزركشا بورودٍ بيضاء، تختاره من بين اثواب حمراء كثيرة جديدة، متعددة الأشكال.

تُخرِجُ من الغرفة أكياسا ضخمة، تزدحم بملابس سوداء كالحة ستغادر حياتها من الآن فصاعداً، لن تعطيها لأحد كما كانت تأمرها والدتها دائماً، سوف تلقي بالأكياس في المحرقة. تلقي نظرة طويلة بعض الشيء إلى باب الغرفة المجاورة المظلمة الغارقة في الصمت، تتنهّد وتمضي، تتفقد نفسها بالثوب الأحمر الجديد، ما أبهاه! لِمَ كان والداها يكرهان لها هذا اللون؟ "إنه لون شيطاني، لون الفتنة والطيش"، تشعر الآن بشيء من الفرح والدفء يتدفق إلى كل وجدانها، تختبر هذا الشعور للمرة الأولى في حياتها. تطيل النظر إلى المرآة قبل أن تخرج للعمل، تلمس الراديو الذي يتصدّر غرفة المعيشة والذي وضعته مكان الصور العابسة. تقرأ لهما الفاتحة وتدعو لهما بالرحمة، تخرج من البيت تحمل جزداناً أحمر.

تلقي تحية الصباح على الجيران المنتظرين وصول المصعد، لا تنتظره، أضاعت عمراً طويلاً في الإنتظار، فلينتظره القاصرون والمرضى العاجزون، تدعهم والدهشة تستعلي وجوههم، تستقل الدرج الهوينى، تطرق بكعبها العالي الدرج، درجة درجة، تلتقي بأولاد الجيران فقط الشبان منهم والشابات، جميعهم حيّوها بإستغراب لم يمنعهم من تقديرها:

"صباح الخير خالة وردة".

"صباح الخير آنسة وردة".

تتابع نزول الدرج وهي تدندن أغنية الصباح.

D 27 كانون الأول (ديسمبر) 2011     A فنار عبد الغني     C 3 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

تهنئة بالعام الجديد

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 67: هارد لك (*) يا شباب

لا وقت للحلم هنا

الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي