غانية الوناس - الجزائر
طريق بين الضمة والفتحة
بشر عاديون جدا من ترونهم يمرون يوميا من هناك، على جدرانهم في عالم يتهمه الجميع بالافتراض ويلصقون به كل عيوبهم ونقائصهم، من كذب ونفاق وتجرد من المشاعر فقط ليبرروا لأنفسهم ما يفعلون، وهناك أولئك الذين أفضلهم هم كذلك بشر عاديون، لكن في داخلهم عوالما من الأناقة الآدمية التي تستهويني، في داخلهم أوطان جميلة تعلمت مع الوقت أن أحبها وأتعلق بها وأؤثث لها في داخلي كونا جميلا يليق بقداسة الأوطان، هكذا أنا أؤمن بكل شيء يراه الناس عبثا ولا رجاء منه، أحب أن أتميز في أمنياتي وأحلامي وهواجسي حتى.
مضى من الوقت هناك خمس سنوات تقريبا، تعلمت فيها ما لم أتعلمه في واقعي. هناك حيث الغالبية تلج من زر الدخول لتتسلى وتكذب وتنافق، وربما لأغراض خبيثة أو بريئة أو حتى بداعي الفضول ليس أكثر، أدخل أنا فتاة الريف التي تتحدث بفخر عن هويتها الجبلية التي تنحدر من سفوح جبال شهدت ذات ثورة ميلاد المجد على فوهة بندقية وحلم صغير بالحرية وكسرة خبز وبضع تمرات، وقسم لا يتعلق بشيء سوى الإيمان بالله وبالأرض.
أنا أبنة الأرض من تتحدث وتكتب بالعربية كلغة للقلب بفخر كبير لا يقل عن فخري بهويتي الأمازيغية، من قرية اسمها لا يوحي بالكثير لكنها على كل حال قرية كقرى الأوراس الأشم، باردة جدا لأنها كانت ككل القرى دائما ما تكون خاصرة لجبل شاهق تتوسد قمته الثلوج.
لذلك برغم كل ما فيها تبقى مميزة، أناسها الفضوليون جدا مازالوا كذلك، وأحاديث النساء فيها لا تنتهي عن النساء أنفسهن وعن كل ما يحدث من قريب أو بعيد، ترقبهن وفضولهن وغيرتهن أحيانا من بعضهن، هواجسهن النسائية وطيبتهن الريفية بالرغم من القسوة التي قد تبدو أحيانا عليهن، تلك القسوة التي زرعتها الطبيعة القاسية في أيديهن الناعمة فغدت خشنة بعض الشيء لكن ذلك لم يؤثر يوما على الحس الأنثوي لديهن.
تلك المشاكل الصغيرة أو الكبيرة التي تحدث فيها، لا زالت تحل بطريقة ودية، فلا مجال هناك للمحاكم إلا فيما ندر، ويحدث أن تقل تلك الندرة أحيانا كما في هذه الأيام.
هناك السياسة حاضرة بظلها، وآخر ظلالها كان إمدادها بالغاز الطبيعي، يومها سكانها البسيطون جدا من شدة البرد الذي كان يزرعهم في بيوتهم كجذوع أشجار عتيقة ويحملهم ما لا يطيقون، فرحوا وانبرت فرحتهم عن كرمهم الكبير في استقبال المسؤول الذي جاء يبارك انطلاقة الغاز هناك.
بيني وبين نفسي وأنا التي لا أقيم هناك لأعرف حجم معاناتهم أشفقت على بساطتهم، لكنهم على الأقل كانوا يفعلون ذلك بحبّ كبير، وامتنان رغم أن المسؤولين يجب أن يرفعوا في كل قرية تطأها أقدامهم لافتة اعتذار لأولئك الناس لعلهم يسامحونهم يوما على تقصيرهم، أولئك الذين ربما لو قرأوا ما أكتبه عنهم هنا لكانوا نهروني واعتبروني أبالغ، فأنا سأبدو بهذا غريبة عنهم وربما لأني لم أعش هناك كثيرا أصبحت أختلف عنهم ولو قليلا، ولذلك تحديدا يحدث أن أذهب هناك ولا يعرفني أحد منهم.
ولا يعرفني الكثيرون هنا حيث أقمت دائما في هذه البلدة الصغيرة التي تحاذي غابة الصنوبر و" الطاقة" وهي شجرة تنتشر بكثرة هنا، ومنها استقت هذه المنطقة اسمها، كما يحدث أن يلقبها الكثيرون بوادي الذهب، لأن الذهب كان وإلى الآن الحرفة الأولى لأبناء المنطقة، ومع ذلك ما زلت بلدة بسيطة برغم كثرة أصحاب الأموال فيها من صاغة وتجار ومجاهدين وأصحاب المعاشات الفرنسية الذين كانوا ذات يوم عمالا في فرنسا.
لا بأس بقليل من السياسة بين الحين والآخر، لذلك كانت صفحتي طوال هذا الوقت تتعكر بها أحيانا أحاديث السياسة بقصد أحيانا ودون قصد في أحيان كثيرة، حتى الرياضة كان لا بد لها أن تكون حاضرة فيها، لتنشر ذلك الفرح الداخلي الذي تزرعه فينا لأننا نفعل شيئا ما نحبه ونستمتع بالمنافسة التي تسكنها.
وأنا أكتب هذا تذكرت نفسي قبل سنوات، كنت أبكي بحرقة كبيرة عندما يخسر الفريق الذي أناصره، الكثيرون حولي كانوا يرون في ذلك غباء وجنونا، لكني كنت أمارس ذلك الغباء بحبّ كبير، بعفوية وبدون أدنى مركب نقص.
ببساطة كنت أنا ولم يكن علي أن أكون كما يجب أن يكون كل الناس، هكذا تعلمت منذ البداية في تلك المدرسة الابتدائية التي درست فيها سنواتي الأولى، أمر بها كل يوم ولا زالت صورة المدرس الذي صححت له اسم الكاتب " ميخائيل نعيمة" عالقة بذهني، يومها نطق اسمه بالفتحة فجعل من اسمه مؤنثا، ولأني قد سبق لي أن اطلعت في كتب والدي الأدبية على بعض نصوصه، عرفت أن اسمه بالضمة أخبرته ذلك لكنه أنبني بشدة وأسكتني.
لم أكره المدرس في ذلك اليوم لكني أحببت ميخائيل نعيمة أكثر، وأصبحت أبحث فيما أجده أمامي عن شيء مما كتب،
كنت طفلة يومها، لكني أدركت فيما بعد أن ذلك الخيط الرفيع بين الفتحة والضمة كان الطريق الذي جرني إلى الكتابة.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
7 مشاركة منتدى
طريق بين الضمة والفتحة, ليلى سويدان فلسطين | 25 شباط (فبراير) 2013 - 14:26 1
ربما كانت الضمة والفتحة من أكبر أخطائي بالأيام الماضية، وَمخائيل نعيمة أحببته لاجلكِ
ذهبت بكلامتكِ إلى الجزائر التي حلمتً بها يومآ وَعشقتها بكل ثانية
رآئعة أنتِ
1. طريق بين الضمة والفتحة, 26 آذار (مارس) 2013, 04:35, ::::: غانية الوناس.الجزائر
ميخائيل نعيمة كان دائماً حضوره في نفسي يشبه الحلم،
أن تكونِي طفلة وتقرأي لكاتب بهذا العمق والاحساس لا اعرف يومها ان كنت أفهم كل ما كنت أقرأ له ، لكنّي كنت مزهوةً باكتشافي لسحر القراءة من خلاله.الجزائر تنتظركِ دائماً صديقتِي
أشكرك من القلب.
طريق بين الضمة والفتحة, راضية عشي - الجزائر | 27 شباط (فبراير) 2013 - 14:32 2
... أعتَقد أنكِ تتذكرينَ رأيي في هذا النَص الجميلْ، ذلكَ أنني قد ارسلته إليك عبر الخاص... أنا مُتَيَمتة بحرفكِ، استمري.. أنتِ فخرٌ للأمازيغ، للجزائر ♥ للأدبِ ككلْ.
1. طريق بين الضمة والفتحة, 26 آذار (مارس) 2013, 04:38, ::::: غانية الوناس.الجزائر
دون شكّ وكيف لي أن أنسى.
آرائك دائماً تمنحي طاقة ايجابية للكتابة بشكل أفضل كلّ مرة.
سعيدةٌ أن أعني لكِ كل ذلك، وأتمنى أن أكون أهلاً له فعلاً.
أشكركِ صديقتِي.
طريق بين الضمة والفتحة, كوني طيبة الجزائر | 28 شباط (فبراير) 2013 - 05:49 3
كم هو رائع هو احساسك ، حرفك ونبضك
يعبر عنا ، حينما اقرا لك اشعر وكانك تتحدثين عني
بارك الله في قلمك و قلبك
صديقتك دلال
طريق بين الضمة والفتحة, عبد الحفيظ زاوش | 28 شباط (فبراير) 2013 - 10:37 4
السلام عليكم ......انا قارئبسيط احب كل كلام جميل ينبع من قلوب صادقة و مخلصة لما تقول....و لا نزكي على الله احدا ....ملاحظة صغيرة تمنيت من كاتبتنا و انا احترم جدا خياراتها ....بدل ان تكون اللغة العربية لغة القلب ان تجعل الشاوية هي لغة القلب الاولى .....تحياتي .
1. طريق بين الضمة والفتحة, 5 آذار (مارس) 2013, 09:30, ::::: زهرة يبرم/ الجزائر
الاخ عبد الحفيظ
الشاوية يحترمون جدا اللغة العربية بصفتها لغة القرآن، ولغتهم مختلطة بعبارات عربية تجلي لمن لايفهم اللغة انهم مسلمون، مثل الشهادتين والاستغفار والتسبيح(سبحان الله). وهم عادة يتكلمون العربية في حضرة العربي احتراما له، كرمهم زائد وهي صفات حميدة لم تندثر بفعل المدنية. أستخلص أن اللغة العربية ايضا لها مكانة في قلب ناس الشاوية إلى جانب "الشاوية"..استسمح الاخت غانية على هذا التدخل..واشكرك اخي ..
2. طريق بين الضمة والفتحة, 26 آذار (مارس) 2013, 04:46, ::::: غانية الوناس.الجزائر
هو كذلك عزيزتِي، الشاوية متعمقون جداً بجذورهم في التاريخ،وصفاتهم الجميلة في التعامل هي ما جعلت من حضارتهم راقية رغم محاولات المحتلين ربطها بالهمجية والبربرية والتخلف.
لذلك حين أقول أن لغة القلب هي العربية فليس انتقاصا من هويتي الامازيغية ولكنها تعزيزٌ وإثراء لها.
لا شك من فخري بهوتي لكن اعتزازي بما أدين به وبلغة هذا الدين العظيم هي الأكبر والاهم بالنسبة لدي.
وكما أحب أن أقول دائماً على طريقة كاتب ياسين أنا أمازيغية أكتبُ بالعربية لأقول للعرب أني أفخر بلغة هذا الدين وأعتزّ بالانتماء إليه.
طريق بين الضمة والفتحة, Ahmad Alkhalaf - Canada | 28 شباط (فبراير) 2013 - 12:05 5
عبرتي بنا إلى داخلك وإلى الأوراس وأهلها فعشنا معك في ظلالها نغبطك على هذا العالم النقي. بين الضمة و الفتحة مرت حياتك تبحث عن ميخائيل نعيمة جديد فوجدناه نحن في شخص إبنة الأوراس غانية الوناس ... بالتوفيق
طريق بين الضمة والفتحة, أشواق مليباري | 1 آذار (مارس) 2013 - 08:08 6
يستهويني الريف في أي مكان. أهله وحكاياته وطبيعته مهما كانت غريبة عني.
أعجبني حديثك عن ذلك الطريق الذي لا يسلكه معظم الناس، فيمشون خلف مدرس متعصب لما عرفه وتعلمه ولو كان خطأ.
شكرا لك
تحيتي
طريق بين الضمة والفتحة, زهرة يبرم/ الجزائر | 1 آذار (مارس) 2013 - 18:18 7
أهلا بابنة الأوراس الأشم
كنت قد زرت "خنشلة" وهي مدينة على عتبة الأوراس أيضا، العام الماضي في أواخر فيفري والثلج يكسو قمم الجبال. لي ذكريات رائعة مع الشاوية الطيبين المضيافين. وقد صعدت إلى قمة "تشيليا" بالسيارة، وهي ثاني أعلى قمة في الجزائر بعد "الهقار".
كم هو رائع يا غانية هذا النص، وروعته تكمن في بساطة مادته وانسياب لغته. تحياتي وأمنياتي الصادقة لك بالتوفيق