هويدا سليم - السودان
في انتظار المحاكمة
الساعة تتجاوز الواحدة بعد منتصف الليل. أحس بالاختناق من حرارة الجو ومن أطواق الوحدة التي اخترتها لنفسي، فقد هاجر كل أفراد الأسرة هربا من الحرب والظروف القاسية للبلاد. كل هاجر في اتجاه، بينما رفضت أنا مغادرة الوطن مهما كانت الأسباب. قال لي أخي الصغير وهو يحزم حقائب هجرته قبل سبع سنوات:
"لقد آن لنا الانعتاق من هذا الوضع الشاذ. أكثر من عشرين عاما قضيناها تحت وابل الرصاص وفي ظل قانون الطوارئ. كنا نذهب للمدارس تحت وابل الرصاص. تخرجنا من الجامعات أيضا تحت وابل الرصاص. لم يعد لدي الاستعداد لمواصلة مثل هذه الحياة. إنني ذاهب لأبحث عن مستقبلي هناك خلف ضباب العالم المتقدم. فالضباب خيرا من الحرب."
قلت له:
"نعم إنك محق فيما ذهبت إليه. فها هو العام الخمسون يمر والحرب ما زالت مستمرة. ولكنني لا أرى ذلك سببا كافيا للتخلي عن الأوطان. فلو هاجر كل الناس فمن سيعمل على إيقاف هذه الحرب اللعينة؟ ومن سيعمر هذه الأرض البكر الخصبة؟ هل نهرب من أوطاننا لنعمر أوطان الآخرين؟ هل تقبل أن تعيش كمواطن من الدرجة الثانية (عبد) في أي مكان من العالم وأنت لديك الفرصة لتكون سيدا في وطنك؟"
لم يجبني بل أكمل حزم حقائبه ثم أخذها وغادر المنزل وهو يقول: "عش مع أوهامك وأحلامك المستحيلة بوطن حر."
قررت الخروج والتسكع في الشوارع لقتل الملل كالعادة عندما أحس بمثل هذا الاختناق. لم يكن لدي أصدقاء يمكن أن اذهب إليهم في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل للتسامر معهم وقطع الوقت، فمعظمهم هاجروا، وبعضهم تزوج. قادتني قدماي إلى إحدى الحانات. كانت هناك بعض الوجوه التي اعرفها لكن ليس لدي أي علاقة بها. رفعت يدي لهم بالتحية وأنا انظر بعيوني للبحث عن مقعد خال. عندما أحسوا حيرتي وغربتي في المكان —حيث لم أتعود ارتياد الحانات والمقاهي— دعوني للجلوس معهم. فعل أحدهم ذلك وهو يجذب كرسيا من الطاولة المجاورة دون استئذان من الجالسين حولها، قائلا "تفضل بالجلوس هنا."
نظرت له بامتنان ثم تقدمت وانضممت لهم. لحسن حظي كان الكرسي مقابلا للتلفاز حيث أسقط عني الكثير من الحرج، فوجدتني انظر إليه حيث لم يبقي لي كلام معهم بعد تبادل عبارات الترحاب والمجاملة والأسئلة التقليدية عن الأسماء ومكان العمل الخ. كان التلفاز يبث نشرة الأخبار في تلك اللحظة: "انفجاران يهزان بغداد اليوم ويؤديان بحياة العشرات. عملية انتحارية في القدس تؤدي بحياة العشرات. قتال بين القبائل في دارفور راح ضحيته عشرات النساء والأطفال. القوات الأثيوبية تجتاح الصومال وتقتل ...
كانت صورة الدماء وأشلاء الأجساد المتناثرة والدمار القاسم المشترك لكل الأخبار ككل يوم، لهذا أشحت بوجهي عن التلفاز وأنا أتمتم " لا حول ولا قوة إلا بالله."
سمعت أحدهم يصيح "ملعونة أمريكا. تسقط أمريكا." كانت تلك بداية لحوار طويل لم أتهيأ له ولم أتوقعه، فقلت له متسائلا: "ولماذا تلعن أمريكا؟" قال: "لأنها السبب وراء كل تلك الدماء التي تسيل في العالم عامة وفي الوطن العربي والإسلامي خاصة" فقلت له "لا يجب أن تلعن أمريكا بل العن الذين صنعوها." فسألني باستغراب "ومن هم صانعوا أمريكا؟" وأضاف باستنكار: "أليس هم الأمريكان؟" قلت: "لا، بل نحن. نحن العرب والمسلمين، بل كل الضعفاء الذين ينتشرون في كل بقاع العالم." فقال باستغراب أشد من الأول: "كيف؟" فأجبت "بضعفنا،" وأردفت ذلك بقولي: "إن الضعف الذي يعاني منه العالم الإسلامي والعربي وكل العالم الآن خاصة بعد سقوط روسيا هو الذي أدى إلى أن تشعر بأمريكا بقوتها فتفعل بنا ما تفعله الآن من ذل وقهر للامة العربية والإسلامية واستخفاف بقادتها وحكامها وبكل العالم." وتابعت حديثي قائلا: "الديكتاتوريات كما يؤكد سير التاريخ قامت على ضعف الآخرين. فالضعف والخنوع لدي الشعوب هو أقوى لبنات الديكتاتورية وحجر أساسها المتين."
قطع علينا النادل الحديث وهو يسأل ماذا نريد من طلبات، فقال له جاري "شوف ضيفنا يشرب شنو،" فشكرته، فقال "عليّ الطلاق لازم تشرب حاجة" فأصررت على الرفض. فرد عليّ قائلا: "هل تريدني أن أطلق أم الأولاد بعد كل هذه السنوات؟" وأضاف بلطف لم أحسه في كل حانات العالم ومقاهي الدنيا الراقية ولا لدى كل الدبلوماسيين الذين التقيتهم خلال عملي الطويل، فقد كان لطفا نابعا من قلب بسيط لا مصالح ولا دوافع خلفه:
"يا راجل أنت ضيفي الليلة."
فلقت للنادل وأنا اضحك شاكرا له كرم الرجل تجاهي:
"إذا كان ولا بد، أحضر لي إذا واحد شيشة مضبوطة تنسيني أمريكا." فضحك النادل وهو يسرع متراجعا إلى الوراء إلى حيث الطلبات قائلا: "بس كده. هوا. حالا تكون عندك شيشة مضبوطة لا تبعدك عن أمريكا فقط بل عن كل العالم."
سألني مضيفي: "هل تعتقد بأننا قادرون على عدم التفكير في أمريكا وهي تتغلغل في كل مسام من مسامات حياتنا اليومية مهما صغر." فضحكت قائلا: "نعم." وأضفت: "إذا أردنا فإننا قادرون ليس على إلغاءها من تفكيرنا فقط بل من علي وجه العالم كله." وأضفت بفخر: "هل تعتقد أنها أقوى من دولة الفرس أو دولة الروم التي أزالها المسلمون قبل قرون؟ وهل هي أقوى من روسيا التي اختفت من العالم فجأة؟"
مرة أخرى قطع النادل الحديث عندما احضر الشيشة المطلوبة. بعد أخذ نفسين من الشيشة أدركت أن النادل كان وفيا بوعده في أن يبعدني عن كل العالم. كنت امزح لكنه أخذ الأمر مأخذ الجد. نعم، استطاع النادل بتركيبته العجيبة لحجر الشيشة أن يبعدني عن العالم، لكنه لم يستطع أن يبعدني عن أمريكا. وبالأصح لم يستطع أن يبعد أمريكا عني.
أخذت نفسا طويلا من الشيشة. تعمدت إبقاء الدخان في صدري أطول فترة ممكنة ثم بدأت إخراجه ببطء متناه لكسب أكبر قدر من المتعة. مع الرشفة الثالثة شعرت بالدخان يتسرب إلى كل ذرة من مسامات جسدي وروحي. شعرت بعقلي يصفو ويصفو ويصفو مع كل رشفة من الشيشة حتى تحول إلى قطعة زجاج أو كريستال، بل قطعة بلور شديدة النقاء والرقة بصورة جعلتني أتذكر الآية الكريمة
"... كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ..."
هكذا أحسست بعقلي، فقد بلغ قدرا من الشفافية والإشعاع أضاءت كل جنبات جسدي، فاسترسلت في الحديث مع صديقي الجديد، مضيفي.
ربما لم أع ما أقول، لكنني كنت متأكدا أنني كنت أتحدث بطلاقة حيث تحدثت عن أمريكا والعرب والإسلام. عن العلاقات الدولية وموازين القوة. عن حرب العراق الأولى والثانية. وعن الأطماع الدولية في السودان. وكيف راح الصومال ضحية لسياسة "البحث عن موطئ قدم في أفريقيا" التي تمارسها القوة الدولية حاليا، إلى آخره.
لا بد أن حديثي قد خلب لب الحاضرين فقد أغلق النادل التلفاز وانضم للآخرين لكي يستمع إليّ وأنا أتحدث أحيانا بإنجليزية فصيحة طلقة لا لبس ولا تلعثم فيها وأحيانا بلغة عربية فصيحة (قحة) كما يقولون. كنت استشهد في حديثي بكل الفلاسفة والمفكرين منذ زمن السفسطائيين مرورا بالثلاثي اليوناني العظيم (أفلاطون وأرسطو وسقراط) إلى ابن خلدون وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين أمثال ديكارات واسبنوزا، إلى آخره، وبالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة والمقدسة وبنصوص من التوراة والإنجيل وأبيات شعر.
لست أدري كيف قفزت إلى رأسي كل تلك المعارف في تلك اللحظة حيث كنت اعتقد أنني قد نسيت كل ذلك. لكن الآن كل قراءاتي ودراساتي وكل الكتب التي قرأتها طوال حياتي عادت لي في تلك اللحظة العجيبة وخرجت بصورة أدهشت الحضور.
كان النادل يغير الشيشة بين الحين والآخر. ويزيد الجمر عليها حينا ويهب الجمر حينا آخر ليبقيه مشتعلا. وكان عقلي يزداد اشتعالا مع تغير حجر الشيشة، أو تغير الجمر أو الماء. كنت مستمتعا بذلك. شعرت بصفاء عقلي عجيب، حيث كان عقلي يزداد صفاء ونقاء حتى صار أرق من قطعة ثلج طافية على سطح ماء يمكن لأي ذرة تراب أن تحطمها إذا ما سقطت عليها.
فجأة رأيت أمريكا هناك. كانت تقف على قمة عقلي بصورة جعلتها تكاد تفقد توازنها. كانت تتأرجح وتتأرجح في محاولة للحفاظ على توازنها. فجأة سقطت من قمت علياءها على عقلي البلوري فهشمته. سمعته يتحطم ثم يتناثر ويتطاير شظايا لم أحس بالحزن، فنشوة الانتصار على أمريكا جعلتني أواصل الحديث بنشوة أعظم من ذي قبل فقلت لهم:
"إن أمريكا يمكن أن تسقط بمجرد لمسة إصبع (دفرة) بسيطة لأنها ووفقا لمجريات التاريخ تعيش في لحظاتها الأخيرة: مرحلة حفظ التوازن في القمة التي وصلتها، وهي أصعب المراحل، ولا يمكن لها أن تظل فيها طويلا." وأردفت متسائلا: "ماذا بعد القمة إلا السقوط؟" واتبعت حديثي بسؤال استعجابي "أليس كذلك؟!"
لم انتظر إجابة عن سؤالي لأنني لم أطرحه للإجابة عنه، لهذا واصلت حديثي قائلا: "هل تعرفون قصة الجن مع سيدنا سليمان التي وردت في القرآن الكريم؟" أجاب بعضهم "نعم" والبعض الأخر" لا." فأجبت باختصار:
"إن الجن الذين كانوا (عبيدا) يأتمرون بأمر سيدنا سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد عدد من السنوات بعد أن أكلت دابة الأرض منسأته (عصاه) التي ظل متكأ عليها وهو ميت سنينا عددا، فخر ساقطا، فعلمت الجن أنه انتهى ومات، فمارست حريتها."
وأضفت:
"هذا الحال ينطبق على العرب حاليا فسيدتهم أمريكا ماتت منذ سنيين لكنهم لا يدركون ذلك. لهذا هم بحاجة إلى من يأكل العصا التي تتوكأ عليها أمريكا حتى تسقط فيتأكدون من موتها فيعلنون حريتهم".
كان الحديث ينساب سلسلا والكل ينصت. فجأة شعرت بتغير في جو الحانة كأنما هناك شيئا حط فيها من أعلى فجأة على رؤوس الحاضرين. رفعت رأسي لأرى. كانت هناك مجموعة من العيون تنظر لي وأيد كثيرة وقوية تهوي على رأسي، على ظهري وعلى صدغي. شعرت بعقلي الذي كان قد أصبح في أرق حالته يتحطم ويتطاير إلى شظايا تنغرس في كل حنايا جسدي وروحي، مسببة لي ألما عظيما لا يمكن احتماله.
فجأة لم أعد أحس بالألم. لست أدري هل لأنهم توقفوا عن ركلي وضربي أم أنني فقدت الوعي. لم أعد أميز بين الأشياء، فقط شعرت بأيد تسحبني من ياقة قميصي وتقذف بي إلى أرضية صلبة عرفت أنها عربة بعد أن تحركت بنا.
في الصباح وجدتني وسط مجموعة من البشر كالحي الوجوه. أدركت أنني في الزنزانة. سمعت اسمي. لم أحرك ساكنا. فجأة امتدت يد وسحبتني من بقايا قميصي الذي تمزق معظمه ليلة الأمس. وقفت أمام مأمور السجن الذي تلا عليّ اعترافاتي في التحقيق الذي أجري معي (متي؟ لست أدري) المتمثلة في "أنني كنت أتحدث في حشد جماهيري غير قانوني، وأحرض على عصيان الدولة بصورة تهدد الأمن القومي. وأقوم بسب الدول الصديقة بصورة تسيء للعلاقات بين الدولة وتلك الدول مما قد يؤدي إلى إشعال الحرب، و...، و...، و..."
ثم طلب مني أن أوقع عليها ففعلت، ولكن كانت بقايا الدم ما زالت في يدي مما لوث الورقة، فعمد القاضي إلى تمزيقها وإخراج ورقة اعترافات أخرى نظيفة — لست أدري هي نفس اعترافاتي السابقة أم اعترافات جديدة — فلم يتلها عليّ كالمرة السابقة، بل قام بالتوقيع نيابة عني، ثم وضعها على ملف كبير كتب عليه (محكمة أمن الدولة — سري للغاية) وقال للحارس: "ضعه في الحبس الانفرادي حتى موعد بدء المحاكمة."
◄ هويدا سليم
▼ موضوعاتي