عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نورة عبد المهدي صلاح - فلسطين

روح ياسمين


ياسمين: لـِذكراها نبضُ حرفٍ وأنينُ جُرح مُستكين.

نورة صلاحمقاومتي في كتابتك تزينت بالفشل. وجدتني أَكتُبَكِ دون إرادة مني. هجمت على ذاكرتي. أمرت البنان أن يرسمك، حتى ما عدت أقوى على اختبائك خلف الكلمات. أخيراً كَتَبتُكِ.

تشرين مصيرٌ محتوم، قدرٌ غافٍ منذ سنين، صحا على غمرته الأخيرة لك، تنشقك مرة واحدة.

حملك لسماء بعيدة، لفتك غيمة، تحبين الغيوم؛ أحببتها لأجلك. أذكر أنك كنت تفتحين فمك كلما أدهشك علو السماء، أتابع لمعان عينيك، وإشراق مقدمة أسنانك في ضوء الشمس. كنت لا أراك، أبتسم لابتسامتك، أبكي لدمعتك، أصرخ لتألمك. غادرت الحياة وحملتِ روحي معك.

برغم صغري، قرأت روحي فيك، وعندما أحتضنك التراب تركتني أمشي عليه بهدوء. أأصابتك سعادة ما، أم أن خُطاي هي الخَطايا القاهرة في الحياة، لأمشي قرب جسدك الهامد تحت ذراته؟ حينها توقعت أنك تلعبين لعبة "التخفي"، وستظهرين كما دوما من خلفي. لليوم أنظر خلفي، ولا أراكِ.

قُلتِ لي يوماً: "لن نكبر معا، لن نمشي للمدرسة سويا، ستقرئين عني وتدرسين، تأكلين وتنامين، تصادقين من تشائين، وأنا أتابعك من السماء". تسكنين الغيم أنتِ. وأنا أسكن الحفر على الأرض.

ليت القدر أبقاك تتابعين نبضي، نأكل الشوكلاتة المخبأة بالخزانة في غرفة أمنا، نمزق الأوراق، أضربك وتضربيني، نتقاسم الفراش الأرضي معا، أشم رائحة نومك، شعرك، تسعلين بوجهي، تعطسين، وقد تأخذين الغطاء لوحدك وتتركيني بلا غطاء. قٌربكِ وحدهُ يدفئني.

قالوا لي يوم غيابك: "إن الأرض حضنتك، وإنك في السماء تشاهديني.

وقالوا: "عليّ أن آكل، لكني ما زدت إلا نحولا بعدك. عليّ أن أجتهد في المدرسة لكني ما زلت أبحث عنك على المقاعد القديمة. عليّ أن أثبت نفسي في الحياة وأنتِ هنا ما زلت تعيشين بقلبي الحزين.

تساءلت كثيرا ماذا لو غادرتُ حياتك أنا: هل تكتبين لي الآن، وتبكين غيابي كل حين؟

آه لو تعرفين، كلما لاح طيفك، شممتك مع كل صباح ندي، ومساء صيفي حزين.

ياسمين: كم عمرك الآن؟ هل للأموات أعمار مثلنا؟ ما طولك؟ وزنك؟ شكلك؟ ما لون بشرتك؟ أما زلت تَحملين على خديكِ لؤلؤاً ومرجانا، وتلك الشامة تزيدك وسامة؟

ياسمين: ما لون شفتيك؟ أما زالتا تنبتان كل يوم حبات كرز جديدة؟ هل توسعت عيناك وتكحلت وتباهت بفتنتها وبراءتها في آن؟

أخبريني ياسمين عنك. هناك بعد الموت كيف صرتِ؟ من أجملُ أنا أم أنت؟ كيف تنامين؟ هل صادقت غيري؟ هل وجدت "توأماً" لروحك بعدي؟ أأبدلت اسمكِ ونسيتِ اسمي؟

ياسمين: لم تفِ بوعودك لي، سلمت روحك لغيمة. لم تحمليني معك عليها، لنقابل سندباد، ونلتقي بليدي، ونمسح دمع سالي، ونلعب مع السنافر، ونأكل الكثير من الحلوى من بيت الساحرة. أقابلت كل هؤلاء؟ اغضب منك جدا إن فعلت ذلك ولم تخبريني؟

ياسمين: أخبؤوكِ عني، ونسوا أين وضعوك؟ أفتش عنك ببيتنا القديم بين قطع الليغو، والدمى القماشية، وفناجين الشاي الصغيرة، على أرجوحتنا القديمة، وعلى الدرج، وتحت الياسمينة، أظنها كانت تغار منك كلما مررت بجانبها، وجلست مقابلها تداعبين أوراق الليمون.

أتذكرين حينما كنا نقطع أوراق العنب من الدالية ونلفها بالتراب والحجارة، ونجلس في ساحة البيت نشرب الماء بالفناجين الصغيرة، نتحدث عن أحلامنا طويلا، كان الليل يهبط، وما زلنا تحت الزيتون، وشجر الكرز، لم نخف العتمة.

عندما حملتك السماء لم تكن مضيئة، النجوم تساقطت أرضا، كل شيء مظلم، حتى عيني الوحيدة المبصرة، تعمقت فيها العتمة، حتى وصلت بأعماقي واستقرت فيه.
ياسمين: ألا تحنين للقائي وضمي؟ أنا أحن. لست كبيرة بما فيه الكفاية لأنسى غيابك، أقف أتابع وداعك بصمت كئيب، حملوك، وتابعتُ وراءهم أجمع زهرك المنثور، لليوم، أشمك فيه، وأشمني فيك.

أنت غبت جسدا وتركت روحك فيّ، وأنا غبت روحا وأبقيتني جسدا، أصبحت تعيشيني، تتنفسين أنفاسي، تقاسميني أحلامي وذكرياتي، تؤنبيني في فشلي، تصفعيني في بكائي.

ياسمين: ما أبكاني غير بعدك، لم لا تعودي، اتركي عتمة روحي، كوني الحقيقة لا الظل المتخفي بظلي.
ياسمين: عشقتك، تفتحت بأرجاء روحي، أنبتِ الحياة من داخلي، تُتابعيني، تُعاتبيني، تتعبيني وتهديني "أمل". وأنا هنا، أقرأ جرحي كل عام، وأضحك سرا بداخلي عندما ظن ذاك الحبيب بأني أحب الياسمين لأجل حبيبته التي تسكن عمقه. (لن) يدرك أني أحبك أنت لا غيرك. لم أعرف الحب والدفء إلا بقربك، أتنشق من جرحي عطرك، وأستجدي السماء لتمطرني من الغيمة التي تسكنيها، وحدك تحبيني، وحدك من تشرق على روحي في ظلمة الحياة وقسوتها.
وحدك من تقرأ كلماتي، وحدك أنت أطهر من حضنتها الأرض والسماء.

D 30 نيسان (أبريل) 2013     A نورة صلاح     C 7 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • ولولا كثرة الباكين حولي
    على إخوانهم لقتلت نفسي
    وما يبكون مثل أخي ولكن
    أعزي النفس عنه بالتأسي
    هكذا تقول الخنساء، أشهر "أخت" في التاريخ.

    نص رثائي مليء بالتفجع و الإغتراب و الحنين.
    يقهرنا قدر الموت، ونتغلب عليه بالصبر والتأسي وببعض من التناسي.


  • في الزوايا المظلمة، وفي قاع القلب أسرار مقدسة ستؤدي دورها أفضل.. لو بقيت محجوبة عن النور.
    كلنا ينتظر.. ومنا من ينتظر بلا أمل.. لكنه يبقى ينتظر..!
    أنت تنتظرينَ الياسمين "مع كلِّ صباحٍ نديٍّ ومساءٍ صيفيٍّ حزين" ..وأنا أنتظرُ "نهادْ" بشعرها الطويل وعينيها البنفسجيتن.. وأنا وأنتِ ننتظر أن ينكشف أمامنا في لحظة الموت، سر الحياة الأعظم.
    أنت إنسانة مرهفة كثيراً..
    ومن كان مثلك يتعب كثيرا.
    "ألَمْ يَكُنْ حاملُ الهوى تَعِيبُ"..؟


    • إبراهيم يوسف ..
      يبدو أننا خلقنا للإنتظار، سواء اكان الإنتظار يحفه الأمل أو يبتعد عن شواطئه حتى بنى ناطحات سحاب تحجب كل رؤية وجمال عنا.. لقد إخترت أن لا أبقى حبسيه أسرار قد يكون لها الإختباء أفضل من الظهور لكني أحتاج للمواجهة لأحيى وأحتاج من وقت لأخر لإفراغ ثقل الذاكرة حتى لا أفقدها للأبد أنت تنتظر نهاد وأنت أنتظر منك نهاد وياسمين وأسماء أخرى وشخصيات أرجو أن يمنحني الزمن وقت للقائها..
      انا تعبة جدا.. وها هو الهوى قد حملنا على أن نحب تعبه للأسف ..
      شكرا لك وقراءتك لي فائقة الروعة بحق

  • توأم الروح لايمكن نسيانه، والذاكرة حقيبة سفر لاتضيع أبدا حتى لو تعمدنا إضاعتها في محطات الحياة.
    كان معك حق في الهروب من الكتابة، مافعلته الآن هو توثيق الألم !

    نص جميل رغم الحزن
    شكرا لك
    تحيتي


    • أشواق ملباري .. الكتابة توثيق روحي لا يمكن أن ننسى فضله عينا من حين لأخر حتى يخلصنا من الكدر الذي نعيشة، هو حاله نستطيع من خلالها توفير وقت للتفكير بأت وحفظ الذاكرة القديمة بطريقة لبقة وتخلو من الشوائب والكتابة هي الوسيله الوحيدة التي يمكن أن نجعل الحزن فيها لبقا وجميلا والفرح أكثر نشوة وبهاءا ..
      دمتي

  • أجادت نورة الرسم بالكلمات ، فرسمت لوحة ليست كأيّ لوحة ، لوحة تتألَّق فيها ياسمين بروحها ، بجسدها ، ببراءتها ، بشيطنتها ...
    لوحة تنبض بالحياة رغم رحيل ياسمين ، رغم غياب جسدها ، فالروح حاضرة ... لوحة فيها الشقيتان ، لا بل الحبيبتان توأمان تلهوان ، تمشيان معًا، تتسابقان إلى المدرسة ، تتسابقان للعب ، تضحكان فتجلجل الضحكات لتبعث الرسائل الى السماء لتبعث الحياة من جديد في المكان.
    _أدارت نورة حوارًا حيًّا نابضًا بالحبِّ بينها وبين روح ياسمين الحبيبة ..روح ياسمين التي صعدت إلى السماء لتنعم بمصير كانت تتمنَّاه ، تعشقه . وتصرُّ نورة على مشاركتها هذا العالم السرمديّ العالم السماويّ الجميل .
    بأسلوب سردي قام على استرجاع الزمان ، والمكان ، والشخوص والأحداث ،أسلوب ينبض بالحياة عرضت نورة براءتها ، وإبداعها في الوصف ، فتألَّقت ، وتألَّق نصُّها . وجعلت المتلقّي جزءًا من النصّ وشريكًا في الأحداث..
    _


في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 83: "عود الند" تكمل سنتها السابعة

كتابة التاريخ من منظور نسوي

كيف نقرأ مرجعا أدبيا؟

الأدب المقارن: النشأة والتطور