محمد محمود التميمي - بريطانيا
زجاجة العطر
وصل إلى أرض المطار بعد رحلة استغرقت عدة ساعات بالطائرة. كان منهك القوى متصدع الرأس، سيء المزاج. نظر إلى من حوله فوجد جميع الوجوه غريبة عنه، مما زاد في وحشته.
تقدم إلى مكان تقديم الجوازات، كان يسبقه طابور طويل من جميع الجنسيات غير الأوروبية، كان طابوره يتقدم ببطءٍ شديد، أما طابور الجنسيات الأوروبية فكان الناس لا يتوقفون لسرعة تقدمه، تمتم في داخله ببضع كلمات من الشكوى وصرف نظره إلى طابوره.
أصبح يحدق في موظفي الجوازت. قال في نفسه: "الله يبعث لي ابن حلال يمشيني بسرعة، أو حتى ابن حرام المهم أمشي بسرعة".
بعد مدة من الزمن تتجاوز الساعتين وبعد أن شعر بخدر في قدمه اليمنى وألم في أسفل ظهره، وصله الدور. تقدم بخطوات عرجاء جراء خدر قدمه وبابتسامة مصطنعة لغاية كسب ود موظف الجوازات قدم جواز سفره وفي داخله تأشيرة الدخول.
بدأ الموظف يسأل أسئلته الروتينية، وبلغة انجليزية ولهجة يكاد من يسمعها أن لا يفهمها فتزيد من التوتر.
"لماذا أتيت لبريطانيا؟"
"للدراسة."
"ماذا تدرس؟"
"الحاسوب. دكتوراه. في جامعة درم."
"في أي سنة؟"
"الثانية."
وأكمل الموظف أسئلته ذات الكلمات القليلة وسمع الأجوبة ذات الكلمات الأقل، ثم ختم جواز السفر وقال له: "من هناك المخرج".
تقدم نحو مكان أخذ الأمتعة. تناول أمتعته وتقدم إلى المخرج لينهي معاناته من دهاليز الأمن والحماية والتفتيش.
لم يتقدم سوى بضع خطوات فرأى شرطياً آخر. حاول الابتسام له ليخطب وده ويقنعه بالابتعاد عنه إلا أنه فشل فناداه الشرطي، وأومأ له ليلحق به. دفع بعربة أمتعته خلف الشرطي، حتى وصل إلى غرفة تفتيش الأمتعة.
وفي غرفة التفتيش، شاهد افريقياً يتمتم بعبارات سحرية علَّها تعمي نظر الشرطية الشقراء عما يخفيه من تماثيل وحجارة حظ وخزعبلات أفريقية، وتلك حاجَّة فلسطينية تقرأ و"تُقَسِّم" على نفسها وعلى صررها، لعل الشرطي الشاب يغض النظر عن زجاجات الزيت التي امتلأت بها، وألا يظن الميرامية ودقة العدس والزعتر والنعناع أعشاباً مخدرة ويسمح لها بالمرور، وذلك شاب في مقتبل العمر يحاول جاهداً أن يشرح بلغته الإنجليزية الركيكة أن ما يحمله هو بخور وليس نوعاً من المواد القابلة للانفجار.
جاء دوره. فتح حقيبته. جاءه شرطيٌّ عجوز، أخذ ينبش أغراضه ويعبث بها دون أي احترام، فهذه سجادة الصلاة التي طوتها أمه وهي توصيه بالمحافظة على الصلاة في وقتها، وهذا قميص أهدته إياه أخته ورجت أن يلبسه عند ظهوره أمام طلابه، وذلك قرص فيه أجمل الأغاني الرومانسية كان قد أخفاه أخوه الصغير عن أهله طوال فترة غيابه ليعطيه إياه.
وبلحظة لا تكاد تشبه الوقت نفض هذا الشرطي العجوز بنطالاً فوقعت منه زجاجة عطر كانت قد أهدته إياها محبوبته. حاول جاهداً التقاطها، لكن عبثاً: سقطت وتهشمت وتناثر زجاجها في كل مكان على الأرض، نظر للشرطي العجوز بعينين ملؤهما الغضب والحزن، لم يعره الشرطي أدنى اهتمام، وإنما قال: "أنا آسف، والآن علينا تنظيف الأرض".
نظر الشرطي مرة أخرى للحقيبة وقال: "يمكنك الآن المغادرة". كانت عيناه مغرورقتين بالدمع وهو يلملم أغراضه. كاد أن ينفجر بالبكاء وهو يرى عاملة النظافة السمينة تكنس أجزاء زجاجة العطر المكسور وهو يتذكر في نفسه صوت حبيبته وهي توصيه: "دير بالك عليها حبيبي، رش منها كل يوم الصبح، مش تكسرها. الله يخليك دير بالك عليها". وفشل في هذه المهمة البسيطة.
لم يعد يدري ماذا يفعل. رتب أمتعته دون ترتيب، ومضى وهو يحس بألم يعتصر قلبه. مضى وهو يتمنى لو أن دمه سكب بدلاً من زجاجة العطر. مضى ورائحة العطر في أنفه وفي عقله وفي قلبه، ومضى...
تناول هاتفه، طلب رقم حبيبته، جاءه أجمل وأعذب صوت يقول: "الحمد لله على سلامتك حبيي، كيف كانت رحلتك؟"
أجابها بتمتمة مبحوحة من حنجرة ملتهبة: "لقد كسرت زجاجة العطر"، وانفجر بالبكاء.
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
- ● نحن والحزن
- ● الآن فهمتكم
- ● موظفة الترويج
- ● مرايا
- ● أهلاً بالمستقبل
- ● الركض تحت المطر
- ● أبحث عنك
- [...]
5 مشاركة منتدى
الاستاذ التميمى
تحية عاطرة ,لابأ س عوضك الله عن زجاجة العطر انت فى بلد العطور , هل تعقل هذة المعاملة فى مطار اوربى لابد انهم اعتبرونا ارهابيين وكل ما نحمل من متاع هو افيون اومتفجرات , نحن فى نظرهم مخلوقات اخرى غير بشرية
هم لم يعرفو ا اننا نحب ونعشق ولنا قلوب ونتهادى العطور
لقد كسروا زجاحة العطر , كسروا فينا الآنسان ,
ولكننا رغما عنهم سنظل نعشق ونحب ونتهادى العطور والبخور ....
وشكرا
اخوكم القاص: سعد المصراتى مؤمن /ليبيا
1. زجاجة العطر, 27 آذار (مارس) 2012, 04:45, ::::: محمد التميمي
أستاذ سعد،
تشرفت بقراءتك لقصتي والتعليق عليها.
هم يعاملوننا هكذا لانهم يروا فينا المهاجر التعس الذي يبحث عن مأوى لينعم فيه بالحرية والكرامة والعيش كبشر ولا تنسى ان بلادنا تعاملهم بأحسن مما تعاملنا وهذا سبب آخر لهذه المعاملة. ان شاء الله بعد هذه الثورات سيعاملوننا كما سنعامل نحن انفسنا بكل احترام.
لم يكسروا فينا الانسان ولن يكسر أحد فينا هذا الانسان الذي يخرج الان من بين ضلوعنا ليشعل قناديل الحرية.
أنا أيضاً أشعر برغبة في البكاءِ..! لا يعرف مرارة الغربة إلاّ من تغرَّب.
ستعودُ الطيورُ المهاجرة إلى أرضها يوماً، وتطير في سماءِ الحريةِ
زجاجة عطرٍ انكسرت، تبشّر بكسر القيد بإذن الله تعالى
1. زجاجة العطر, 28 آذار (مارس) 2012, 08:32, ::::: محمد التميمي
لا داعي للبكاء، فلن يعيد لا زجاجة العطر المكسورة ولا البلاد المسلوبة. سنكسر القيد بعلمنا وعملنا لا بدموعنا.
سلمتِ على التعليق
ألا يكفي غربه وعذابآ ..! ؟ لمَ الدموع التي هي أغلى وأثمن من زجاجه عطر تعوض ..!؟ ستقدرها محبوبتك وستسامحك على ذنب لا دخل لك فيه .
1. زجاجة العطر, 28 آذار (مارس) 2012, 08:36, ::::: محمد التميمي
ليس العطر داخل الزجاجة ما يهم، وانما ما تحمل من قيمة ومشاعر ولعل بعض الدموع الصادقة تعوضها، اتظنين ذلك؟
سوء المزاج بدا منذ وطات قدماك ارض الغربة فوجدت جميع الوجوه غريبة عنك مما اشعرك بالوحشة، وقد فارقت منذ ساعات وجوها اليفة وحبيبة اليك. وازداد المزاج سوءا في طابور المعاملات بين تعب وارهاق وتفرقة عنصرية تحز في النفس. واثناء التفتيش، حين نبشت اغراض ورايت هدايا اهلك، تراكمت المشاعر فهاجت اشجانك و اثير فيك الحنين، فاحسست بغصة في الحلق من الصعب ابتلاعها. وما كسر زجاجة العطر الا كالقطرة التي ملات الكاس على آخرها،واما صوت الحبيبة فالقطرة التي افاضتها على شكل بكاء.
اعانك الله اخي محمد على غربتك ودمت بخير
1. زجاجة العطر, 1 نيسان (أبريل) 2012, 09:16, ::::: محمد التميمي
في الغربة تفيض كل المشاعر التي تقود للبكاء بطريقة او بأخرى. وكذلك الغربة والحنين تعيد للوطن جماله الذي غاب مع غياب الفرص على أرضه. رد الله لنا أوطاننا وردنا اليها.
مرحبا أستاذ تميمي : بعد قراءة نصّك قرأت تعقيب بعض الاخوة والاخوات ومع احترامي لما كتب لاأدري لم اخذ الأمر تحصيل حاصل أي واقع حدث معك وليس حدثا قد يكونق فعليا لكنك وظّفته بذكاء لطرح مواضيع شتّى؟ أعجبتني القصة ومداخلها الكثيرة فهي تطرح مختلف المشاعر الانسانية باسلوب رقيق وراق وبعيدا عن حنين الوطن والسياسة فغربة النفس بين الأهل والاصحاب في الوطن الأم أقسى وضياع أي تذكار عزيز ذبحة صدرية لاتميت ولايشفى منها أحد.
1. زجاجة العطر, 1 نيسان (أبريل) 2012, 09:22, ::::: محمد التميمي
عندما تكون القصة عبارة عن مشاعر خطت على ورق فهي تصل من القلب الى القلوب، ولكل قلب طريقة خاصة في تذوق هذه المشاعر وما يسعدني ان الجميع استمتع بها.
صدقت دكتورة أمل فيما ذكرت عن ضياع التذكارات، فهي ليست مجرد اشياء مادية انما هي مشاعر وذكريات ومواقف لا تتكرر.