عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

طيري يا طيارة


أهفو بفارغ الصبر ليوم العطلة، أعد الأيام، والساعات والدقائق التي تفصلني عنه. أحلم بصباحه ونهاره ومسائه. أحضر نفسي جيداً طيلة الأسبوع لأستقبله بكامل الاستعدادات. أشعر أنني لا أعيش إلا من أجل هذا اليوم. إنه يوم جميل حتى لو كانت سماؤه ملبدة بالغيوم وتنذر بالعواصف. كل ما فيه رائع ومشوق ويستحق الانتظار.

ككل يوم عطلة، أسابق الشمس بالنهوض، أقوم ببعض الحركات الرياضية، أدندن ألحاناً قديمة، أجهز فطوراً كاملاً، أتناوله على مهلٍ، لا حدّ لمتعته. أنزل الدرج، درجة درجـة على مهلٍ، أخطو على الأرصفة خطوة خطـوة. أبواق السيارات لا تفجر سخطي. أصوات الباعة لا تزعجني ولا حتى صراخ الصبية. كل شيء يبدو أكثر من رائع. إنه يوم العطلة.

أبدأ تجوالي في الشوارع، لا أشعر بألمٍ في قدمي. أصل بعد ساعات من المشي سيراً على الأقدام إلى مكاني المفضل. أبتاع أشيائي المفضلة من هناك. بالونات وطائرات ورقية، أحملها برفقٍ وفرحٍ. هنا، أبتسم للجميع، أقترب من بعض الأطفال ألاعبهم، أمنحهم بعض مشترياتي، أعرف بعضاً منهم، يقطنون بالقرب مني، لا أنزعج منهم هنا، في المنتزه.

أسائل نفسي: لمَ لا تبدو عليهم علامات المشاكسة؟ لمَ ضجيجهم لا يمسّ الأعصاب؟

كل شيء يبدو هنا مختلفاً، رائعاً وغريباً، كأنني في عالم الأحلام. أبدأ في نفخ البالونات، وأطلق سراحها ليطير الواحد تلو الآخر. البالون الأزرق، شديد الزرقة، يقولون إنه لون السماء الصافية، والبحر الهادئ، لون بـزاة العمال الكادحين.

قضيت عشر سنوات من عمري، وأنا محتجزة داخل هذا اللون حتى نلت شهادة الطالبة المثالية. كم من المرات تناولت زيّي المدرسي عن حبل الغسيل رطباً ولبسته ومرضت لأحافظ على الأوامر الصارمة. نفخت بالوناً أزرق ثانياً وثالثاً حتى نفذت منّي. نفختُ بالوناً زهري اللون كأول وردة وجدتها بين كتبي المدرسية. مسكينة تلك الزهرة، داس عليها أبي بقدمه الضخمة، حين عثر عليها بين أشيائي الخاصة، ووجّه إليّ كلاماً لا زال يتردد في ثنايا روحي.

أنفخ بعدها بالوناً أبيض، ليس ناصع البياض، تعمّدت ألا يكون كذلك، لا يرمز اللون الأبيض للنقاء كما يعتقد الناس. وحده الثلج المتساقط من السماء أبيض ونقي، ولكنه يخسر نقاءه ما أن يلامس الأرض. الثلج يسقط من السماء، والبالونات البيضاء تعلو. أحببتُ أن أدرس التمريض، وأرتدي زيّاً أبيض، لكن أبي ردعني، قائلاً: "تقاليد عائلتنا لا تسمح بأن تنام البنت خارج بيتها ليلاً. ماذا سيقول الناس عنّا؟"

جدتي وهي قادمة من الحج، كانت تختال بعباءتها البيضاء، الفضفاضة، محاطة بباقةٍ من الحقائب البيضاء، المليئة بالهدايا والتي وزعتها كعادتها على أولاد أخوالي، ولما حان دوري قالت لي: "لم يتبقّ شيء."

جارنا العجوز المشاكس، البخيل، الذي حرم بناته من الميراث، ألبسوه بعد موته كفناً أبيض، لم أفهم لم اختاروا هذا اللون للأموات؟

لا، لا أريد لهذا البالون أن يفلت مني ويعلو، سوف أعاقبه، تناولت دبوساً ووخزته عدة مرات حتى صغر حجمه ووقع على الأرض. تركته ملقى على التراب.

تناولت بالونا أحمر بلون القلب ودمائه النابضة بالحياة والحب الذي لم يخفق له قلبي حتى الآن. رفعت يدي وأطلقته عالياً، ليراه كل الأحباء ويسعدوا فيه.

فرغت كل البالونات، حان وقت الطائرات الورقية، أفلتها جميعاً دفعةٌ واحدةً، راقبتها وهي تحلق عالياً في السماء، حلقت معها أحلامي الأسيرة داخل قلبي، أراها تقتربُ من بعضها ثم تتفرق وتبتعد، تسلم أمرها للريح وأنا أبقى على الأرض أرافقها بنظراتي المختبئة خلف نظارة سميكة، ألوح لها بيدي المتعبتين، دون أن أقول لها وداعاً.

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A فنار عبد الغني     C 0 تعليقات