د. أصيل الشابي - تونس
مجلّة "عود الندّ" وجهد التنوير الثقافي
يُعدّ اقتراب صدور العدد 150 من مجلّة" عود الندّ" الثقافيّة اللندنيّة حدثا مهمّا، ويثير انتباهنا، في هذا الصدد، قدرة المجلّة على الاستمراريّة بمواصفات عالية ومراجعة ضافية بالرغم من غياب الدعم المادي واضطلاع رئيس تحريرها وناشرها الدكتور عدلي الهوّاري بمهام أسرة التحرير وهيئتها الاستشاريّة في المجلاّت الثقافيّة الأخرى. وقد استطاعت المجلّة بالارتكاز على اجتهاد الناشر ومثابرته أن تضمن تطبيق معايير جودة عالية فيما يتعلّق بنشر المواد، وهو أمر يمكن التأكّد منه بالعودة إلى أعداد المجلّة ابتداء من العدد الأوّل في مطلع شهر جوان 2006، وهذه ميزة تفتقر إليها مجلاّت ثقافية عديدة رغم شهرتها وإمكاناتها الماديّة وإشراف الدول عليها وتخصيص ميزانيات ضخمة لتسييرها، كما تفتقر إليها الكتب المحكّمة التي تتضمّن بحوثا علميّة.
تتأكّد ميزة المجلّة الثقافيّة من خلال إتاحتها للقرّاء على شبكة النت بالمجّان وخلوّها من الإشهار، فهي مجلّة غير ربحيّة تعمل على الإفادة من تطوّر العالم الرقمي والنشر الإلكتروني للوصول إلى القرّاء والتواصل معهم، وهي تستند إلى تصوّر أعلنه الدكتور عدلي الهوّاري في كتابه" المجلاّت الثقافيّة الرقميّة: تجربة "عود الند" فيه حرص على استخدام لغة عربيّة فصحى معاصرة تمكّن من إثراء الثقافة العربيّة مغربا ومشرقا وجذب قرّاء العربيّة أينما كانوا، وتتّضح أبعاد هذا التصوّر في قوله:" لقد أدّت المجلّة دورها في الترويج لرفع مستوى الثقافة، وبذلت من أجل ذلك جهودا كبيرة ومتواصلة طيلة عقد من الزمن. ومهمّة من هذا القبيل مسؤوليّة ثقافيّة اجتماعيّة وتربويّة جماعيّة، فإذا لم تتضافر الجهود ويتحمّل الأفراد والمؤسّسات جزءا من المسؤوليّة، يصبح الجهد الشخصي المبذول لا مردود منه يشجّع على الاستمرار" ص95.
إنّ العمل الثقافي المثمر مشروط وفق ما سبق بالمسؤوليّة الفرديّة التي تتجسّد في مثقّف يبادر بفكره وجهده ويطرح مشروعا واضح المعالم والأهداف ويتعهّده وبالمسؤوليّة الملقاة على عاتق المؤسّسة الثقافيّة الرسميّة، ولن يكون هذا العمل مؤثّرا إلا متى تضافرت فيه الأبعاد الاجتماعيّة والتربويّة، ذلك أنّه لابد للمثقّف من إرساء هاته الروابط التي تظهر فيها علاقته بالمجتمع إن اتّفاقا أو اختلافا، لابد للمثقّف من أن يحرّك الرّاكد ويثير التعليقات والردود والمراجعات التي تطال الحاضر والماضي، لابد للمثقّف من أن يضرب في العظم بقوّة بعلم ودراية أو بخيال ملهم تتفتّق عنه الكتابة الإبداعيّة. ولا ينفصل هذا عن الجانب التربوي الذي يمكن رصده في المساعدة على تهذيب الذائقة والارتقاء بها، وهي معادلة صعبة وعسيرة تضع أمام أيّ مجلّة ثقافيّة تحدّيا كبيرا في ظل تشابك الثقافات في عالم مفتوح واختلاف القيم اختلافا بل تضاربها الصّارخ وتهديد الخصوصيّة الثقافيّة والهويّة الوطنيّة وتغليب الإيديولوجيا بأحكامها المسبقة ممّا يحوّل الحوار والمثاقفة إلى مجرّد وهم ويقتلع قيم التسامح من جذورها ويرمي بها بعيدا.
يُتيح زيارة موقع المجلّة الإفادة من مداخل متكاملة كالاطّلاع على العدد الجديد أو العودة إلى الأرشيف أو الوعي بمعلومات عن سياسة النشر أو كتابة تعليقات أو أخيرا الإفادة من أساسيات توثيق وأحكام الطباعة، وهي مداخل عمليّة تضمن حسن التواصل بين القرّاء وموقع المجلّة بوصفه موقعا ثقافيّا تعليميّا لا يهدف إلى الربح ويزوّد هؤلاء القرّاء بمهارات أساسيّة ترفع مستويات الكتابة والبحث. ويلاحظ المتابع للمجلّة أنّ ناشرها حريص على تقويم المجلّة، وهو جهد عقلاني يظهر بصفة واضحة في كتابه المجلاّت الثقافيّة الرقميّة: تجربة عود الند 2006 ـــ 2019 حيث وضّح خيارات عديدة أخذ بها كتجنّب نشر الشعر والتفرّغ للنثر بما في ذلك البحوث التي تدور على الشعر والحصول على رقم تصنيف دولي ISSN وتحييد المواضيع الدينيّة والسياسيّة والاهتمام بمساعدة المبتدئين واختيار العربيّة الفصحى لتوسيع قاعدة القرّاء باعتبارها لغة مشتركة في العالم العربي كالإنجليزيّة التي تقرأ في جميع الدول الناطقة بها( 32) وإعادة نشر مقتطفات من مقالات مثيرة ومميّزة بعمقها( 42) وتقصّي آراء الكتّاب في المجلّة في 2010 و2012 و2016 ورفض فكرة المجلّة المحكّمة حرصا على تقديم الفرصة للمواهب والساعين إلى نشر النصّ البكر(67)، إضافة إلى مقاومة ظاهرة الغشّ والتصدّي لها بكلّ قوّة من خلال حجب المادة المسروقة وتحميل المتورّط المسؤوليّة الأخلاقيّة وحرمانه من النشر في المجلّة بما يعيد الاعتبار للأمانة العلميّة التي لا يمكن تخيّل تطوّر العمل الثقافي في غيابها.
أعتقد أنّ تجربة "عود الندّ" مميّزة جدّا للاعتبارات السابقة ولاعتبارات أخرى تتعلّق بمحتواها انطلاقا من الافتتاحيّة التي يفحص فيها الناشر مسألة لافتة كالذكاء الاصطناعي أو المركزيّة الغربيّة أو علاقة المرأة بالسلام أو دور النشر والجوائز أو تقييم الشعراء والأدباء أو مسألة الديمقراطيّة والحاجة الماسّة إلى المكتبات الرقميّة في عالمنا اليوم أو الفنّ والأدب في الصراع الإيديولوجي، إنّها مقالات جاذبة بفضل دقّتها وموضوعيتها، إذ ترتكز على معطيات أصيلة يمكن للقرّاء التأكّد منها وتستأنس بمنطق المقارنة لبناء الرأي وفق رؤية نقديّة ترفض التمجيد والتنميط وتشجّع في مقابل ذلك على الدقّة واتّساق الفكر. ومن الجيّد أن جمع الناشر افتتاحياته في كتاب بعنوان عود الندّ: افتتاحيات ومقالات في سنة 2021 في أكثر من جزء واحد لأن هاته المقالات تبعث على موقف مثقّف مطّلع وتحثّ على التفكير وتكوين آراء ونقاش الأفكار هنا وهناك بجديّة ووعي.
تحيلنا كتابة الافتتاحيّة بمهادها الفكري إلى كتب ألّفها الناشر وهي عديدة كــ" بيروت 1982: اليوم« ي» الاتّصالات الفلسطينيّة ـــ الأمريكيّة أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت" 2018 و" تقييم الديمقراطيّة في الأردن 1990 ــــ 2010" 2018 و" المجلاّت الثقافيّة الرقميّة تجربة عود الندّ 2006 ـــ 2019" 2019 و" الديمقراطيّة والإسلام في الأردن: 1990 ـــ 2010" 2018 ففيها اهتمام بما شهده العالم العربي من تغيّرات شملت الجوانب السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وأثّرت تأثيرا بليغا في واقع الناس. ويُعد كتاب" بيروت 1982" وثيقة رفيعة عن خروج القوّات الثورة الفلسطينيّة من بيوت في سنة 1982 من خلال المراسلات بين الفلسطينيين والأمريكيين قام الدكتور عدلي الهوّاري بتعريبها وإتاحتها للباحثين للنظر فيها وقراءة ما حدث. ولا بد من الانتباه إلى اهتمام مجلّة عود الندّ بتقديم الإصدارات الجديدة التي تصلها وتقديم الناشر لأعداد المجلّة في الصحافة العربيّة ممّا يسمح بإعطاء فكرة عن المحتوى المنشور لجمهور واسع يقرأ هاته الصحيفة أو تلك. تتّضح ههنا العلاقة المتينة على موقع عود الندّ بين البعدين الثقافي والفكري على غرار العلاقة بين البعدين الثقافي والتربوي لتكون للكتابة في جملتها هاته الزوايا المتكاملة والمتفاعلة، ويتألف بفضل هذا الترابط جهد التنوير الثقافي.
هناك تحديّات كبيرة يواجهها العمل الثقافي العربي اليوم وتواجهها أيّ مجلّة ثقافيّة، ومن أبرز هذه التحدّيات تراجع قرّاء المادة الثقافيّة المكتوبة ورقيّة ورقميّة، وتحوّلهم بقوّة إلى الصورة. إنّ متابعة تعلّق جمهور المتلقّين يمكّننا من استنتاج أنّهم مصابون بالإدمان على الصورة والوقوع تحت تأثيرها بشكل مقلق، بل اتّضح أنّ الجمهور يكون في سياقات التوظيف الإيديولوجي عرضة لما يُعرف بالبرمجة العصبيّة، فيتمّ تعبئته لخدمة فكرة بعينها لا ينتبه لأبعادها ولا يعلم أساسها، ويكون هدفا للكثير من المغالطات محليّا وعالميّا في ظلّ عالم افتراضي مفتوح على نزعات وتوجّهات لا محدودة.
ويمثّل تدنّي مستوى التعليم في البلاد العربيّة والفشل الدّراسي بين الشباب ومحدوديّة ثقافتهم وقلّة مهاراتهم الكتابيّة تحدّيا محوريّا، فكيف يمكن التواصل مع هؤلاء حتّى نضمن فاعليّة الكلمة المكتوبة في بناء الإنسان ومناقشته وتبادل الآراء معه في مواضيع تهمّه بصفة خاصة. إنّ من بين هؤلاء من يعبّر عن نفسه بعربيّة مكتوبة بأحرف لاتينيّة ومنهم من يلجأ إلى العاميّة ومنهم من يستخدم رموزا تنوب عن الكلمات ليتواصل مع غيره على شبكة الأنترنيت، ومنهم من ينحصر تواصله مع غيره في الألعاب الإلكترونيّة في إطار يُواجه فيه هذا الغايمر ـــــ اللاّعب غيره من اللاّعبين بعدّة رهيبة من التقنيات وعزلة عن العالم الواقعي الخارجي. ومن التحدّيات انطلاق النخب في تفكيرها من أيديولوجيات تعتنقها وتريد تجسيدها.
ويبقى الشباب المتعلّم هو الأمل في تحسين ظروف الحياة والارتقاء بالفكر وتنمية الثقافة في عالم يشهد تغيّرات مزلزلة ويوشك أن ينتقل إلى عالم افتراضي أعمق موسوم بالمراهنة على الذكاء الاصطناعي، لذا فإنّ توجّه مجلّة "عود الندّ" الثقافيّة الرقميّة إلى هؤلاء بمحتوى ثقافي متنوّع وثريّ وحرصها على متابعة خطواتهم الأولى بتقدير نصوصهم وإبداعهم وفكرهم وربطهم بسياقات العصر من خلال المقالات والملفّات كملف كورونا على سبيل المثال لا الحصر وتذكيرهم بما نشر في الماضي، وكان مؤثّرا، يُعدّ بحق عملا ثقافيّا تنويريّا يجمع بين توظيف التكنولوجيا الرقميّة ومراعاة قيمة الفرد الباحث والمبدع والقارئ والمعلّق.
◄ أصيل الشابي
▼ موضوعاتي