عدلي الهواري
دوالي وياسمين وزيتون وكرة قدم
المدن والبلدات والقرى والمضارب والخرابيش والمخيمات والعشوائيات التي نعيش فيها تعيش فينا أيضا. حتى لو لم يكن المكان مسقط رأسك، يعيش المكان فيك إذا عشت فيه، وكان لك فيه ذكريات، خاصة إذا كانت جميلة.
بدأت العيش في عمان منذ عام 1968، واستمر ذلك حتى 1974. في تلك الفترة عرفت عمان مدينة وادعة، لا يخلو بيت فيها من عريشة دالية أو شجرة مثمرة أو عرق أخضر لأشجار ثمار أو أزهار. ثم تركت عمان فترة أطول من التي أقمتها فيها. وعندما عدت إليها في عام 1985، كانت مدينة غير التي تركتها، وصار هناك عمان غربية وأخرى شرقية.
قضيت حوالي عامين في عمّان حاولت خلالهما أن أتأقلم على العيش فيها، ولكن كان واضحا أنها أصبحت مدينة قاسية على الكثير من أهلها، فرواتب الوظائف لا تتناسب مع متطلبات العيش. ثم جاءتني فرصة عمل في لندن، فغادرت عمان ثانية، وصارت لندن مكان إقامتي الدائمة.
هذا العام (2013) زرت عمان في شهر أيلول/سبتمبر. أقمت في حي تابع للجزء الشرقي من المدينة، ولكن في منطقة مبانيها حديثة العهد، ومعظمها مباني شقق سكنية مكونة من أربعة طوابق فوق الأرض، وقد يكون عدد الطوابق أكثر إذا شيد المبنى على قطعة أرض مائلة، وهذا الغالب، لأن عمان أقيمت على منطقة تلال ليست شديدة الارتفاع.
الشيء الذي لا يتوقف في الأردن حركة بناء البيوت والشقق السكنية. قد تصاب بركود من حين لآخر، ولكني أرى المزيد من المباني في كل زيارة، وأمني النفس دائما بمشاهدة حديقة عامة، أو متنزه صغير في الأحياء السكنية الجديدة، ولكني أتمنى وهما. ورشات البناء تراها في كل مكان، وكذلك لوحات الإعلان عن شقق فخمة للبيع.
من الأشياء الجميلة في عمان، ولا تزال لا تكلف شيئا، النسمات التي تهب بعد العصر وفي المساء. مشوار في مثل هذا الوقت ينعش القلب والروح. كان لي كل يوم مشوار مشي في الشوارع بين البيوت. سرني هذه المرة أن أرى وأعايش بعض ما كنت أعرفه عن بيوت عمان والحياة فيها.
أحصيت في مشاوير المشي اليومي عددا لا بأس به من عرائش الدوالي موجودة في بعض البيوت المستقلة، أو في حدائق تابعة للشقق الأرضية، وبعضها يظلل الموقف المخصص للسيارة.
اشتهرت في الأردن بعض الأغاني التي تتغني بالدالية (الدوالي) والعنب. واحدة من هذه الأغاني تغنيها سلوى، ولحنها جميل العاص وتقول:
بين الدوالي = = في الكرم العالي
يا محلا (ما أحلى!) السهرة = = والبدر يلالي
(يمكن مشاهدة/الاستماع للأغنية هذه وغيرها على يوتيوب).
وهناك أغنية أخرى لم أعد اذكر من غناها، وجزء منها يغني في الأفراح، أثناء زفة العريس، واذكر منها:
تلولحي يا دالية،
يا ام الغصون العالية
وأغنية ثالثة لا اذكر أيضا من كان يغنيها:
دوالي، دوالي يا عنبي
دوالي يا صغير
ومن المعروف عن العنب أيضا ارتباطه بمدينة الخليل في فلسطين، وكان لذلك أغنية غنتها كروان دمشق، ولحنها الملحن الأردني توفيق النمري، تقول:
خليلي يا عنب
طعمك حلي لي يا عنب
أصلك خليلي يا عنب
والعلاقة الوثيقة بين الخليل والعنب أشار إليها الشاعر عز الدين المناصرة الذي حمل أحد دواوينه عنوان "يا عنب الخليل"، وقال في قصيدة أعطت الديوان عنوانه:
عنب دابوقيّ كنعانيّ شفَّاف كغلالة عذراء
كقناديل بنات النعش الفضيّ
يتدلّى فوق سحاحير الفجر ملاكا يغرق ﻓﻲ النوم
عنب يتدلَّى أحيانا مثل الأكفان
حين نبيعك، يمتلئ القلب بحزن أبديٍّ،
يمتلئ الجيب بخسران
فبأي طريق نحميك من البهتان
(...)
تظل تنوح ما ناح الحمام على سواقي الحب،
فوق ضفائر الزعرور
ﻭﻓﻲ المذياع، أصوات، علامات أثيريّة:
خليلي أنت يا عنب الخليل الحرّ لا تثمر
وإن أثمرت، كن سمًّا على الأعداء، لا تثمر
ومررت في مشاوير المشي اليومي بعدد لا بأس به من أشجار الياسمين المزهرة التي تزرع غالبا قرب باب البيت. ومثل العنب والخليل، هناك ارتباط بين الياسمين والشام (دمشق). وأشار ابن الشام، الشاعر الراحل نزار قباني، في قصائده إلى ذلك فقال في واحدة:
للياسمـين حقـوق في مـنازلنـا
وقطَّة البيـت تغفـو حيـث ترتـاح
طاحونة البنِّ جزء مـن طفـولتنـا
فكيف أنسـى وعطـر الهيل فوَّاح
وفي قصيدة أخرى يذكر فيها مناطق مختلفة ، من بينها الجامع الأموي، قال:
تأخذني حالة من التجلي والانخطاف
فأصعد درجات أول مئذنة تصادفني
مناديا:
"حي على الياسمين"
"حي على الياسمين"
وغنى ملحم بركات في الماضي أغنية يقول فيها:
ع الشام وديني يا نسمة تشرين
بالغار لفيني بالفل والياسمين
ع ترابها الأخضر
اللي ريحته عنبر
غنيلا (أغني لها) واسهر يا ليلي يا عين
والمختلف في شوارع الحي الذي أقمت فيه عن شوارع عمان القديمة زرع أشجار الزيتون على الأرصفة. كانت مثمرة وفي أوجها. ولأنها أشجار على الشارع، ذهب وسيذهب الزيتون هباء مع أنه وزيته من الأكلات الأساسية في الأردن.
قبل يوم العودة إلى لندن، خرجت في الصباح حاملا كيسا بلاستيكيا صغيرا اسود، وعلى مسار مشوار المشي اليومي، توقفت عند العديد من شجرات الزيتون المزروعة على الأرصفة خارج البيوت، وقطفت من هذه عشر حبات، ومن تلك عشرا أخرى. كانت بعض حبات الزيتون تسقط إذا اهتز الغصن قليلا، وهذا يدل على أنها بلغت مرحلة متقدمة من النضج. مع نهاية المشوار كان في الكيس أكثر من كيلو غرام من الزيتون الأخضر.
ولا يزال بائع الكعك ينادي في عمان: "كعك. كعك". الكعك كما كنت أعرفه على شكل إطار دائري، مع السمسم. ويرش داخله الزعتر أو الدقة، وكانا يخلطان بكثير من الملح.
هناك نوع آخر من الكعك، الذي يكون بحجم حبات الخيار الصغيرة، ويخبز إلى أن يصبح صلبا، ويكون محلى أحيانا، وبعضه بالسمسم. ويشترى هذا من المخابز، وليس من باعة متجولين أو على الرصيف. والصغار عادة يغمسونه في كاسات الشاي أو الحليب، فيتشرب السائل ويصبح طريا (يتشتش).
وللنوع الثاني من الكعك شبيه اسمها القرشلّة، وتختلف هذه عن الكعك بأنها محلاة دائما، وتأخذ شكلا مستطيلا.
وثمة نوع ثالث من الكعك، وهو مرتبط بالأعياد، ويكون على شكل حلقة صغيرة ويحشى بالتمر. حبات الكعك (الكحك) هذا قد تزين عجينتها بملقط معدني صغير. ولزيادة الحلاوة، يرش على هذا الكعك المزين سكر أبيض مطحون.
هذا النوع من الكعك لا يفترق عادة عن "المعمول"، الذي يصنع في البيوت أيضا. ويحشى عادة بالجوز والسكر، وأحيانا بالتمر. ولكن الحشوة قد تختلف من بيت لآخر. وتوضع حبات المعمول المحشوة في قالب مزين بأشكال مختلفة، ويطرق القالب على طرفه، فتخرج الحبة مزينة.
وكان الكعك والمعمول يخبزان في أفران (مخابز) تكون في الأحياء السكنية. ولأنهما مرتبطان بالأعياد، تكون الأفران في ذروة الانشغال في موسم الكعك والمعمول.
وهناك النداء بطرق مختلفة لبيع عبوات الغاز، إما بالطرق على الأسطوانة المعدنية، أو بإذاعة نغمة موسيقية من سيارات تجول ببطء في شوارع الأحياء السكنية، كما تفعل سيارات بيع البوظة (الآيس كريم) في بريطانيا وغيرها من الدول.
وهناك الباعة المتجولون بسيارات تبيع الخضار والفاكهة. زيارتي لعمان كانت متزامنة مع موسم مجموعة من أنواع الفاكهة والخضار كالرمان والبلح والأجاص والدراق (الخوخ) والبطيخ والشمام، والكوسا والبامية والملوخية. والأخيرة كانت تباع بعيدانها، ولكن هذه الأيام تباع أوراقها، وتطبخ الأوراق كما هي أو تفرم وتطبخ على شكل حساء. نداء باعة الخضار والفاكهة يكون: " يلا يا بندورة"، أو "يلا يا ملوخية" (وتلفظ في بعض اللهجات منوخية)، أو يلا يا كذا أو كذا.
وهناك أيضا السيارة التي تتجول ببطء ويعلن تسجيل يذيعه السائق أنه على استعداد لشراء القديم من الأجهزة الكهربائية والأثاث: "إلي (الذي) عنده ثلاجات، غسالات، ... للبيع". هذه الظاهرة كانت موضوع حلقة من برنامج فكاهي أردني اسمه "بث بياخة"، إذ تستنفر إدارة وموظفو شركة فنية عند مجيء المطرب "كوكو شنشن" لتسجيل أغنية. وعندما يدخل المطرب الكبير "كوكو شنشن" إلى الأستوديو ليسجل أغنيته، يصدح بأعلى صوته: "إلي عنده ثلاجات، غسالات ... للبيع".
السيارة المتجولة تقدم خدمة مفيدة للسكان، ففي الشتاء تجول سيارات بيع الكاز والسولار للمدافئ. وفي الصيف يكون التركيز على الخضار والفاكهة.
من أهم ما ذكرني بعمان التي تعيش في وعشت فيها أن جيل الألعاب الإلكترونية والإنترنت والهواتف الذكية لا يزال يلعب كرة القدم في الشوارع بين البيوت. ومثلما فعل جيلي في الماضي، اختار بعضهم قطعة خالية ونظفوها من الحجارة وحولوها إلى ملعب كرة قدم. ولكن ملعبهم قطعة أرض خالية بين مبنيين. ومن شبه المؤكد أنه سيقام عليها مبنى عاجلا لا آجلا. وسوف أتأكد من ذلك إثناء زيارتي القادمة لعمان.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
دوالي وياسمين وزيتون وكرة قدم, موسى أبو رياش / الأردن | 25 أيلول (سبتمبر) 2013 - 17:04 1
نص مفاجئ عن عمان بعين رحالة محب يرى حتى في الأشياء البائسة جمالاً وإثارة. ومعظم ما أشار إليه الدكتور عدلي غائبة عنا لفرط ألفتها وعاديتها في حياتنا، ولكن الزائر يراها بعين أخرى.
عمان الشرقية قد تكون الأقل إثارة في عمان، أما الأكثر إثارة وغرائبية في ظني فهي وسط البلد، حيث المسجد الحسيني وسقف السيل وسوق السكر ومطعم هاشم وحلويات حبيبة وكشك أبو علي وغيره من الأماكن والمعالم التي تستهوي حتى أبناء البلد.
ثمة ملاحظة بسيطة أن معمول الأعياد يطهى في المنازل غالباً، وقليل من العائلات من تلجأ إلى الأفران. وبالطبع فكثير من الأفران تصنع المعمول للبيع.
وأخيراً، هل يحق لي أن أعتب على أستاذنا الكبير الدكتور عدلي إذ يزور عمان دون أن يعلمنا بذلك، ونحن قاب قوسين أو أدنى منها؟
أقول بصدق... إن هذه المقالة بقدر ما كانت مفاجئة عن عمان، فهي في المقابل لطمة! سامحك الله!!
دوالي وياسمين وزيتون وكرة قدم, أشواق مليباري\ السعودية | 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 23:02 2
الدكتور عدلي
مضى وقت طويل على آخر زيارة لي إلى هذه المدينة الجميلة، ولأنني زائرة رأيتها بالضبط كما رأيتها أنت.
الشيء الغريب أنني قدمت من بلد حار صحراوي تقريبا، فوجدت في عمان النسمات الباردة المنعشة والخضرة تزين البيوت والشوارع، لكن أنت يادكتور قادم من عاصمة الضباب،الغارقة في الحدائق والشرفات الخضراء المزهرة، فكيف سحرتك عمان؟!
شكرا لك على النص الممتع
تحيتي وتقديري
دوالي وياسمين وزيتون وكرة قدم, زهرة يبرم / الجزائر | 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 15:30 3
كأني تجولت أنا أيضا في عمان إذ وجدت نفسي أعرفها.. هي صور موجودة في كل مدننا العربية، مباني تظهر كالفطر بسبع طوابق أوحتى بأربعة عشر طابقا، الدوالي وحتى رائحة وطعم كعك النقاش..
أما قطع الأرض الخالية بين المباني فلما لا تحول بقرار رسمي إلى ملاعب صغيرة فتكون من نصيب الناشئة يمارسون فيها هوايتهم بكل أمان؟ وهذا ما طبق في مدننا أو مدينتي على الأقل.
نص جميل يلامس النفس لأن فيه كثيرا من العفوية.
دوالي وياسمين وزيتون وكرة قدم, سليمان عقلة حسين رواشده | 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 20:02 4
لقد قرأت هذا الموضوع لأول مرة اليوم2013/11/17 وقد أثار هذا الموضوع الرائع ذكرياتي الطفولية حيث أعشق الياسمين والهيل الذيأشم منه رائحةأمي كما أعدني إلى منتصف السبعينات حيث كنت أعمل في عمان وأتنقل في الشوارع اشم رائحة البنفسج والياسمين....
دوالي وياسمين وزيتون وكرة قدم, وسام أبو حلتم | 4 نيسان (أبريل) 2017 - 16:04 5
عمان مسقط رأسي. لقد أعدتني إلى الوراء ثلاثة وعشرين عاما وأنا أسير بالقرب من والدي رحمه الله في شوارع عمان وسط البلد والساحة الهاشمية أثناء زيارتنا إلى بيوت أعمامي وجدتي في حي نزال أيام العيد.
أعدتني إلى صغري حين ذكرت أغنية "تلولحي يا دالية يا أم غصون عالية؛ تلولحي عرضين وطول؛ اتلولحي ما أقدر أطول" وأهل العريس وأحبابه ينشدونها.
وعندما جئت على ذكر الخليل ضحكت، حزنت لكوني من قرية الدوايمة التي تسكن قضاءه المغتصب الحزين والذي لم أره ولم أتذوق عنبه الخليلي.
وزاد حزني على ياسمين الشام الذي اغتالته أيدي العابثين وهو في بكورة ربيعه.
ذكرتني بأشجار الزيتون التي كنا نزرعها على أطراف الدار وغنمات أبو سعيفان تأكلها ويعلو صراخ أبي رحمه الله، وإذ بك تشدني لأقف على نافذة بيتنا لأشاهد بائع الكعك وهو ينادي الكعكة (بشلن)؛ شكلها بيضاوي. كنا نحشوها بالجبن أو الزعتر.
ذكرتني بكعك الشاي المحلّى الذي ما زال ليومنا هذا وأبتاعه لأطفالي. كنا نتشاجر أنا وأخوي أمجد وباسم على بقاياه المليئة بالسمسم المحلّى، وكعك العيد المحشو بالتمر والجوز، وسهر أمي وهي تعده ليلة العيد (الوقفة). كدت أشتم رائحته وأنا أقرأ ما ذكرته عنه، وكيف جئت على ذكر بائع الغاز وباعة الخضار المتجولين الذين لا زالوا إلى يومنا هذا.
لكن أود أن ألفت انتباهك أيضا أنه في أيام صغري كان هناك حافلة بيضاء تبيع المثلجات وتضع شريط موسيقي لمعزوفة بتهوفن شهيرة.
ذكرتني ببائع الكاز والسولار الذي كان يجر عربته حمار حزينا تحت أمطار الشتاء.
تحدثت عن الملاعب الرملية التي كنا نمهدها ونمشطها بمشط الأرض لكي نلعب فيها، والآن أصبحت إسكانات وعمارات منمقة بنيت تحت إشراف هندسي.
شكرا لحرفك الذي نبش ذاكرتي الطفولية. شكرا بكل بمعنى الطفولة..
وسام أبو حلتم