ياقوت بلحر - الجزائر
خصوصية الشكل السردي في رواية...
خصوصية الشكل السردي في رواية "مرايا متشظية" لعبد الملك (*) مرتاض
(*): ناقد جزائري.الرواية صادرة عام 2000 عن دار هومة، الجزائر.
ياقوت بلحر: أستاذة مساعدة بكلية الآداب، جامعة وهران، الجزائر.
تعد الرواية مخبرا لغويا أبدعه مخيال كاتب ما في إطار سردي يجمع بين الحدث والشخصية والعلاقات المجتمعية، فهي تتخذ "لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل أمام القارئ في ألف شكل"[1]، وهي تتقدم إلينا على لسان سارد، لأن نقل الوقائع وتقديمها في قالب لغوي يستوجب حضور هيئة تلفظية، هي شخصية السارد، التي تقوم بالتعبير عن هذه الأفعال والأحداث العاجزة عن التعبير عن نفسها بنفسها، ومن تم يختلف السارد عن الكاتب إذ "هناك مسافة تفصل بين الروائي والراوي، فهذا لا يساوي ذاك، إذ ان الراوي قناع من الأقنعة العديدة التي يتستر وراءها الروائي لتقديم عمله"[2] مم يؤكد أن عالم السرد يشكل نسقا خاصا منفصلا عن عالم التجربة الحية، فـ"الكاتب/المبدع يعيش حالة خاصة بلا ريب، وهو نفسه لحظة الكتابة فأما خارج الكتابة فهو إنسان آخر"[3].
إذن، الكاتب/المبدع يشتغل على اللغة، فيمارس بذلك نوعا من الاختراق والتخريب "، ذلك أن اللغة حتى من حيث هي نظام معرضة كي تعيش بفعل الاختراق والتخريب الدائمين، ولكن في حدود ما يسمح لها بأن تبقى أرضا للتفاهم، فالتخريب لا يلغي مساحة الاصطلاح، ولا يلغي حركة الانتظام في تبدلها، بل هو حياة اللغة وتطورها"[4]، ومن تم لم يعد اختراق اللغة يمارس لذاته فحسب، إذ "تمكنت الرواية من تخطي حبسة التقليد التي لازمت طفولتها وتجاوزت ذلك إلى نوع لا يطرح نفسه كجملة من النصوص الشفافة التي تعرض لمجموعة من الأحداث التي تشكل الحكاية، إنما شغلت بذاتها والعالم الذي تقوم بتمثيله"[5].
وهذا ما سنحاول استقراءه في الخطوات التالية، حيث تطالعنا الرواية بمفاتيح أولية يطلق عليها المناص الخارجي الذي يستبق الأحداث، فيدل القارئ منذ البدء على بعض مما سيحصل، فهو قد يشير إلى الإطار الذي ستجري فيه الأحداث، أو يقدم صورة عن الجو العام للرواية أو القصة، سواء من خلال العنوان أو الافتتاحية أو النصوص الملحقة.
1- العنوان:
إن أول عتبة يخطوها القارئ نحو النص هي عنوانه، فهو بوابة العبور التي تمنح قارئها فتنة كشف الكتاب وأغواره، حيث إن أول تفاعل للقارئ مع النص يبدأ من عنوانه. فعنوان "مرايا متشظية" مثلا يتلازم فيه الجانب المادي والجانب المعنوي إذ يلازم الجانب الأول منه فعل التصوير فيما يلازم الجانب الثاني فعل التشظي حيث:
(رسم توضيحي)
ثانيا: الإهداء
قبل أن نقترب من الإهداء يسرقنا تاريخ طبع الرواية، فعندما نقرأ أنها طبعت عام 2001، قد نفهم بشكل من الأشكال أن جزائر التسعينيات ستكون مسرحا لأحداث هذا العمل الأدبي، وهذا ما سيؤكده الإهداء اللاحق، والذي فحواه:
إليهم
إلى الذين كانوا يُغتالون ولا يدرون بأي ذنب كانوا يُغتالون؟
إلى الذين كانوا يَغتالون ولا يدرون لأي علة كانوا يَغتالون؟
لأولئك وهؤلاء أحكي، لكن ماذا أحكي وأقول؟
وقد يتضح من خلال هذه الأسطر نموذجين اثنين(الجاني/الضحية) تربط بينهما "علاقة عداء" يبقى مصدرها مجهولا. فيتجسد بذلك نوع من الاخرية التي تؤسس لها ثقافة الاغتيال، ليخرج إلينا بعد ذلك صوت خفي يفصح عن رغبته في الحكي، والذي يتلبس صورة الشيخ الذي يصفه لنا الكاتب في فاتحة الرواية "الشيخ يتهدج صوته، تطول لحيته البيضاء. يغمض عينيه. يسترجع أنفاسه. كأنه كان يحكي لأهل الحلقة منذ دهر طويل. اجهده التعب. يسترسل وكأنه يهمس: ..."[6].
لكن ماذا سيسرد لنا هذا الشيخ؟ وماذا ستعكس لنا تلك المرايا المتشظية؟ وهل للمنكسر أن يعكس حقيقة واقعة؟ وكأني بالكاتب يقول: سأحاول أن أنبئكم بالذي جرى، لكن لست أكيدا من حقيقة ما جرى، ولا من حقيقة ما سأقول، فالقلم يحمله قلب منكسر، وهو إن يحاول نقل هذا الواقع المنكسر، فلأنه دوره كأديب من حيث أن الأدب نقل لواقع اجتماعي في شكل خطابي، فهذه الانكسارية التي يطل علينا بها الكاتب، ليست حصرا عليه وحده، وإنما هي خصوصية الجنس الذي تنتمي إليه الرواية، إذهي تلتحم بغيرها من الكتابات التي سعت إلى تجسيد مأساة الجزائر في سنينها الحمراء، في إطار ما أدخل عليه بـ "أدب المحنة"، الذي يعد خصوصية تلبست بالرواية الجزائرية، فبعد أن تواجدت على الساحة الأدبية العربية الرواية الحضارية، ثم رواية الصراع العربي الصهيوني، جاءت روايات المحنة لتصبغ الكتابة الروائية الجزائرية بخصوصية فنية ومجتمعية خاصة، فهذا الجنس الأدبي حاول تصوير المأساة الجزائرية خلال العشرية السوداء، إذ ظهرت كتابات عدة ؛ منها ما صنف في إطار الأدب الاستعجالي، في حين رقت كتابات أخرى إلى تصوير عمق المحنة.
ومن تم نجد في النص الجزائري ما يسمى بأدب الأزمة، أدب العشرية الحمراء، الأدب الاستعجالي، فهل استطاع أدب المحنة أن ينجز أدبا قد لا يغيب فيه الجانب الفني؟ أم أضحى النص الجزائري ضحية الواقع المعيش بدل أن يعاينه بجمالية فنية؟ هل يمكن اعتبار ادب المحنة مساهمة في تجديد الحقل الأدبي الجزائري؟ وهل ادب المحنة تصنيف جديد؟ ام هو ادب تنفيسي عن المحنة سيما وان اللون الذي ينفعل مع اللحظة هو الشعر، أما النص السردي فيكون بعد انتهاء اللحظة؟ فماذا عن لغة إنتاج أدب المحنة، إذا كان أدب المحنة يراوح مكانه ويثير مسائل حول هويته لتظل لوحة المحنة عاكسة لمحنة الإرهاب والعنف؟.... وتبقى التساؤلات تتخبط في مد وجزر في إطار زئبقية "نص المحنة"، فهل المحنة محنة نص أم محنة معنى؟ وما علاقة المحنة بالكتابة الأسطورية؟
ثالثا: الفاتحة:
بعد العنوان يأتي دور الفاتحة فإما أن تشد القارئ إليها، وإما أن تتركه يفلت منها، سيما وأن الذي يشد انتباه القارئ واهتمامه بعد العنوان، هو شكل البداية التي يتخذها النص لانطلاقه الخطي، فيواصل على إثرها القارئ قراءة النص، أو يحجم عنه بعد أسطر قليل.
وإذا عدنا إلى فاتحة روايتنا، نجد الشيخ–الراوي يحاول أن يثبت صحة ما جاء به، وكأنه سيحكي غريبة من الغرائب، أو أمرا لا يحدث إلا في عالم العجائب
"اسمعوا، يا أهل الحلقة الأبرار. حدثنا الراوي الموثوق، عن رواة موثوقين، أنه ثبت لديهم باليقين، والقطع أن هذه الحكاية التي سأحكي لكم كانت متوارثة متواترة عند أهل جبل قاف فكان الشيوخ يحكونها في سهراتهم البديعة على ضفاف نهر الخمر التي لا تسكن، وكانوا يعجبون منها غاية العجب"[7].
ثم يصف لنا مكانا كان في قديم الزمان، وكأنه ماض وانتهى، وليس له عودة إلا في الأذهان "كان في قديم الزمان ارض خصيبة عجيبة، لا تنتهي آفاقها؛ لا تعرف حدودها"[8].
ويصف لنا تلك الأرض الخصيب الذين لم يعرفوا يوما عرق العمل، ولا ظمأ البطن، ويعيشون في غدق الحب، و كأن ما آلوا إليه من دمار ليس إلا نتيجة الفراغ وفيض البذخ "والناس لم يكونوا يزرعون. لم يكونوا يعملون شيئا"[9].
ومع ذلك لم يظهر الشقاق إلا بظهور عفريت من الجن، وكأن العنف دخيل على الهوية العربية، ولم يعرف إلا حديثا، من جنس لا يمت إليها بصلة، ولا ذرة تشابه "ظلوا على ذلك قرونا...إلى أن جاءهم عفريت من الجن"[10].
وهذا الجن توارث الصنعة –صنعة القتل- إذ ليس بجديد عليها "فأول ما جاءت إليه دناصير الغابة ذبحها بسيف كانت الجن صنعته له، متوارثا منذ قرن"[11].
وقبل ظهور هذا الآخر الهمجي، في تلك الأرض ليفسد فيها، ويسفك دماء دناصيرها، كان في الأرض آخرا عجيبا هو "المرأة"؛ امرأة عجيبة تدعى عالية بنت منصور.
وكان هذا الشيخ يتوجه بالحديث إلى أناس ليس يعرف هوياتهم، ولا حتى أصلهم، متسائلا عن سبب وجودهم، وكأنه يتساءل عن أسباب الوجود والكينونة في هذا العالم الحي، يتساءل عن كنه الظلام، الدم، الحقد، السواد وتعشق اللون الأحمر القاني "واسمعوا يا بني من لست أدري، والله، من أنتم...."[12].
ثم يتوجه إلى مجهولي الهوية، يسألهم ما شأنهم، وما علاقتهم بالظلام: "يا بني من....الظلام"[13]، ثم يستغني عن جوابهم "ولا داعي لان تخبروني.... الأخبار"[14]، وعدد بذلك صفاتهم "انتم قوم تفتخرون بسفك الدماء...يا بني من لا أدري من أنتم؟"[15]، لكن من يكون رواة الأخبار؟ تراه يقصد "الإعلام"؟ أم هو القلب الذي عايش هواجس الموت؟ سيما وأنه يشير إلى علاقة الاغتيال بالثواب، مما قد يوحي أن هؤلاء الذين يسميهم الظلام، ولا يعرف الشيخ هويتهم، أولئك المسممة أفكارهم" .. وأنتم تتخبطون، ولأنكم لا تحسنون السباحة في الدماء التي سفكتموها، وتفتخرون بذلك، وترجون الثواب والغفران على ذلك"[16].
لكن أين يمارس هؤلاء لذتهم -القتل-؟ في الروابي السبع؟ فما دلالة هذه الروابي؟ هل هو يسرقنا إلى عالم الأسطورة، أم من وراء ذلك قصد آخر؟
ومن ثمة هو يصف لنا الوضع الذي آل إليه هؤلاء، إذ لم يكتفوا بسفك دماء الآخرين، بل انقلبوا حتى على أنفسهم "تكاثرت....الظلمات"[17].
ومن بعد الاغتيال تفشى الزنا "بدأت...الزنا"[18]، وكأن الثواب الذي رجوه يوما هو الاحتراق في أحضان امرأة لا أكثر. ولم يكن من حل بعدئذ غير الهجرة "قرر...الظلمات"[19].
وتناسل أهل الظلام، وانتشروا في الأرض، فاستحال بعد ذلك استئصالهم، وكان السبب في ذلك كثرة النساء، إذ "كان كل....الآفاق"[20]، فهل ترى كثرة النساء هي التي ولدت الفتنة؟ أم هو جشع الرجل، والسليقة الهمجية التي يتمتع بها هذا الرجل.
إذن، تفشت ثقافة الاغتيال بتفشي النسل المنبوذ، فهي ثقافة سهلة الامتهان، تواترت بينهم تواتر الحديث والسنة " ولما...الموثوقة"[21]، وهكذا كان أصل هذا التمزق و"ساءت...ثقافتهم"[22].
ثم ينقلب الحديث فجأة نحو الشيخ، فمن هذا الشيخ الذي يسمح لنفسه برواية الأخبار؟ ما تكون هويته؟ وهل يدرك من يكون حتى يسائل الناس هوياتهم "وهل تدري حقا أنت من أنت؟"[23]. ويتساءلون إذ ذاك بين ثلاث هويات "الشيخ الوقور، أبو الزمان، الفتى الوسيم"[24]، وحتى لو كان لا يدرك هويته، فهناك حقيقة واحدة هي انه "هنا"[25]، لكنه مصدوم من هذا الهنا "تشخص ....غيبوبتك"[26].
ومهما كانت زئبقية وجوده، فهو موجود "أنت....تدري"[27]، لكن في غيبوبة وكأنه يعاتب الرجل على انعدام فاعليته، فلا يكفي حضور جسدك حتى تتواجد في مكان ما، وزمان ما، فالتاريخ لن يسجل بين سطوره عظمة رجل ميت، وفي غيبوبته الأبدية "تشخص.. ..يوجد"[28]، وكأنه لا يتحمل أي مسؤولية، وكأني بالكاتب يشير إلى غياب الدولة، تلك التي تنسى ثانية أن تصرخ معلنة وجودها، وحين تلتفت إليها لا تلمح إلا ضبابا، وأصداء تناثرها الغيم، وكأنها تعلن انسحابها، فهي بطاقة هوية من غير هوية، ولم يبق لنا غير ما خلفه انسحابها "قرص الشمس...يوجد "[29]، وحين يتخفى قرص الشمس وراء... الاغتيالات..."[30]، فذاك ليس إلا اتهاما صريحا للمسؤولين عن عدم تنوير هذا البلد، إذ يمثل "الأفق الغربي" الآخر الأجنبي. فتنصلا من المسؤولية يرتمي هذا "الأنا" بأحضان الآخر، فـ"ما وجد....آخر"[31]، وكأنه يشير بأصابع الاتهام إلى أصحاب التوجه الهمجي، فهو ينعي تلك الثقافة الجديدة التي ينتمي إليها هذا الرجل ومن قبله جرجريس. وليس كل ذلك إلا وهم "ولم....موجود"[32].
ثم يكشف عن هذا الغربي الذي خذلته علاقته بالشمس وضيائها، واصفا العلاقة بهذا الآخر "و الأفق...أجمل؟"[33].
رابعا: الخرجة:
وينتظر من الخرجة بوصفها الكلمة النهائية من المتن، أن تضيء بعض العتمات فـ "أن تنتهي ليس معناه غير انك قد صمت"[34]، ومن تم فالخرجة تنقل نصها لكي يتمكن القارئ من فتحه بنفسه.
وإذا عدنا إلى روايتنا قد نحدد الخرجة الروائية في المقطع التالي:
"بلغنا أن من الشيوخ من شكك في أن تكون الحكاية وقعت كما سردها شيخ الحلقة...وزعم أهل الأخبار أنهم وجدوا ذلك مدونا...والله أعلم"[35].
ونلمس إذ ذاك أنّا خلصنا من جولة في حلقة مغلقة، حيث انطلق من فكرة ليعود إليها، ففي البداية نصادفه يخاطب شخصه الورقي الذي خلقه "فأنت الذي تنقل إلينا ما رواه رواة الأخبار، من تكون غير شخصية من ورق خطها الخيال "[36]، وكأنه يقول للقراء لا تصدقوا كل ما تأتي به الشخصيات الورقية من إخبار فليس ذاك إلا من عبث الخيال "وحين...الأيام"[37].
ورغم أن ذلك ليس إلا كائنا من ورق حقير، إلا انه يسعى إلى تغيير الوضع، وكأنه هنا يؤكد أحقية الأدب في تغيير الواقع، بل مسؤوليته في المساهمة في التغيير "وأنت... الشمس"[38].
وفي كل مرة يعدد لنا فيها الشيخ، صفات هذا الأخر، وهذا التمزق، وهذه الهمجية، يحيل إلى إنها حدثت في تلك الأزمنة الغابرة، وكأن التاريخ نسيها لكن لم تطوها صفحاته.
خصوصية الشكل السردي:
وتبعا لما جاورناه من خلال المناص الخارجي، سنلمس حين قراءتنا اللاحقة للنص انه يرسم لنا لوحة الإبادة الحاصلة في الجزائر خلال العشرية الحمراء، ولكن في شكل أسطوري، وكأنه يشير إلى أن ما كابدته الجزائر من همجية ليست حصرا عليها وحدها، وإنما قد يحدث ذاك في أي زمان وأي مكان. فهو يصور لنا المحنة التي خلفها وازع التكالب على السلطة.
فكيف جسد الكاتب المحنة في هذا الشكل الأسطوري؟ ولم الشكل الأسطوري بالذات؟ هل لأن الشكل الأسطوري هو النوع الأقدر على صياغة المسائل البشرية الكبرى والقضايا الإنسانية، فيغدو بذلك جنسا منفتحا على جميع الأشكال التعبيرية في قدرته على احتواء قضايا البشرية حيث "إن هذا النوع الأدبي الخرافي تتسع مجالات التعبير فيه من خلال المجالات التعبيرية المفتوحة للأسطورة التي لا تفتح أبوابها إلا لمن يستطيع ترويضها وإخضاعها لمشاكل عصرنا"[39]، فكيف استطاع هذا الشكل الأسطوري أن يحتوي المحنة الجزائرية وهل احتواها بالفعل؟
وكمحاولة منا للاقتراب من ضمنية هذا السؤال، سنحاول الارتكاز على أهم خصوصية يرتكز عليها الخطاب السردي، باعتبار أن النص السردي الحكائي أو القصصي يمر عبر القناة الرئيسية التالية:
الراوي _______ الحكاية ______ المتلقي
والنص الذي بين أين أيدينا لا يختزل نفسه في قناة واحدة، إنما هي قناة كلية تتفرع إلى أجزاء حيث تتراتب على الشكل الآتي حسب تعدد الرواة:
(رسم توضيحي)
ومـن ثـمــة نخلص إلى الترسيمة التالية:
بادئ ذي بدء نلمس أن الرواية ارتكزت على أسطورة "جبل قاف" أو "عالية بنت منصور" من خلال إخراجها إلى العالم من جديد بإحيائها، حيث أحيا بذلك العقلية العرفانية ليبعث من جديد هذا العالم العصري الذي تكالب على هذا "الجديد" الذي رأى فيه متعته و حياته، رغم أنه ليس إلا طيفا خرج من تحت التراب ليثبت لهذا العصري انه برجوعه إلى القرون الأولى يهدم حاضره، فبترسيخه ثقافة الاغتيال يلغي وجوده.
فالروابي السبع تمثل عدم الانسجام، وانعدامية الاتفاق، فهي عنوان الافتراق والانقسام، ورمز للسلالة الدموية التي تعمد للطغيان و الظلم منتهجة سياسة الاغتيال، فمظاهر الشر التي عرفتها البشرية عبر التاريخ الإنساني، المليء بالفواجع، الماسي و المآسي واضطهاد الحاكمين للمحكومين وتوسع الهوة بينهما، فكل ربوة تحمل في ذاتها اسمها وموقفها وسلوكياتها...
ومن ثمة يمكن القول، إن هذه الرواية تنتمي إلى كتابة الأسطورة، سيما وان بنية الشخصية قامت على أساس صورة غير محددة المعالم ولا الأسماء ولا تتميز إلا بوظيفتها البنائية، إذ لا تكتمل صورة أي شخصية إلا بعلاقتها بالشخصيات الأخرى ومن ثم فان تشكل "عالية بنت منصور" لا يتم إلا بوجود الروابي السبع، ولو لا تنافس شيوخ هذه الروابي فيما بينهم للظفر بها و بقصرها العجيب، ولو لا الطغام و الدهماء، لما استطاع شيوخ الروابي أن يؤججوا نار الفتنة، ولو لا جرجريس لما وجدت عالية بنت منصور، ولما طمع أحد في الفوز بها، والتنافس مع أقرانه عليهما، لما تمثله من قيم جمالية وإنسانية.
وتبقى عالية بنت منصور غير محددة المعالم، إذ تقول: "لم أعد أدري من أنتم... أنتم تدرون من أنا، بتنا لا أحد يعرف الآخر، ونحن بدون هوية، نحن الضياع"[40]، فهذا العالم الغامض المليء بالضياع ليس إلا ذاك الواقع الجزائري الذي التبست أوضاعه، بل تلبست به الجراح والآلام، واستحال وعي أحداثه بكل أبعادها ومراميها.
خصوصية اللغة الروائية:
قد نلمس بشكل من الأشكال أن الكاتب تعامل مع النص، وكأنه ينقل إلينا "أثرا"، بل وكأنه يلمح إلى وجود كتاب مسطور تم تحريفه، مما دعا كل راوية ينقل ما وصل إليه وفق ما سمع، فجوانب منه ثبت صحتها، وأخرى لم تثبت صحتها من عدمها، وكأني بالسارد يلملم حكايات من أفواه القوالين، وقد حاولنا إحصاء ذلك في الجدول الآتي:
(الجدول الأول)
وغير بعيد عما تلقفه السارد من أفواه القوالين نجده يضمن مقاطع من كتب مأثورة من نحو معجم البلدان[41]، وكتاب التيجان[42].
وربما قد يتعب من لم يتعود قراءة هذا النوع من الكتابات، من حيث الزخم اللغوي، سواء أكان ذلك لفظا أو استعمالا، وربما هو الأمر أصعب لأن الرواية ارتكزت على الأسطورة، فنزعت بذلك إلى الغموض حيث ينفتح النص على عدة قراءات، نحو ما يظهر في هذا المقطع:
"النار النار. ما أروع النار التي تحرق، وتقلق. وتؤرق. وتزهق، يصير كل شيء، غير ما كان عليه. يمسي محترقا. أسود مفحما. لا وجه له ولا لحم، إن كان إنسانا. ولا لون ولا طعم، إن كان شيئا...النار، النار التي بدونها لا تستطيعون أن تحرقوا ما يبني ويشيد. والنار النار التي تصنعون بها الرماح والسيوف التي تغتالون بها هؤلاء البشر الذين تكاثروا في الربى السبع، وبدون هذه الاغتيالات التي تنقص من عددهم وتحد من مددهم وتقلل من ولدهم ستنفجر هذه الروابي ليلة بقبائلها. وسيأكل بعضكم بعضا. كما تأكل بعض القبائل الجائعة موتاها في بعض الأرض، إلى يومنا هذا كما حدثنا رحالة الربوة البيضاء الشيخ صفوان تغمده الله بالرحمة والرضوان...وكما تأكلون أنتم، بعضكم بعضا بأسنانكم... وبسيوفكم البتارة التي تغتالون بها. حتى لا يسلم أحد من الاغتيال...الاغتيال حق كالموت. فهو فريضة مفروضة على كل من يقطن إحدى الروابي السبع..."[43].
وربما أهم ما يميز هذه الرواية أنها تأخذك في جولة سياحية على ضفاف اللغة العربية، وهو الأمر الذي يفسح المجال واسعا للقارئ، دافعا إياه للوصول أو للاقتراب من المعاني الخبيئة وراء تخوم اللغة. إذ يرسي التضاد بين العجز والمجابهة، جملة من التناقضات لعل أبرزها ذاك القائم بين الفرار من جهة، والمجابهة من جهة أخرى، مع ما يستتبع ذلك من تناقض بين الهزيمة والانتصار، النار والنور، الظلام والضياء، الشر والخير... الغفلة والوعي، الوهم والحقيقة... والموت والحياة، وهو الأمر الذي يقتضي وجود قارئ ملم بأسرار اللغة، واسع الاطلاع، حتى يتمكن من استنطاق المكتوب واستجوابه، ومحاورته لاستكشاف المعاني الخبيئة وراء بنيته اللغوية ونسيجه الفني. فهذه البنية اللغوية تتأسس على المفارقة والتضاد، على نحو ما يظهر في الفقرة التالية:
ونلمس شعرية اللغة الروائية في عدد من المقاطع، قد نذكر منها
"من أنت؟ تراك تتسلل كالظل، كالطيف، كالهواء، كالشبح فيما بين ظلام الليل ونور عالية بنت منصور.... وأنت تتسلل كالشبح اللامرئي. تغادر الربوة البيضاء. تجاوز ديار بني بيضان قاصدا ذلك، أو قاصدا تالك. أو قاصدا أولئك. بل لا تقصد شيئا معينا أو كائنا معينا. بل تقصد كائنا معينا لكن لمّا يتبلور في ذهنك. أو يتبلور حقا ولكنك تخشى ألا تستطيع الظفر بما تريد فتظل ظلالا بعيدا"[45].
ومن جهة أخرى، نجد أن الكاتب استغل الأشكال التراثية للقصص العربي، فمن الطرائق السردية التي استعملها العرب في سرودهم منذ العهود المبكرة ما يلي:
1- عبارة "زعموا":
ولعل عبد الله بن المقفع أن يكون أول من اصطنع هذه الطريقة السردية التي تلائم طبيعة الحكاية في شكلها المألوف منذ القدم[46]، حيث يرى عبد الملك مرتاض إن هذا المصطلح "ينسجم مع طبيعة السرد القائم على التسلسل الزمني الذي يأتي من الخارج، أو عن طريق حياد المؤلف المزعوم القائم على اصطناع ضمير الغائب"[47].
2- مصطلح السرد في فن المقامات:
كان معظم المقاماتيين يبتدئون السرد في مقاماتهم إما بعبارة حدثنا، أو "حدث"، أو "حكى"، أو "حدثني" ...أو بعبارة "أخبرنا". ولعل "عبارة "حدثني" أن تكون ألصق بحميمية السرد، وأدل على كيان "الأنا"، وأقدر إحالة على الداخل، وأكفأ في التوغل إلى أعماق الذات لتفجير مكامنها، وتعرية مخابئها"[48].
3- مصطلح السرد الألفليلي:
تصطنع شهرزاد ساردة ألف ليلة وليلة عبارة "بلغني"، وهي "أداة سردية تتصف بالإيحائية والتكثيف، وتواري وراءها عوالم لما تكشف"[49].
فكأن عبارة "حدثني" تحيل على شكل سردي مفتوح، غير جاهز ولا محدود، فهو مهيأ لتقبل شيء من الزيادة والنقصان، وتقبل شيء من الإضافة والتحوير في الشريط السردي"[50].
4- مصطلح السير الشعبية:
وقد يعد هذا الشكل من أعرق الأدوات السردية، ومن أشهر عباراته "قال الراوي"، حيث لا تمثل هذه العبارة إلا "أنا السردية لا النفسية. فالذي أبدع الحكاية هو الذي أبدع معها عبارة قال الراوي"[51].
وربما اتصلت بعبارة "قال الراوي" عبارة أخرى كثيرا ما تشيع في السرد العربي الشفوي، وهي "كان يا ما كان"، ويبدو أن هذه الأداة السردية عربية صميمة، ولكنها شعبية؛ تشيع خصوصا في الملامح، وفي الحكايات الخرافية العربية اللسان"[52].
وإضافة إلى ما سبق، قد نحدد الجدول الآتي تبعا للعبارات التي تواترت في النص:
(الجدول الثاني)
إذن، فقد نخلص من خلال هذا الجدول، إن الكاتب اعتمد على عبارة "قال الراوي" مما يعطي الرواية ملامح السيرة الشعبية، فالكاتب يقدم لنا من خلال هذا الشيخ، حكاية الروابي السبع وتنافس شيوخها على قصر عالية بنت منصور، في جو غرائبي يغزوه العنف والهمجية لأجل هدف واحد هو الاستئثار بعالية مهما كان الثمن.
= = = = =
قائمة الإحالات
[1] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1998، ص 11.
[2] سيزا قاسم، بناء الرواية، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، دار التنوير، ص 131.
[3] أحمد منور، فن الكتابة وظيفة المناص، الملتقى المغاربي حول السرديات، بشار 28/29 أكتوبر 2001.
[4] المرجع نفسه.
[5] عبد الله إبراهيم، تقنيات السرد ووظائفه، مجلة نزوى، nizwa.com
[6] عبد الملك مرتاض، مرايا متشظية، الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، ط1، 2001، ص 3.
[7] الرواية، ص 5.
[8] الرواية، ص 5.
[9] الرواية، ص 5.
[10] الرواية، ص 6.
[11] الرواية، ص 6.
[12] الرواية، ص 8.
[13] الرواية، ص 8.
[14] الرواية، ص 8.
[15] الرواية، ص 8.
[16] الرواية، ص 8
[17] الرواية، ص 8-9
[18] الرواية، ص 9.
[19] الرواية، ص 9
[20] الرواية، ص 9
[21] الرواية، ص 9
[22] الرواية، ص 9
[23] الرواية، ص 10
[24] الرواية، ص 10
[25] الرواية، ص 10
[26] الرواية، ص 10
[27] الرواية، ص 28
[28] الرواية، ص 10
[29] الرواية، ص 10
[30] الرواية، ص 10
[31] الرواية، ص 11
[32] الرواية، ص 11
[33] الرواية، ص 11-12
[34] عمارة كحلي، كتابة مالك حداد من منظور جمالية التلقي، ماجستير، اشراف: لخضر بن عبد الله، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران، موسم 1999، ص 258.
[35] الرواية، ص 249-250
[36] الرواية، ص 12
[37] الرواية، ص 12
[38] الرواية، ص 12-13
[39] الأعرج واسيني، اتجاهات الرواية في الجزائر، بحث في الأصول التاريخية والجمالية، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986، الجزائر، ص 594.
[40] الرواية، ص 76.
[41] انظر الرواية، ص 152.
[42] انظر الرواية، ص 181.
[43] الرواية، ص 80.
[44] الرواية، ص 136.
[45] الرواية، ص 50.
[46] عبد الملك مرتاض، نظرية الرواية، ص 136.
[47] المرجع نفسه، ص 166.
[48] المرجع نفسه، ص 170.
[49] المرجع نفسه، ص 171.
[50] نظرية الرواية، مرجع سابق، ص 171.
[51] المرجع نفسه، ص 172.
[52] المرجع نفسه، ص 173-174.